السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
بالوقائع والتفاصيل: كيف سيطرت «المخابرات الأمريكية» على «ترامب».. فى 75 يومًا!

بالوقائع والتفاصيل: كيف سيطرت «المخابرات الأمريكية» على «ترامب».. فى 75 يومًا!


بين الأروقة المؤدية لغرف «صناعة القرار الأمريكي» المغلقة (خلال الأشهر الثلاثة الأولى لحكم ترامب)؛ كانت تفاصيل إعادة إخراج «المشهد العالمي» بصورة مختلفة عما كانت عليه الصورة فى عهد «أوباما»، هى نقطة الارتكاز الرئيسة.. إذ لم يكن أغلب جوانب الصورة، التى عكستها، حينئذ «وسائل الإعلام»: (الأمريكية/ الأوروبية/ العربية) عن «الحالة الصدامية» المبكرة بين القادم الجديد للبيت الأبيض (أي: دونالد ترامب)؛ ومؤسسات الدولة الأمريكية (العميقة) على القدر «الكامل» من الدقة (!).. كانت (وفقًا للعديد من الشواهد، والأحداث التالية) انطباعية إلى حدٍّ بعيد.

كما لم ينتبه العديد من تلك «المتابعات الإعلامية» (فى سياق «الفرضيات» الممكنة) إلى احتمالية وجود العديد من الخطوات «الحذرة»، التى تتبعها مؤسسات «القلب الصلب» فى واشنطن، نفسها؛ للوقوف على أهم ملامح خريطة «الارتباطات» الدولية الجديدة؛ خصوصًا بعد أن باتت «الإدارة الديمقراطية» السابقة (أي: إدارة أوباما) فى مرمَى عديد من الاستهدافات السياسية (الدولية، والداخلية) بشكل مباشر، مما عرّض- بالتبعية - مصالح «واشنطن» الاستراتيجية بعديد من مناطق نفوذها لكثيرٍ من الاختراقات «المتتابعة» (التوغل «الروسي» بملفات الشرق الأوسط، نموذجًا).
 وخروجًا من حيز «الاحتمالات» إلى حيز «الأدلة»، و«الشواهد»؛ يُمكننا (استرشادًا) الانطلاق من تلك الأنباء، التى تطايرت، مبكرًا (أي: قبل دخول «ترامب» للبيت الأبيض)، عبر العديد من «التقارير الإخبارية»، حول أنّ «وكالة الاستخبارات المركزية» (C.I.A) كانت ضالعة فى اتهام الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» بأنّ وصوله إلى موقعه تمّ عبر تدخل «موسكو» فى نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية (!)
ورغم أن تلك الأنباء أحدثت «ضجة» فى حينه؛ فإن تلك «الضجة» تهاوت بهدوء، فيما بعد.. إذ نجحت الوكالة الاستخبارية (الأشهر) فى أن تُبرِّئ ساحتها أمام الرئيس الأمريكى الجديد، بعد أن أوضحت له (أي: الوكالة) أنّ «تقرير الاتهام» صدر - ابتداءً - عبر «شركة استخبارات خاصة»، يقودها ضابط سابق بـ«جهاز الاستخبارات البريطانية»(MI6) وأنهم لا علاقة لهم بالأمر  [أو بالتقارير الإعلاميّة، التى أشارت إليه]، من قريب أو بعيد (!).. وبين «الضجة» الإعلاميّة وخفوتها (بطريقة لم تحظ بـ«الضجيج» نفسه!)؛ يبدو سؤال: [لماذا كان كل هذا الصمت، فى حينه؟!] منطقيًّا؟
لكن.. ربما يأتى شيءٌ من «الإجابة» عبر ما فعله «ترامب» نفسه، بعد دخوله «البيت الأبيض» مباشرة؛ إذ كان أول ما فعله، هو زيارة مقر «وكالة الاستخبارات المركزية» ذاته.. وبين أروقة «لانجيلي» (حيث «مقر الوكالة») أعلن «ترامب» دعمه الكامل لـ«وكالة الاستخبارات المركزية»، وأنشطتها بنسبة 1000 % (ألف بالمائة!).

وعبر العديد من «الأحداث» التالية لزيارة «ترامب» لمقر «وكالة الاستخبارات المركزية»، يُمكننا - كذلك - ملاحظة أنه كان ثمة محاولة [من قِبل مؤسسات «القلب الصلب» الأمريكية] لاستثمار «الحالة الجدلية» التى أنتجها فوز «ترامب» بالرئاسة الأمريكية [ومن خلفه فريقه الرئاسي]، فيما قبل «لملمة» الأمور مرة أخري؛ إذ مثّل قمة هذا الاستثمار ما بدا - فى حينه - من قرارات [غير متوقعة] فى التشكيل الأول لمجلس «الأمن القومي» الأمريكي.
فالرجل (أي: ترامب)؛ قال إن من بين أولوياته «محاربة الإرهاب»، والقضاء على «تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام» (داعش).. ومع ذلك.. عندما اتخذ قراره بتشكيل «مجلس الأمن القومي» [مع نهايات يناير (كانون الثاني) من العام الجاري]، كان أن خفّضَ من تمثيل ضلعين «رئيسين»، يقتضى وجودهما (كأعضاء دائمين بالمجلس) تنفيذ هذا الهدف من حيث الأصل [وغيره من شئون الأمن القومي].. إذ استبعد كُلاًّ من: رئيس هيئة الأركان [الذى يمتلك تفاصيل تحرك القوات على الأرض!]، ومدير الاستخبارات القومية  (DNI) الذى يتولى التنسيق بين أجهزة المعلومات المختلفة!].. وخفّض رتبة مشاركتهما «درجتين» لا درجة واحدة؛ إذ تم تحويل عضويتهما من «عضوية دائمة» إلى «مشاركة وقت الحاجة».. كما استبعد - على خلاف المعمول به - «وزير الطاقة» من تشكيل المجلس، رغم أن العديد من المصالح الاستراتيجية الأمريكية [الخارجية] تُراعى فى كثير من الأحيان متطلبات «المصالح البترولية» بالعديد من مناطق العالم (المنطقة العربية نموذجًا).. ووضع نيابة عن هؤلاء: مساعده لـ«الأمن الداخلى ومكافحة الإرهاب».. ومستشاره للشئون الاستراتيجية «ستيفن بانون» (Stephen K. Bannon)  وهو موقع كان يشغله - فى العادة - عسكريون متمرسون، رغم أن مؤهلات «بانون» فى هذا المجال؛ تكاد تكون محدودة.
وبحسب بعض العسكريين الأمريكيين [سابقين، وحاليين، أيضًا]، فإن أصابع الاتهام أشّارت بقوة نحو أنّ من يقف خلف هذه الخطوة الغريبة، هو مستشار الأمن القومى - حينئذ - مايكل فلين (Michael T. Flynn) الذى تقاعد كـ«جنرال بثلاث نجوم»، بعد أن تم إقصاؤه من موقعه كـ«مدير لوكالة الاستخبارات الدفاعية» فى عهد أوباما.. وأنه (أي: فلين) كان يُعانى - خلال المرحلة الانتقالية بين الإدارتين - من «ارتباك» ملحوظ حول إمكانية أن يلتف على مائدة «مجلس الأمن القومي» من يفوقه فى «الرتبة العسكرية»؛ خصوصًا أنّ هناك اثنين [ممن يفوقونه رتبةً] لايزالان بالمجلس، هما: «وزير الدفاع» [جنرال بأربع نجوم]، و«وزير الداخلية» [جنرال بأربع نجوم، أيضًا].

ويبدو - فى ظل الوقائع التالية - أنّ ما قاله الجنرالات «الأمريكيون» حول دوافع «مايكل فلين» لتشكيل مجلس الأمن القومى بتلك الكيفية [المتصادمة مع المُستقر عليه داخل مؤسسات «الدولة العميقة» فى واشنطن] كان له نصيب كبير من الصحة.. إذ لم يمض أكثر من أسبوعين على تشكيل «المجلس» بتلك الطريقة؛ إلا وكان «فلين» [نفسه] خارج «البيت الأبيض» بشكلٍ يبدو مُهينًا.. إذ أعلن «البيت الأبيض» فى 14 فبراير/ شباط من العام الجارى (أى بعد 15 يومًا، فقط، من تشكيل المجلس!) عن أنّ الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب»، قبل استقالة «مايكل فلين» من موقعه كمستشار للأمن القومى الأمريكي.. وأوضحت وسائل الإعلام الأمريكية أنّ استقالة «فلين» جاءت على خلفية اتصاله بـ«السفير الروسي» لدى واشنطن، بعد استبعاده من «موقعه الرسمي»، فى عهد الإدارة الديمقراطية السابقة (أي: إدارة باراك أوباما).. وهو ما يُعد «جريمة»، وفقًا للقانون الأمريكي، الذى يحظر على [غير الرسميين] التحدث فى الشئون السياسية الأمريكية، مع المسئولين الأجانب.
وفيما مثّلت الإطاحة بـ«فلين» [من قبل الدولة الأمريكية العميقة] الخطوة التنفيذية الأولي؛ لاستعادة زمام الأمور داخل «البيت الأبيض».. كان أن جرى ما بين دخول «ترامب» للبيت الأبيض فى 20 يناير (كانون الثاني)، وقراره بإعادة تشكيل «مجلس الأمن القومي» (NSC) للمرة الثانية فى 5 أبريل (نيسان) الماضي؛ العديد من التغيرات «المحورية»، الرامية لإعادة ضبط إيقاع «الإدارة الجديدة» على بوصلة مؤسسات «القلب الصلب» نفسها.. إذ أعاد القرار الأخير الاعتبار لكل من: «رئيس الأركان»، و«مدير الاستخبارات القومية»، الذى يرأس الوكالات الاستخبارية الأمريكية (17 وكالة)، كما خفّض من وضعية «ستيفن بانون».
.. وبحسب وكالات أنباء دولية؛ اعتبر مستشار الأمن القومى الجديد «هربرت ماكماستر» (H.R McMaster)  هذا الأمر انتصارًا شخصيًّا له؛ إذ أخبر عدد من خبراء الأمن القومى [وثيقى الصلة به]؛ أنه كان يشعر بأنه فى معركة «حياة أو موت» (in a battle to the death)  مع «بانون»، وأعضاء الفريق الرئاسى [الآخرين] بالبيت الأبيض (!).. كما شملت الإضافات التى أحدثها «ماكماستر» بالتشكيل الجديد للمجلس (وفقًا لنيويورك تايمز)، كُلاًّ من: مدير وكالة الاستخبارات المركزية (C.I.A) وسفير واشنطن بـ«الأمم المتحدة».. إلى جانب عودة «وزير الطاقة» مرة أخرى للتشكيل.

وفى الحقيقة.. فإن عودة «وزير الطاقة» مرة أخرى لتشكيل مجلس الأمن القومى الأمريكي، يُنبئ (فى تقديرنا الشخصي) عن بعض جوانب «المشهد الصراعي» بين الأجندات المختلفة فى منطقة الشرق الأوسط (خصوصًا فى شقه الاقتصادى المتعلق بـ«المصالح البترولية» الأمريكية فى العراق).. وهو أمرٌ لا يحظى للأسف (إن حظي، من حيث الأصل!) بعمليات رصد ومتابعة كافية.. فمع بدء «العملية العسكرية» لتحرير «الموصل» مع اقتراب نهايات العام الماضي؛ كتب السفير الأمريكى الأسبق ببغداد «جيمس جيفري» تحليلاً لافتًا فى بعض جوانبه لـ«سايفر بريف» (Cipher Brief) تحت عنوان: [الموصل: معركة واحدة.. وست حملات].. وهو «تحليل» أعاد «جيفري» صياغته فى فبراير (شباط) الماضي، مرة أخري؛ ليتلاءم ومتطلبات «إدارة ترامب».
وقال «جيفري»، الذى كان من أشد المطالبين بالإجهاز على «تنظيم الدولة» (داعش): إنّ الفوز بـ«معركة الموصل»، يُحقق نجاحًا فى ست «حملات» مترابطة، دفعة واحدة، وإن تلك الحملات «الست»، تنقسم إلي: حملتين «عملياتيتين» (Operational) وأربع حملات «استراتيجية» (Strategic) .. موضحًا أنَّ أولى الحملتين «العملياتيتين» [العسكريتين]، هى تحرير «الموصل» من قبضة «داعش» (Liberating Mosul) وثانيتهما: هى السيطرة على حالة الانفلات الأمني» التى ستتبع الانتصار فى هذه المعركة خلال اليوم التالى (Mosul the Day After).. وبالتالي.. فإنّ النجاح فى هاتين «الحملتين»، سيعقبه بالتبعية النجاح فى تحقيق مُستهدفات الحملات الاستراتيجية الأربع «المتداخلة» مع المعركة، وهي: استعادة السمعة العسكرية الأمريكية (Restoration of America Military Reputation) والقضاء على «تنظيم الدولة» (Defeating ISIS) والمصالح «الأمريكية/ العراقية»، والموقف الرادع من «إيران».
وبعيدًا عن الاستغراق فى تفاصيل التحليل الذى كتبه السفير الأمريكى السابق؛ فإن أكثر النقاط تماسًا مع ما أشرنا إليه؛ هو الحملتان الأخيرتان (أي: المصالح «الأمريكية/ العراقية»، والموقف الرادع من «إيران»).. إذ قال «جيفري» فى سياق الحملة الاستراتيجية «الثالثة» [الخاصة بالعراق]: إنّ «معركة الموصل»، وتداعياتها، ستحدد ما إذا كانت البلاد ستبقى متماسكة أم لا؟.. إذ إن المكونات العراقية الثلاثة (أي: العرب السُّنّة، والعرب الشيعة، والأكراد)، كانت تناور بجنودها حول المدينة قبل بدء العملية (أي: عملية قوات التحالف).. وتأسيسًا على هذا الأمر؛ فإن «المعركة» ستحدد ـــ أيضًا ـــ دور «الولايات المتحدة» فى العراق، بعد إقصاء «تنظيم الدولة»، عن البلاد.. فالعراق [بثروته النفطية] ودستوره الحالي، يُشكل طرفًا رئيسًا فى أى «صراع إقليمي» (إيران، و«روسيا» من جهة.. والدول العربية السُّنية، و«تركيا»، و«إسرائيل» من جهة أخري).. ومن هنا.. إذا حافظ العراق على تماسكه، وعلى [توازنه المزعزَع] بين إيران، والولايات المتحدة، والدول السُّنيّة؛ فإن هذا الأمر قد يُسهم فى «وقف انزلاق» المنطقة نحو كارثة: (سنية/شيعية)، ويساعد أمريكا على احتواء إيران.. لكن.. إذا سقط الجنوب العراقى «الشيعي» [الغنى بالنفط] فى يد إيران؛ من شأن الحصيلة المجتمعة بين الطرفين من «نفطٍ»، و«غاز طبيعي» أن تُلقى بظلالها على نفط «المملكة العربية السعودية»، و«غازها»، أيضًا.. وأن يتسبب هذا فى إعادة تنظيم «المنطقة»، وفقًا لما تريده «طهران».
ومن ثمَّ - والقول لنا - يبدو أنّ «الثروات النفطية» بالعراق (والمنطقة العربية، عمومًا)، كانت من بين «المُحفزات» الرئيسة للولايات المُتحدة على قيادة «التحالف الدولي» فى معركة تحرير الموصل.. إذ كان السيناريو «الأكثر إزعاجًا» لواشنطن، هو أن تُصبح «طهران» (المتحالفة مع روسيا)، هى الأكثر تحكمًا فى «ثروات المنطقة العربية البترولية».. وبالتالي.. مال «جيفري» (فى سياق حديثه عن الحملة الاستراتيجية «الرابعة» الخاصة بإيران) إلى إظهار «واشنطن» قوتها فى المنطقة؛ لتحجيم «النفوذ الإيراني».. إذ قال: إنّ «إدارة أوباما» لم تنخرط - من الناحية الفعلية - فى احتواء «إيران» المتحالفة، حاليًا، مع «روسيا».. إلا أنّ «إدارة ترامب» وضعت إيران تحت الرصد، مُعلنة أنها ستتعامل بشكل أكثر خشونة (more (aggressively  مما كانت تفعله «الإدارة» السابقة.. لذا؛ يتوقف النجاح فى تنفيذ هذا الأمر - بالدرجة الأولى - على نجاح «الولايات المتحدة» فى التخلص من بقايا «تنظيم الدولة» فى العراق، وسوريا، عبر بذل مزيد من الاهتمام للتحدى الاستراتيجى الأول (أي: استعادة سمعة «واشنطن» العسكرية).. إذ ستعتبر «إيران» هى الفائزة، إذا لم تستطع «الولايات المتحدة» الاحتفاظ بتأثيرها «السياسي»، وحضورها «العسكري». فى كلٍّ من: العراق، وسوريا (!).. وإذا لم تستطع «واشنطن» تحقيق هذا الأمر؛ فإن الفوز بـ«معركة الموصل» (ومن بعدها: الرقة السورية)، سوف يولد - ببساطة - ردود أفعال «جهادية»، و«داعشية»، من شأنها أن تجعل «المنطقة» فى وضع أسوأ مما هى عليه.

وفى الحقيقة، أيضًا.. لم يكن ما نبّه إليه «جيفري» حول ضرورة التواجد العسكرى الأمريكي، وفرض «واشنطن» لإرادتها السياسية، فى كل من: العراق، وسوريا؛ للحفاظ على مصالحها، ومصالح شركائها «النفطية» بالمنطقة العربية، هو كل ما بدا على السطح، وقتذاك.. إذ يُمكننا رصد «التوجه» ذاته بعدد [ديسمبر (كانون الثاني) 2016م] من فصلية «ديفينس دوسييه» (Defense Dossier) التى يصدرها «مجلس السياسة الخارجية الأمريكي» (أي: العدد الصادر قبل أن يتسلم «ترامب» الإدارة مباشرة).. وهو عدد تعرض بالتشريح [فى خمس دراسات مختلفة] لما تم وصفه بـ«الطبيعة المُتغيرة» للتطرف الإسلامي، وما يفرضه من تحديات فى «الشرق الأوسط» وخارجه، بدءًا من «الحرب السورية» وانعكاساتها العالمية.. ومرورًا بمستقبل «الحرب على الإرهاب»، والاستراتيجيات والارتباطات الأمريكية فى الشرق الأوسط، وكيفية مواجهة المُهددات التى يتعرض لها «الأمن الوطني» الأمريكي.. وانتهاءً بكيف يُمكن للولايات المتحدة، و«حلفائها» هزيمة «تنظيم الدولة»، والمتطرفين الآخرين فى سياق «حرب الأفكار»، أيضًا.
.. وكان من بين ما شملته موضوعات العدد، مقالٌ مُهمٌّ فى مضمونه، حمل عنوان: [إعادة النظر فى التدخل العسكرى الأمريكى بالشرق الأوسط]، كتبه «مايكل آيزنشتات» (Michael Eisenstadt) لم تبتعد بدايته عما نبهنا إليه عن تأثير «الثروات البترولية العربية» على توجهات السياسة الأمريكية بـمنطقة الشرق الأوسط.. إذ استهله «آيزنشتات» بعبارة تقول: [ربما يكون الشعب الأمريكى قد سئم من «الحروب»، التى لا تنتهى أبدًا، فى «الشرق الأوسط».. إلا أنّ المصالح الحيوية للولايات المتحدة تتطلب استمرار تدخلها العسكرى فى المنطقة.. فاحتياطيات المنطقة الهائلة من «النفط»، و«الغاز»، تُعتبر أساسية من «الناحية الاقتصادية» لشركاء تجاريين رئيسيين.. ومن ثمَّ؛ فإن تجاهل دورها على صعيد الانتشار، وكمصدر للاضطرابات و«التطرف العنيف»، و«الإرهاب»، على مسئولية المرء الشخصية.. فمنذ هجمات 11 سبتمبر (أيلول)؛ تعلمت «الولايات المتحدة» درسًا صعبًا، مفاده: إن ما يحصل فى «الشرق الأوسط»، لا يبقى محصورًا فيه].
وأضاف: من هذا المنطلق، يتعين على «صُنّاع السياسة» الأمريكيين (فى ظل الانتشار القائم للإرهاب بالمنطقة)، إعادة تقييم وترتيب الأمور [بما فيها التدخل العسكرى فى المنطقة]؛ بما يُعزّز المصالح الأمريكية فى جزء من العالم، لا يزال يكتسى أهمية حيوية بالنسبة لبلادهم.. وهو ما يعنى تطوير فهم «أفضل» لثقافة المنطقة، وسياستها.. إذ غالبًا ما تتدخل دول الشرق الأوسط فى شئون بعضها البعض، وتسير مع التيار (بمساعدة قوى خارجية، عمومًا) بهدف منع الأعداء من دمج نجاحاتهم العسكرية، ومنع بروز «قوة إقليمية» مهيمنة؛ خصوصًا بعد أن فاقمت انتفاضات «الربيع العربي» من هذه الميول، وازداد عدد الدول الضعيفة، والمتعثرة فى أعقابها.. مما سمح للجماعات الإرهابية على غرار تنظيميّ: «الدولة الإسلامية»، و«القاعدة» بالتمركز فى مساحات لا تخضع لسيطرة الدول، وأتاح لدول عربية ناشطة حديثًا مثل: قطر (فضلاً عن قوى غير عربية مثل: تركيا، وإيران، وروسيا) التدخل فى الصراعات بجميع أنحاء المنطقة، إذ أصبحت الصراعات أكثر تعقيدًا وتداخلاً.. مما أدى إلى بروز «نظام صراع إقليمي» يمتد من جنوب الصحراء الإفريقية الكبرى إلى «جنوب آسيا»، تنتقل فيه «الأسلحة»، و«المقاتلون الأجانب»، و«التكتيكات»، و«التقنيات»، والمحاربون من صراع إلى آخر.
ولهذا السبب (والقول لـ«آيزنشتات»)، يتعيّن على صُناع السياسة الأمريكية التخلى عن «إيديولوجية الحل» (أي: سعى الولايات المتحدة «الواهم» لحل مشكلات الشرق الأوسط)، وخفض توقّعاتهم فيما يتعلق بالإنجازات، التى قد تحققها التدخلات العسكرية فى المنطقة، لا سيما ضد «الشبكات الإرهابية»، و«المتمردة».. إذ نظرًا للزخم الذى يدعم أعمال العنف؛ لا يُمكن حل معظم الصراعات فى الشرق الأوسط [بل إدارتها فقط]، على الأقل فى الوقت الراهن (!).. ومع ذلك.. يُمكن أن يخلق هذا الوضع فُرصًا للولايات المتحدة؛ لتقويض «إنجازات خصومها»، إذا أرادت ذلك.. إذ سيكون هناك دائمًا أطراف «متعثرة» [تبحث عن رعاة أجانب] (!).. وسعيًا لتحقيق ذلك (فى منطقة غير ذاتية التنظيم)، على الولايات المتحدة التعاون مع «شركاء محليين» ضد خصومها، كما فعلت ضد الاتحاد السوفياتى فى الشرق الأوسط خلال السبعينيات، وفى أفغانستان فى ثمانينيات القرن الماضي.

من واقع الكلمات الأخيرة لـ«آيزنشتات» (وهو ابن أصيل من أبناء الدولة الأمريكية العميقة)؛ يُمكننا الربط بين ما تنتجه السياسات الأمريكية فى الوقت الحالى (أزمة المقاطعة العربية الرباعية لـ«قطر» نموذجًا) ومدى تأثير الدولة الأمريكية العميقة (نفسها) فى توجيه تلك السياسات.. إذ لا يُمكننا هنا - فى ضوء المعطيات والتنبيهات السابقة - أن نراهن إلى حدٍّ بعيد؛ على حلول أمريكية (جذرية) لمشكلات الشرق الأوسط.. بقدر ما يُمكننا التأكد من أنّ هناك مزيدًا من عمليات الاستنزاف (المتتابعة) للثروات العربية لحساب «البرجماتية» الأمريكية.. ومحاولة اللعب على «احتضان» الأطراف المتعثرة فى سياساتها إقليميًّا (قطر نموذجًا)، والاستفادة من احتياجها للرعاة والدعم الأجنبي.
أى إنّ ما يجود به «العقل الأمريكي» فى إدارته للأزمة القطرية/ العربية، حاليًا (فضلاً عما جاد به خلال المرحلة الانتقالية بين إدارتيّ: «أوباما»، و«ترامب»)، لا يبتعد كثيرًا فى مضمونه عما يدعو إليه - بالفعل - العديد من دوائر «الدولة الأمريكية العميقة» ذاتها.. وهى «دولة» باتت - كما يبدو من سير الأحداث الأخيرة - أكثر تداخلاً من الناحية التنفيذية عما كان يبدو عليه الموقف [الظاهر] قبل أشهر قليلة.. إذ نجحت تلك الدولة (من واقع الأحداث والممارسات) فى إحكام قبضتها على البيت الأبيض فى مدى زمنى لم يتجاوز الـ75 يومًا فقط (!)
.. ومن ثمَّ؛ فإن ترتيب البيت العربى من الداخل، والسعى نحو إعادة تشكيل «النظام الإقليمى العربي»، بما يجعله يتمتع بالثبات والرسوخ - بعد ما اعتراه من ضعفٍ فى حقبٍ «سابقة» - يجب أن يكون أولوية «أولي» خلال المرحلة التالية؛ خصوصًا فى ظل وجود 4 «أجندات» مختلفة تتصارع فيما بينها [أو تتحالف فى شكل «ثنائيات» مؤقتة] إما للتحكم بالمسار السياسى للمنطقة، وإما لتقويض ظهور أى قوى إقليمية مؤثرة.. أو لاستنزاف «ثرواتها الطبيعية»، أو تدشين «الصراعات المذهبية» بين أرجائها..  وهو دورٌ لا نبالغ إذا ما قلنا إنّ ضبط إيقاعه؛ يقع على كاهل «القاهرة» فى المقام الأول؛ إذ تمتلك «الدولة المصرية»، فى الوقت الحالي، مقومات ريادة هذا النظام [بامتياز]؛ لاعتبارات متنوعة، منها عناصر بناء الدولة ذاتها: (عسكريًّا، وسياسيًّا، وتاريخيًّا، وجغرافيًّا، وديموجرافيًّا). 