الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الجيش والسياسة.. والحكم

الجيش والسياسة.. والحكم


داخل حقل العلاقات «المدنية/ العسكرية»؛ يُفضِّل عديدٌ من الباحثين المتأثرين بـ«التخريجات السياسية الغربية» أن يفرقوا بين نموذجين من تلك العلاقات.. الأول؛ مُتعلق بالسياق (المدني/ العسكرى) فى البلدان الغربية، والثاني؛ مُتعلق بالسياق نفسه فى بلدان العالم النامى (!)

إذ تبدو تلك التفرقة (المبدئية) فى كثير من الأحيان؛ مثيرة لشهية التحليلات (من الناحية النظرية).. لكن واقعيًّا (أى: على المستوى التطبيقى) لا يُمكن لتلك «التحليلات النظرية» أن تُفسر تأثير مؤسسات الغرب (العسكرية) ذاتها؛ على رسم «السياسات الغربية».. فقط.. يُمكن لتلك التحليلات أن تضع لعملية «التأثير» تلك عددًا من السياقات «التخريجية» المقبولة إلى حدٍّ ما (سياسيًّا) أمام نشطاء الحركة الديمقراطية.. إذ غالبًا ما تتمركز تلك «التخريجات» (بالنسبة للمجتمع الغربى) حول نموذجين رئيسين:
الأول: وضعه «صموئيل هنتنجتون» فى كتابه: (الجندى والدولة)؛ إذ صاغ «هنتنجتون» فى ذلك الكتاب مصطلح: «السيطرة الموضوعية» (Objective Control)، بما يعنى ترك «الجيش» من دون تدخل من قبل «السلطات المدنية»؛ حفاظًا على «احترافيته»، إذ يكفل - تلقائيًّا - الحد من التدخل المدنى فى الشئون العسكرية؛ الحد من التدخل العسكرى (المقابل) فى الشئون السياسية.
.. والثاني؛ وضعه «موريس جانويتس» فى كتابه: (الجندى المحترف)؛ إذ صاغ «جانويتس» فى ذلك الكتاب مصطلح: «السيطرة الذاتية» (Subjective Control).. بما يعنى أن دمج «الجيش» فى الحياة السياسية؛ هو النموذج الأمثل للحد من التدخلات العسكرية؛ تأسيسًا على أن هذا الدمج من شأنه إظهار توجهات الأطراف كافة، على السطح.
وفيما يعجز النموذجان السابقان.. أى نموذج «منع التدخلات المدنية فى الشأن العسكرى» (نموذج هنتنجتون)، ونموذج «التقاطع العسكري/ المدنى» (نموذج جانويتس)، من الناحية الواقعية، فى تفسير التحركات السياسية للمؤسسات العسكرية الغربية (فضلاً عن برامجها «السريّة» الممتدة خارج حدود تلك الدول نفسها).. يبدو السياق «النظرى» هو الأقرب لتلك الأطروحات، من دون غيره.. إذ لم يحد أيٌ منهما - بالفعل - من تدخل تلك المؤسسات فى رسم السياسات الغربية (خصوصًا فى نطاقها الدولى)، رغم أنّ كُلاًّ منهما له أثره (بطريقة أو بأخرى) داخل العديد من تلك الدول، بدءًا من «الولايات المتحدة الأمريكية»، وانتهاءً ببعض بلدان القارة العجوز (أوروبا).
أى أنَّ المؤسسات العسكرية لتلك الدول (الديمقراطية!)؛ لم يقتصر نشاطها (يقينًا) على الحفاظ على الأمن الخارجى لدولهم فقط، والدفاع عنها ضد أى عدوان خارجى.. بل امتدَّ إلى التداخل (بشكل كامل) مع رسم السياسات الداخلية (والخارجية؛ أيضًا) لتلك الدول.. وذلك إما بالمشاركة فى دعم «أشخاص» أو أحزاب سياسية بعينها؛ للوصول إلى سدة الحُكم (داخليًّا).. وإما عبر تأسيس برامج «سرية» متنوعة؛ لتغيير أنظمة دولية أخرى (خارجيًّا)، أو الحفاظ على استقرار بعضها؛ لحساب «المصالح الاستراتيجية» لتلك الدول.. فضلاً عن تأسيس العديد من المراكز البحثية، و«بيوت التفكير»، وتمويلها بسخاء؛ من أجل الهدف نفسه (البنتاجون نموذجًا).
  
وفى مقابل سياسات الحفاظ على المصالح الاستراتيجية للبلدان الغربية «خارجيًّا» (سياسات الهيمنة الجديدة)، التى تتشارك فى وضعها المؤسسات العسكرية (الغربية)؛ تبدو جيوش بلدان العالم النامى (من الناحية الأكثر ظهورًا) أكثر تداخلاً مع الحياة السياسية، من نظيرتها الغربية.. إذ تنشغل تلك «الجيوش» بمهام إضافية فوق مهامها الدفاعية (المعتادة)، مثل: الحفاظ على استقرار «كيان الدولة» الداخلى، ودعم «البنية الأساسية»، والتنمية، إلى جانب ضبط إيقاع «الحياة الاقتصادية».. أى يقع على عاتق تلك «الجيوش» مهمتان: الدفاع عن «الأمن الوطنى»، و«الأمن القومى» فى آن (!)
وفيما بات من المُسَلمات «الغربية» (فى الوقت الحالى) أنَّ إثارة أى انتقادات سياسية لـ«الجيوش» من الأمور المحظورة؛ خصوصًا فى أوقات الحروب (أى: داخل البلدان الديمقراطية!)؛ تجنبًا للنَّيل من الروح المعنوية لجنودها، وأفرادها، وقياداتها.. يُمكننا - بوضوح - أن نميز أن حالة الوعى بأهمية الحفاظ على الروح المعنوية للجيوش (غائبة) إلى حدٍّ ما؛ عن عديد من المتصدين للدور السياسى للجيوش ببلدان العالم النامى (خصوصًا داخل المنطقة العربية).
وهو موقف يحتاج، بالتأكيد، إلى أكثر من وقفة.. الوقفة الأولي؛ تتعلق بالارتقاء بمستوى «النضج السياسى» لمواطنى تلك البلدان.. أما الوقفة الثانية؛ فتتعلق بتفنيد حالات استثمار «حالة عدم النضج» السابقة (وتوظيفها) من قِبَل قوى الهيمنة الجديدة؛ للنَّيل من عزيمة جيوش المنطقة، وحصرها رهنًا لحالة من الاستنزاف الجماهيرى، تحول دون إتمام دورها فى الدفاع عن «الأمن الوطنى» لبلدانها (داخليًّا).. فضلاً عن عملية استهداف «الجيوش» نفسها (بنيويًّا) بما يحول بين قيامها بمهمتها «الرئيسة» فى الدفاع عن «الأمن القومى» لبلدانها (خارجيًّا).
وهما وقفتان يُكمل بعضهما بعضًا.. فعندما توضع تفنيدات عمليات التوظيف والاستثمار لحالات «عدم النضج السياسى» من قِبَل قوى الهيمنة الغربية (بشكلٍ واعٍ) أمام الرأى العام؛ يُسهم هذا التفنيد فى الارتقاء تدريجيًّا بمستوى النضج السياسى لدى المتصدين لهذا الدور بالتحليل.
  
فواقعيًّا.. ومنذ أن أطاحت «ثورة الجيش المصرى» بحكم الملكية فى 23 يوليو من العام 1952م، وما أحيته تلك الثورة من روح طاغية لـ«القومية العربية»، وما أفرزته تلك «الثورة» من امتدادات إقليمية للدور المصرى (خصوصًا فى عهد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر)، وما تخلل تلك الحقبة من دعم ثورى (مصرى) لقوى التحرر بالعالم العربى.. ظل هذا الأمر (وحتى وقتٍ قريب) محلاًّ لاستهداف قوى الهيمنة (الغربية)؛ لتقويض نمو هذا الدور على أكثر من مستوى، وحقبة تاريخية.. أى منذ «الجمهورية الأولى»، وحتى «الجمهورية الرابعة».
وواقعيًّا، أيضًا.. لا تنفصل عمليات الاستهداف «السابقة» عن عديد من السيناريوهات (المُعدة سلفًا)؛ لوضع دول المنطقة فى حالة من «السيولة» الداخلية.. وهى سيناريوهات تَحقَّق جزءٌ كبيرٌ منها على أرض الواقع؛ إذ كانت تستهدف تلك السيناريوهات إعادة تشكيل أوضاع المنطقة (سياسيًّا، وعرقيًّا، ومذهبيًّا)؛ بما يخدم المصالح الاستراتيجية الغربية فى المقام الأول (ومصالح الدولة العبرية؛ أيضًا).. إلى جانب تفكيك كياناتها العسكرية «الكبرى»، بدءًا بالجيش العراقى، ووصولاً للجيشين: الليبى، والسورى.
ولعله لم يكن من قَبِيل المصادفة (على الإطلاق) أنَّ كل تلك «الجيوش» كانت نتاجًا مباشرًا لحالة «المد القومى» الذى أفرزته ثورة يوليو.. كما أنه من نافلة القول، إعادة التذكير بأنَّ مشروع توجيه أول ضربة عسكرية للجيش العراقي؛ خرج من بين أدراج وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) فى التسعينيات (فى عهد بوش الأب)، وتم تنفيذه فى عهد «بوش الابن» على يد واضعه (ديك تشينى).. وأن مشروع إسقاط النظام السورى، وإضعاف جيشه، عبر غض الطرف عن تأسيس إمارة «سلفية جهادية» داخل المنطقة الحدودية الواقعة بين العراق وسوريا (أى تنظيم داعش)، قد أخذ «الضوء الأخضر»؛ من حيث الابتداء، من قبل وكالة الاستخبارات الدفاعية الأمريكية (D.I.A).. وأن عملية التدخل العسكرى فى ليبيا تمت عبر تنسيق مباشر بين «البيت الأبيض» وشركاء واشنطن الأوروبيين؛ على أكثر من مستوى.
  
يقتضى ما نبهنا إليه آنفًا من ضرورة الارتقاء بـ«الوعى العام» حول أهمية الدور الوطنى الذى تلعبه «الجيوش» فى ضبط إيقاع الحياة السياسية بالمنطقة العربية (فضلاً عن الدور الاقتصادى المُلقَى على عاتقها)، وعدم النَّيل من الروح المعنوية لأفرادها؛ المزيد من المكاشفة باستمرار حول تلك المشروعات (ومستهدفاتها).. إلى جانب الحفاظ على البقية الباقية من المشروع القومى العربى.. والتنبيه، بشكل مستمر، على أن عوامل الحفاظ على «طابع سلطة الدولة»؛ يقتضى تماسك تلك الجيوش من الداخل، وترسيخ حالة الالتفاف الشعبى حول تلك الجيوش.
وفى الحقيقة؛ فإن الجيوش هى أكثر «المؤسسات الوطنية» تطورًا من ناحية «التكامل القومى»، وأكثرها نجاحًا (بحسب العديد من الشواهد) فى التخلص من الأصول «غير الوطنية» (الدينية/ الإثنية/ الطائفية... إلى آخره)؛ إذ يعد الجيش هو البوتقة (الأساسية) التى ينصهر داخلها كل تلك الأصول؛ من أجل تشكيل «ولاء أعلى» للوطن وحده.
وإن كان هذا الأمر - فى حد ذاته - من السمات الأولى التى تُميز «الجيش» (بطبيعة تكوينه) عن غيره؛ فإن الحفاظ على وضعية وصورة المؤسسة (الأهم) فى بنيان الدولة، وصورتها فى الذهنية العامة، هى قوة الدفع الرئيسة لكى تواصل تلك المؤسسة دورها الوطنى بلا شوائب، أو منغصات.
ولعل «ثورة يوليو» كانت أحد أهم الانعكاسات المباشرة لهذا الأمر فى الحياة السياسية المصرية؛ إذ ارتقت بالشعور الوطنى العام إلى أقصى درجاته.. ونجحت فى حشد الجماهير من خلفها دعمًا للمشروعات القومية الكُبرى.
وفيما يحلو لبعض باحثى المراكز البحثية الغربية (كارنيجى نموذجًا) توصيف حالة التغيير التى أحدثتها يوليو بأنها حالة (تغيير من أعلى).. إلا أنّ الواقع يقول غير ذلك.. فأعضاء مجلس قيادة الثورة (12+1) لم يكونوا - فى الأغلب - من الفئة العليا مجتمعيًّا.. كما لم يكونوا من أصحاب «الرتب العليا» داخل الجيش نفسه.. أى أن تحركهم كان تعبيرًا عن تطلعات شعبية (متنوعة)؛ كانت فى حاجة لمن يعبر عنها فى حينه.. ومن ثمّ.. أتى الالتفاف حول يوليو وثوارها سريعًا.
.. وعبر خبرات الماضى (الثورية).. ودروس الحاضر (السياسية)؛ يبقى «الجيش المصرى» هو الحصن (الأول والأخير) للدولة.. وحجر الأساس فى بناء الأمن القومى العربى. 