الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الصراع على الله!

الصراع على الله!


فى قراءة «تأويلية» للنص القرآني؛ واتت الأستاذ الإمام «محمد عبده» الجرأة؛ لأن يقول إن مفاسد «تعدد الزوجات» (المُباح شرعًا) أكثر من المصالح المتحصلة منه(!).. رأْيُ الأستاذ الإمام كان صادمًا فى حينه لكل من اتخذ من النص «المُقدس» تُكَأَةََ ليطلق العنان لغرائزه، ويحظى بأكثر من زوجة.
لم يقرأ «محمد عبده» قوله تعالى: }وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِى الْيَتَامَى. فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى. وَثُلَاثَ وَرُبَــاعَ   بمعزلٍ عن بقية الآية القرآنية.. بل وصلها (كما يقتضى النظم السليم للآية) بما بعدها: }فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْــدِلُوا فَوَاحِدَةً    (النساء: 3).
قال الأستاذ الإمام: فمن تأمل الآيتين عَلم أنّ إباحة تعدد الزوجات فى الإسلام أمرٌ مُضيق فيه أشد التضييق، كأنه ضرورة من الضرورات التى تُباح لمحتاجها بشرط الثقة بإقامة العدل والأمن من الجور (الأعمال الكاملة - الجزء الخامس - دار الشروق، ص ص: 163، 164).
إقامة العدل والأمن من الجور، هنا؛ شرطٌ يكاد يكون مُستحيلاً.. يقول رب العزة فى السورة ذاتها: }وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ   (النساء: 129).
الخطاب القرآنى - هنا - يقطع بالنتيجة: العدل بين الزوجات (شرط التعدد) لن يتحقق مهما كان الحرص.. لكن.. النَّص، أيضًا، كان يُخاطب مجتمعًا اعتاد على «التعدد»، و«التسرى».. راعَى «النص» - إذًا - أوضاعًا اجتماعية كانت سائدة فى حينه.. وليس من الضرورة أن تناسب عصورًا تالية.
أدرك الأستاذ الإمام (أنبه، وأجرأ أبناء الأزهر الشريف) أنّ القراءة «التأويلية» للنَّص؛ يجب أن تُراعى الأبعاد، والظروف المجتمعية (المُنشئة للنَّص) من حيث الأصل.. فالشرائع تُبنى على المصالح، والظروف، والأحوال.. فإن تضررت المصالح، وتغيرت الظروف، وتبدلت الأحوال؛ وجب إعادة قراءة النَّص فى ضوء المتغيرات الحديثة (بما يقتضيه «البرهان» العقلى).
لذلك قال «محمد عبده» - بلا مواربة - فى سياق تفسيره لآية التعدد: «إذا تأمل المتأمل مع هذا التضييق ما يترتب على التعدد فى هذا الزمان من مفاسد جزم بأنه لا يُمكن لأحد أن يُربى أمة فشا فيها تعدد الزوجات».

يُمثل «إعمال العقل» (وقياس الظروف المُنشئة للنَّص)، فى استنباط الأحكام (منهج الأستاذ الإمام) فى دلالته، جوهر الإسلام فى صورته الخالصة.. لم يبتدعه الأستاذ الإمام ابتداعًا.. بل جارَى فيه كبار فقهاء «صحابة النبى».. فعله من قبل «عمر بن الخطاب» فى عام الرمادة عندما أوقف العمل بحد السرقة، وكررها ثانيةً عندما أوقف سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة (إذ كان المسلمون فى حال ضعف وقت ظهور النَّص «المؤسس» للسهم).. وكررها ثالثةً؛ عندما أباح بقاء المرأة المسلمة على ذمة زوجها المُشرك (إذ إنه أملك ببضعها ما لم تخرج من مصرها)، رغم نَص التفريق (الظاهر) بسورة الممتحنة.. وفى المسألة «الأخيرة» - على وجه التحديد - وافقه، أيضًا «على بن أبى طالب».
ما فعله الأستاذ الإمام؛ هو أنه وضع منهجًا (حقيقيًّا) لتجديد الخطاب الدينى استقاه من بين بطون المنتج «التراثى» ذاته.. وكانت الأزمة «الفعلية» لتطور هذا المنهج فى حِقبٍ تالية؛ هو أنّ «منهج التجديد» قوبل بالتبديد.. ووجدنا من يُقدس فتاوَى (ماضوية) أكثر انغلاقًا، و«جمودًا» ويُفضلها على إعمال عقله فى فَهْم «النَّص» من جوانبه كافة.
ولعل أبرز ما كشفت عنه «الحالة الجدلية» التى أفرزها تأييد «دار الإفتاء التونسية» لطلب الرئيس التونسى «قايد السبسى» بالمساواة بين المرأة والرجل فى الميراث، واعتراض بعض مشايخ «المؤسسة الأزهرية» على هذا الأمر باعتباره مُخالفًا للنَّص القرآنى.. هو أننا بتنا أمام فرقٍ شتى لا يُجيد أحدها الاستماع للآخر.. كُلٌ منها يرى فى نفسه أنه أولى بـ«الله» من غيره.. يتصارعون على احتكار «وحى السماء» من دون غيرهم.. إذ حلّ «التلاسن» محل دراسة اجتهاد الآخر.
ففى ضوء المتعارف عليه (فقهيًّا)؛ يُدرك كل دارسى «فقه المواريث» أن ثمة ثلاثة معايير «أساسية» تحكم تحديد الأنصبة:
أولها: درجة قرابة الوارث (ذكرًا أو أنثى) وبين المتوفًّى.. فكلما اقتربت الصلة؛ زاد النصيب من الميراث.
وثانيها: تتابع الأجيال الوارثة.. فالفروع - غالبًا - التى تستقبل الحياة وأعباءها (الأبناء والأحفاد فى الوصية الواجبة)؛ عادة ما يكون نصيبها أكبر من أجيال الأصول «المُستدبرة للحياة» (بنت المتوفَّى ترث أكثر من أمه، وأبيه أيضًا).
وثالثها: ما استقر الفقهاء على توصيفه بـ«العبء المالى».. فإذا تساوت درجة القرابة، واتّحد الجيل (الابن والابنة نموذجًا)، نظروا إلى أكثرهما مشقة فى تحمل الأعباء المعيشية؛ ليصبح نصيبه هو الأكبر.

بحسب المعيار الثالث - على وجه التحديد - فسّر الفقهاء قوله تعالى: }يُوصِيـكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ (النساء: 11).. وقالوا إنّ التفاوت فى الأنصبة هنا يرجع إلى أنّ الرجل يتحمل بطبيعة الحال أعباءً مالية أكبر من الأنثى.. إذ إنّ الرجل مُطالب بالإنفاق على زوجته وأبنائه، بينما «الأنثى» يُنفق عليها من زوجها.
والحق أقول: إن هذا التفسير يحتاج إلى إعادة نظر (حقيقية) من قبل المتمسكين به، إذ يُغلق الباب أمام أى محاولات «مغايرة» لقراءة النص، ولا يلتفت للعديد من المتغيرات الاجتماعية التى وضعت كثيرًا من نساء «العالم الإسلامى» موضع المسئولية والإعالة.. كما يتجاوز كثيرًا ثوابت المنهج «التجديدى» الذى وضعه الأزهرى النابه «محمد عبده»، الداعم لقراءة النَّص فى سياق الظرف التاريخى الذى جاء فيه.
يقول الأستاذ الإمام: }لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ       : جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب، واختير فيها هذا التعبير للإشعار بإبطال ما كانت عليه الجاهلية من منع توريث النساء.. فكأنه (أى: المولى عز وجل) جعل إرث الأنثى مقررًا معروفًا، وأخبر بأن للذكر مثله مرتين، أو جعله (أى: إرث الأنثى) هو الأصل فى التشريع.. وجعل إرث الذكر محمولاً عليه، يُعرّف بالإضافة إليه.. ولولا ذلك لقال: «للأنثى نصف حظ الذكر»، وإذ لا يفيد هذا المعنى ولا يلتئم السياق بعده كما ترى.
ومعنى الكلام.. أنّ النَّص «المؤسس» جاء ليغير واقعًا مستقرًا فى الجاهلية كانت تُحرم خلاله المرأة من الإرث تمامًا، ويستحوذ فيه الرجل على مال أبيه.. ومن ثمّ.. جعل الشارع «إرث الأنثى» هو الأصل، و«إرث الذكر» لاحقًا عليه.
جاء النص - إذًا - ليعدل وضعًا مغلوطًا داخل المجتمع القبلى، ويمنح «المرأة» جانبًا من حقوقها المهدرة.. جاء النص ليحدث التغيير.. والتغيير تبعه تغيير.. والتغيير يقتضى تطوير الاجتهاد والنظر.. لا المصادرة والتلاسن، و«الصراع على الله»، واحتكار فَهْم وحى السماء.. يقتضى من الفريقين أن يدرس كلُّ منهما وجهة نظر الآخر من دون تشنج.
ومن ثمَّ.. لا ننحاز فيما كتبنا لوجهة نظر من دون الأخرى.. لكنها.. ملاحظات (عقلية) على «المنتج الفقهى» (المستقر عرفًا) أردنا أن نطرحها للنقاش العام.. إذ يبقى «التفكير» - ما حيينا - فريضة إسلامية «واجبة» على كل من يحمل فى صدره «القرآن»، وروح نصوصه.