
هناء فتحى
رجال العادلى يشرفون على الانتخابات الأمريكية
ليس غريبا وقبل رحلة سفر امتدت شهرا ونصف الشهر إلى نيويورك أن أترك مصر وقد بدَّلت ثوبها ذا الألوان الثلاثة الزاهية بالأسود القاتم. فقد اعتقدت منذ دخولى مطار جون كنيدى فى نيويورك أن العاملين به وبعد أن يشاهدوا جواز سفرى ذا اللون الأخضر وبه جنسيتى المصرية سوف يقفون تعظيما ويؤدون لى التحية!! ولمَّ لا.. ألم نصنع ثورة عظيمة عبرت القارات ، وعلمت العالم كيف ينتفض؟ لكن ذلك لم يحدث ولم يعرفنى أحد أنا المصرية الوليدة منذ عام وثلاثة أشهر.
الحقيقة أن الأمريكان - الشعب - لا يعرفون أحدا.. لا يعرفون إلا أنفسهم.. فالقنوات العديدة المنطلقة من تليفزيون نيويورك ليست معنية إلا بمواطنى نيويورك حتى أنك لا تعرف شيئا عن مواطنى نيوجرسى الملاصقة لنيويورك إلا لو حدثت بها مصيبة كبرى.. هذا عن القنوات الرسمية لكل ولاية.. أما عن اشتراك مواطنى أى ولاية فى نظام (الكابل) فإنه يتيح للأمريكى أن يعرف الكثير عن شعوب العالم، ناهيك لو امتلك أطباق الدش، فإنه سوف يعرف ويعرف، لكن نظام الكابل لا يقبل كل الفضائيات.. مثلا سوف تجد أن قناة الجزيرة ممنوعة تماما فى أمريكا كلها.. لأن الذين يسيطرون على الإعلام هناك يهود ويسوؤهم كثيرا لو أتاحوا للمواطن الأمريكى قناة مثل الجزيرة (شوف إزاى مش مصر بس !).
أضف إلى ذلك أن العمل بنظام (الدش) ممنوع فى الأماكن الراقية لأنه يشوه منظر الأسطح والشرفات.. لكن المواطن الأمريكى مثقف جدا تجده دائما وفى كل مكان - فى الباص والمترو والمتنزهات - ممسكا بكتاب ويقرأ.. ولسوف تجد أن المكتبات العامة منتشرة فى كل مكان مثلها مثل المدافن التى تقطع الشوارع والأحياء، حتى إن معظم بيوت وعمارات نيويورك الشاهقة، تقريبا تطل عليها مثلما تطل على نهر (هَدسون) أو المحيط الأطلنطى.
هذا الوصف مهم جدا لتعرف أن كثيرا من مواطنى نيويورك تابعوا الثورة المصرية ويحتفظون داخلهم بقدر من الفخر والاحترام بشباب الثورة، أما الذين لا يشتركون فى نظام الكابل أو يسكنون الأماكن الممنوع فيها تركيب الدش فهم لا يعرفون شيئا عنك وعنى ولا عن مواطنى سياتل حتى.
ولتعرف أن مصر أم الدنيا فعلا وذات تأثير قوى فى شعوب العالم ، فعليك أن تشاهد قناة (فوكس) نيوز وهى تذيع خبر مطالبة مواطنى ولاية نيوجرسى بتغيير طرق الانتخاب ببطاقة الانتخاب القديمة واستبدالها ببطاقة هوية تحمل صورة المواطن، لأنهم اكتشفوا أن طريقة الانتخاب السابقة بها عوار ويتم عن طريقها تزوير صوت المواطن الأمريكى.. بل يتم ببطاقة الموتى التصويت فى الانتخابات.. (شوف إزاى مصر مهمة جدا) ، وكأن رجال العادلى ذهبوا فى بعثة خاصة للإشراف على الانتخابات الأمريكية.. والله حصل.
فى الأسبوع الأول لدخولى نيويورك قامت القيامة واستيقظ الأمريكان على مقتل شاب أسود عمره سبعة عشر عاما يدعى (تريفن مارتن) على يد رجل أبيض عمره واحد وثلاثون عاما لاتينى الأصل يدعى (جورج زيرمان).. والحادثة وقعت فى ولاية فلوريدا التى يتيح قانونها إطلاق النار على أى قادم غريب لا يعرفه سكانها.
وفى نفس الوقت لا تتم محاسبة أو معاقبة أو حتى القبض على القاتل!.. لكن الانتخابات الأمريكية قلبت الأوضاع القديمة وراح المرشحون الأمريكيون يزايدون على بعضهم البعض، ويتخذون من حادثة الشاب الأسود، وضرورة وضع قوانين جديدة تتيح محاسبة البيض، مادة للحديث حول شطارة المرشح، وكان الشاب المقتول قد اتفق مع صديق يسكن ولاية فلوريدا على زيارته فى منزله ، ولما لم يعتد الجيران على رؤية الزائر من قبل فقد أطلق عليه أحدهم النار فأرداه قتيلا.
ووقف أوباما ليخطب قائلا إن هذا القتيل أسود مثله ، وهو فى عمر ابنه لو كان قد أنجب ابنا ذكرا.. وعليه ففى الجمعة الماضية 20 أبريل قرر قضاء فلوريدا الإفراج - بعد القبض عليه - عن القاتل بكفالة 135 ألف دولار على ذمة القضية الأولى من نوعها فى الولاية، لدرجة أن والد القاتل صرح للإعلام أنه سيبيع بيته نظير دفع الكفالة.. ولأول مرة يعتذر فيها القاتل لأسرة القتيل والتى لم تقبل اعتذار من قتل ولدها الوحيد دونما ذنب.
الانتخابات فى أمريكا تغير وجه الحياة هناك وترفع من شأنها وتبدل فى قوانينها الجائرة، وليست مثل مصر تخسف بشعبها الأرض، وتخرج من تحت الأرض كائنات لم يتعودوا بعد على النور وضوء الصبح.
فى كل يوم سوف تجد ميدان (يونيون سكوير) مشتعلا بالمتظاهرين الذين لا يتظاهرون فقط ضد (وول ستريت) ورجال المال.. بل تجد أن الأمريكان من أصول (تبتية) يتظاهرون من أجل التبت ضد الصينيين.. وتجد الأمريكان من أصول صينية يدافعون عن وحدة الشعب الصينى ضد انفصال إقليم التبت.. وفى الميدان الذى يشبه التحرير تماما سوف تجد الباعة الجائلين وبائعى الشاى الصينى لذيذ الطعم ورافعى اللافتات والذين يخطبون فى الميكروفونات.. وتجد رجال أمن يقفون بعيدا يراقبون ولا يضربون أو يسحلون أو يعرون النساء.. لن تجد لا العسس ولا العسكر يعتقلون المتظاهرين فى أى متحف من متاحف مانهاتن الشهيرة.. فالميدان الذى يقع فى قلب مانهاتن الشهير بأفخر المتاجر العالمية وبيوت الأزياء خاصة فى حى (الأفينيوالخامس ) به كبار مصممى الأزياء والأكثر شهرة.. هؤلاء المصممون يقيمون معارضهم بحى (سوهو) الشهير بمعارضه الفنية وهو ملتقى كبار الفنانين العالميين.. يعرضون به إبداعاتهم فى الأزياء والتشكيل والشعر.
فى حى مانهاتن تجد دور السينما والمطاعم العريقة والكنائس العتيقة المبنية منذ مائة عام فقط، والغريب أنهم يعتبرونها أثرا ومزارا سياحيا بجانب دوره الدينى المعروف.. سوف تجد هؤلاء الفنانين وقد انضموا لمظاهرة (التبتيين) الذين يبغون الانفصال عن الوطن الأم ويطلقون عليه مسمى (مينستريم).. فى حين أن (التبت) ليست جزءا من أرض الصين، لكنها تقع فى حدود الصين الجنوبية الغربية.
فى نفس ميدان (يونيون) سوف تجد المتسولين يسألونك: «يو هاف وان دولار؟».. والمتسولون ليسوا فقط فى (يونيون سكوير) ولا فى محطات المترو ، بل انتشروا بكثرة فى الشوارع والذين تزايدوا بعد البطالة والتى يصرح الأمريكيون ليل نهار بأنهم سوف ينتخبون المرشح الذى يعدهم بالقضاء عليها، وهذا ما يجعل شعبية أوباما على المحك.
من هناك فى نيويورك كنت أتابع الحرائق فى مصر وأشاهد على قنوات نيويورك الحرائق فى غابات أمريكا التى تحدث تقريبا كل عام، خاصة فى ولايات الغرب الأمريكى.. وتستمر لأيام حتى يتم إطفاؤها بالكامل.. هناك يقولون - العلماء تحديدا - أن الحرائق تفيد الغابات والبيئة لأنها تقضى على أشجار عتيقة بلا فائدة وتتيح لأشجار جديدة أن تنمو مكانها.
وكان حريق شركة النصر للبترول الذى استمر أياما دون معرفة الجانى أمرا عاديا فى مصر.. ففى أمريكا يعرفون الجانى ، بل يشيرون بأصابع الاتهام إلى الحكومة التى تشعل الغابات.. بينما هنا فى مصر لا نستطيع أن نفعل الشىء مثله فى حرائق مثل المجمع العلمى وقبله مجلس الشورى، ثم ما سوف يستجد من حرائق فى الأيام المقبلة ، لكن جمعة مثل 20 أبريل الأخيرة والتى ارتدت فيها مصر ألوانها الحمراء والبيضاء والسوداء من جديد هى أول ما وقعت عليه عيناى حين تركت مطار جون كنيدى إلى مطار القاهرة ، لكن النسر القابع فى اللون الأبيض بين الأحمر والأسود كان لايزال صامتا ساكنا، فقط تلمع عيناه مثل الحريق ويمتد منقاره كنصل سكين مسنون.