الإثنين 13 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

غزة تتنفس بعد عامين من الحرب

اتفاق شرم الشيخ يفتح أبواب الهدوء

فى مساء الثامن من أكتوبر 2025، وبين أضواء مدينة شرم الشيخ التى اعتادت أن تستضيف قمم السلام، أعلن الوسطاء أخيرًا ما انتظرته غزة عامين كاملين: اتفاق يعيد إليها حق التنفس بعد عامين من رائحة البارود.



 

طوت القاهرة صفحة طويلة من الجولات العقيمة، حين جمعت الأمريكيين والإسرائيليين والقطريين والقيادات الفلسطينية على طاولةٍ واحدة، لتعلن ما أسماه ترامب «اتفاق الهدوء»، 

وما وصفه الدبلوماسيون فى الكواليس بأنه أول اختراق حقيقى فى جدار الحرب منذ 2023.

عامان من الدمار والحصار والخيبات، كانت غزة خلالهما عنوانًا لحد السكين فى السياسة الدولية، وميدانًا تتقاطع فوقه حسابات القوى الكبرى وأعداء السلام.

عامان من المفاوضات التى لم تثمر سوى هدنتين قصيرتين، عاد بعدهما القصف أشد، حتى باتت الهدنة نفسها ضربًا من الوهم.

لكن مصر - التى ظلت ممسكة بخيوط الملف مهما تغير الوسطاء - أدركت أن الاستنزاف لم يعد يحتمل مزيدًا من الانتظار، فاستدعت الجميع إلى مشهد النهاية: شرم الشيخ، المدينة التى أرادت القاهرة أن تكون مسرح الختام وبداية التغيير معًا.

وهكذا خرج الاتفاق إلى النور، بترتيب مصرى وصياغة أمريكية وغطاء عربى ودولى متعدد الأطراف، ليؤسس لمرحلة أولى من الانسحاب وتبادل الأسرى وفتح المعابر، فى انتظار أن تبنى على أنقاض الحرب خريطة جديدة للسلام

عامان من الحرب... 

من الدمار إلى المفاوضة

على مدار عامين، كانت غزة عنوانًا للانفجار الإنسانى والسياسى فى الشرق الأوسط. منذ اندلاع الحرب فى أكتوبر 2023، تغيرت خريطة التحالفات والمواقف الإقليمية مرارًا، وتحول القطاع إلى مسرح لاختبار الإرادات، حيث فشلت أكثر من سبع جولات تفاوضية فى القاهرة والدوحة وأنقرة فى الوصول إلى اتفاق دائم.

الهدنتان القصيرتان فى مايو 2024 ويناير 2025 كانتا بمثابة استراحة محارب، لكن القصف استؤنف سريعًا بعد تعثر المفاوضات حول ملفى الأسرى والانسحاب. ومع تزايد الضغط الإنسانى فى الجنوب، ودخول الأزمة عامها الثانى، بدا أن الجميع وصل إلى نقطة اللاعودة: إسرائيل بحاجة إلى مخرج سياسى يحفظ ماء الوجه، وحماس تبحث عن ضمانات للبقاء، ومصر تريد وقف النزيف وعودة النازحين الفلسطينيين إلى أرضهم، مع الاحتفاظ بأمن القطاع قبل أن يمتد إلى حدودها.

هنا، كما يصف مايكل روبين الباحث فى “American Enterprise Institute”، تدخلت القاهرة لتربط بين «منطق الميدان ومنطق السياسة»، عبر تحريك خطوط التفاهم ببطء وبصبر، وبناء قنوات موازية مع الأمريكيين والإسرائيليين والقطريين فى آن واحد.

فى مقال نشره تشاتام هاوس بعنوان “Egypt’s Pragmatic Balancing Act”، يرى الباحث Neil Quilliam أن مصر نجحت فى الحفاظ على موقعها كـ«الوسيط الذى لا غنى عنه»، لأنها الوحيدة التى تجمع بين أوراق ضغط حقيقية على غزة بحكم الجغرافيا، وشبكة علاقات ممتدة مع واشنطن وتل أبيب والعواصم العربية.

مصر تعيد رسم قواعد اللعبة

منذ البداية، لم يكن الدور المصرى مجرد وساطة، بل إعادة بناء لنظام تفاوضى جديد.

ففى ظل غياب الثقة بين واشنطن وأنقرة، واهتزاز صورة قطر كوسيط حصرى، أعادت القاهرة إدخال نفسها بقوة إلى دائرة القرار.

فبحسب تقرير نشره Brookings Institution فى 6 أكتوبر، قبل يومين من إعلان الاتفاق، فإن المفاوضات فى شرم الشيخ لم تكن مجرد جلسات تقنية، بل «غرفة هندسة سياسية» أُعيد فيها ترتيب أولويات الأطراف، وإعادة تعريف خطوط النفوذ فى غزة بعد الحرب.

يقول التقرير إن «القيادة المصرية استطاعت أن تضع واشنطن أمام معادلة جديدة: لا سلام ولا إعادة إعمار من دون القاهرة».

فى المقابل، رأت إدارة ترامب الثانية أن إحياء النفوذ المصرى فى الملف الفلسطينى هو ضمانة لتسويق الخطة أمام العرب، خاصة بعد تراجع حماسة بعض الدول لوضع نهاية لهذه المأساة.

وفى تحليل لمعهد INSS الإسرائيلي، جاء أن «واشنطن لم تجد سوى القاهرة قادرة على ضبط الإيقاع الأمنى والإنسانى فى آنٍ واحد، لأن لها قدرة فعلية على الأرض، لا تمتلكها بعض الدول الوسيطة الأخرى مثل الدوحة أو أنقرة».

ما وراء الكواليس

فى الكواليس، كان الدور القطرى حاضرًا لكن بنبرة أكثر تحفظًا من السابق.

فقد أكد بيان لوزارة الخارجية القطرية أن الدوحة «شاركت فى تسهيل الحوار بين الأطراف»، لكنها هذه المرة لم تكن الواجهة الإعلامية، بل تركت صدارة المشهد للقاهرة.

وبحسب تسريبات دبلوماسية نقلتها رويترز، فإن واشنطن فضلت أن يكون الإعلان الرسمى فى شرم الشيخ لتجنب بعض التحفظ الإسرائيلى خاصة بعد العملية العسكرية فى قطر الأخيرة والتى أدت إلى حساسية التعامل بين تل أبيب والدوحة.

أما أنقرة، التى دعمت حماس سياسيًا طوال الحرب، فقد وجدت نفسها أمام مشهد جديد، حيث تسعى إلى المشاركة فى إعادة الإعمار عبر شركاتها الكبرى.

وفى تحليل لـ Gönül Tol من معهد Middle East Institute، جاء أن «تركيا تحاول إعادة التموضع لا بدافع الأيديولوجيا بل الاقتصاد، إذ ترى فى إعمار غزة بوابة لتطبيع أعمق مع واشنطن، وفرصة لتقليص نفوذ قطر فى الملف الفلسطينى».

خريطة الطريق الجديدة لغزة

الاتفاق، وفق ما تسرب من بنوده عبر مصادر رويترز والجارديان وBBC، يقوم على ثلاث مراحل متتابعة:

1 - وقف إطلاق النار الكامل والمستدام، مع انسحاب جزئى للقوات الإسرائيلية إلى ما وراء خط «نتساريم»، تحت إشراف لجنة أمنية ثلاثية (مصرية – أمريكية – إسرائيلية).

2 - تبادل الأسرى والمحتجزيين، حيث تبدأ العملية بإطلاق النساء والأطفال من الجانبين، على أن تليها دفعات أخرى تشمل أسرى ذوى محكوميات عالية.

3 - فتح المعابر وبدء عملية إعادة الإعمار بتمويل مشترك من الاتحاد الأوروبى ودول الخليج، بإشراف مصر والأمم المتحدة.

بحسب تحليل لـWashington Institute for Near East Policy، فإن هذه الصيغة تعكس «مزيجًا من الواقعية والإكراه السياسى»، إذ تسعى واشنطن لفرض تهدئة قابلة للاستمرار دون منح حماس مكاسب ميدانية كبيرة، مع ضمان ألا تستغل المساعدات فى إعادة بناء القدرات العسكرية للفصائل.

ويضيف التقرير أن «المفتاح الحقيقى لنجاح الاتفاق يكمن فى الضمان المصرى، لأنه الجهة الوحيدة القادرة على مراقبة الحدود ومنع أى تسلل يعيد التصعيد».

واشنطن وتل أبيب.. مصالح متقاطعة وشكوك متبادلة

فى واشنطن، يرى مستشارو ترامب أن هذا الاتفاق يمثل انتصارًا دبلوماسيًا فى عامه الانتخابى الثاني.

لكن فى تل أبيب، ثمة انقسام واضح، ففى حين يرى معهد INSS أن الاتفاق «إنجاز استراتيجى يحافظ على الردع الإسرائيلى ويمنح الوقت لترميم الجيش”، ترى بعض الأصوات داخل اليمين الإسرائيلى أنه “تنازل مبكر» لحماس.

أما المعارضة، بقيادة يائير لابيد، فوصفت الاتفاق بأنه «أفضل ما كان ممكنًا» فى ظل الضغوط الدولية.

فى غزة، تصف حماس الاتفاق بأنه «ثمرة صمود المقاومة»، لكنها حريصة على إظهار نفسها كطرف تفاوضى لا مجرد حركة عسكرية.

ووفقًا لتحليل فى Carnegie Middle East Center، فإن الجناح السياسى للحركة يحاول استثمار الهدنة لتثبيت شرعيته الدولية دون الاصطدام بمصالح القاهرة، لأن العلاقة مع مصر باتت «شريان حياة سياسى واقتصادى» لا يمكن التضحية به.

ردود الفعل والتحليلات الدولية

الولايات المتحدة وصفت الاتفاق بأنه «نقطة تحول فى الشرق الأوسط».

وزير الخارجية الأمريكى ماركو روبيو قال إن التهدئة تمهد لبداية عهد جديد من الاستقرار الإقليمي، تقوده مصر وتدعمه واشنطن. بينما أشادت الأمم المتحدة بالاتفاق، مؤكدة على ضرورة أن تكون المرحلة القادمة «مرحلة أمل وإعمار لا حرب وانتقام».

وفى تحليل لـ The Guardian، اعتبر أن «التحول الحقيقى فى هذا الاتفاق ليس فى البنود، بل فى من وقع عليه ومن أعلن عنه»، إذ تم فى مدينة مصرية وبإشراف عربى واضح، بعد عامين من مفاوضات كانت تدور تحت المظلة القطرية والتركية.

من جانبها، قالت BBC Analysis Unit إن الاتفاق «يمنح القاهرة فرصة استثنائية لاستعادة زعامتها الإقليمية، لكنه يضعها أيضًا أمام اختبار دقيق بين الالتزام الإنسانى والحساب السياسى».

مستقبل الاتفاق بين الحذر والأمل

بالاعتماد على المصادر الموثوقة، يمكن تقدير أن الاتفاق يحمل فرصة حقيقية لتهدئة الصراع بعد أعوام من الدمار، لكن نجاحه مرهون بعدة عوامل مطلوبة ومصيرية:

أولًا، التزام إسرائيل الكامل بالانسحاب المعلن وعدم استمرار العمليات العسكرية، لأن أى خرق سيقود إلى إعادة التوتر سريعًا.

ثانيًا، آليات الرقابة الدولية التى تضمن أن تكون المراقبة شفافة ومستقلة، كى لا تترك التنفيذ للأهواء السياسية.

ثالثًا، أن تقدم مساعدات عاجلة ومستدامة لإعادة الحياة فى غزة، ليست مجرد مساعدات ظرفية، وإطار إعادة إعمار موثوق تشارك فيه دول عربية وغربية.

رابعًا، أن تكون المرحلة الانتقالية أو الإدارة ما بعد الحرب واضحة، لأن الفراغ السياسى أو الإدارى قد يستغل لعودة الصراع.

من منظور معهد كارنيجي، الخطة طموحة وشاملة، لكنها تواجه عقبات تنفيذية كبيرة، أبرزها ضمان التزام الأطراف ومراقبتها، وكذلك وضوح دور الدول العربية والمجتمع الدولي. 

كما أن من المتوقع أن يطرح على الطاولة ملفات مثل سلاح الفصائل، وإعادة بناء المؤسسات المدنية والأمنية فى غزة، ولكن تنفيذ هذه البنود سيكون معركة بحدّ ذاتها. 

إذا حافظ الأطراف على الالتزام، فإن الاتفاق قد يحدث انتقالًا فعليًا من الحرب إلى الهدوء، ويعيد بعض الأمل لقطاع أنهاه القصف والدمار. لكن إذا عادت الحسابات السياسية أو تم التغاضى عن الخروقات، فقد يصبح هذا الاتفاق فصلاً مؤقتًا آخر فى صراع طويل بلا نهاية واضحة.

وبحسب تقدير صادر عن Crisis Group وCarnegie Endowment فى 9 أكتوبر، فإن المرحلة القادمة ستعتمد على “القدرة على تحويل الاتفاق إلى عملية سياسية متكاملة”، تبدأ من وقف النار وتنتهى بإعادة الإعمار والإدارة المدنية.

ويشير تقرير Brookings إلى أن استمرار الدور المصرى كضامن رئيسى «سيعيد صياغة التوازنات فى شرق المتوسط، ويمنح القاهرة نفوذًا متجددًا فى معادلات الطاقة والأمن».

أما INSS الإسرائيلى، فيرى أن التحدى الأبرز هو «المرحلة الثانية»، أى تثبيت وقف إطلاق النار، لأن أى خرق صغير سيعيد الصراع إلى نقطة الصفر.

وفى خلاصة تحليل Chatham House، فإن «اتفاق شرم الشيخ يمثل أكثر من هدنة، إنه اختبار لإمكانية أن تتكلم المنطقة بلغة العقل لا القوة، وأن تدار الحروب بآليات سياسية لا بطائرات F-16».

هدنة تفتح نوافذ الأمل

وبعد عامين من القصف والحصار، تتنفس غزة أخيرًا بعض الهدوء، ولو مؤقتًا.

لكن كما كتب Aaron David Miller فى Foreign Policy: «فى الشرق الأوسط، لا توجد نهايات سعيدة، بل لحظات استراحة بين جولات من الحسابات».

ومع ذلك، يبقى ما حدث فى شرم الشيخ علامة على أن الإرهاق الجماعى قد فرض على المنطقة برمتها، وأن صوت القاهرة استطاع أن يعيد ترتيب الطاولة حين كانت الأطراف كلها على وشك الانفجار.

ربما لا تكون هذه الهدنة نهاية الحرب، لكنها بداية فهم جديد:

أن لا أحد يربح فى غزة، وأن الهدوء - ولو هشًا - أفضل من صمت المقابر.