الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
ملحمة تأسيس أول «دولة مركزية» فى مصر الفرعونية!

ملحمة تأسيس أول «دولة مركزية» فى مصر الفرعونية!

فى ذلك اليوم العظيم، لاحت تباشير الصباح فى الأفُق الشرقى لمدينة إنب حدج (مدينة منف لاحقًا)، العاصمة الجديدة التى أسَّسَها الملك مينا على رأس الدلتا؛ ليكون موقعها المتميز العاصمة الأبدية لمصر عبر تاريخها الحضارى الطويل.  



 

ياله من يوم عظيم!

 

يوم الاحتفال بوحدة الأرضين!

 

 

ففى ذلك اليوم التاريخى، توحدت أرضا مصر فى دولة مركزية واحدة. وقامت الوحدة على ضم أرض مصر السفلى أو الدلتا إلى أرض مصر العليا أو الصعيد تحت حُكم ملك واحد وتحت راية واحدة. واتحدت الأرضان منذ ذلك الزمن البعيد إلى وقتنا الحالى وإلى أن يرث الله الأرضَ وما عليها.

 

وازدانت مدينة «إنب حدج» (أو «الجدار الأبيض») بالرايات وعلامات الزينة؛ خصوصًا على أسوارها القوية البيضاء المبنية من أحجار منطقة طرَة الجميلة. ونادَى العيد المجيد الجموع، فلبّى أهل مصر النداء هارعين إلى العاصمة من كل حدب وصوب من الدلتا، ومن الصعيد، ومن النوبة، ومن سيناء، ومن الصحراء الشرقية، ومن الصحراء الغربية. وقطعوا كل الطرُق والدروب وحمَلتهم صفحة النيل العظيم بُغية الوصول إلى العاصمة الجديدة. ووصلوا إلى مدينة «إنب حدج» ليبايعوا ويهنئوا الملك المؤسِّس ويؤيدوا الوحدة ويَشهدوا وقائع احتفال مصر بتوحيد القطرَين وضم الشمال إلى الجنوب فى مملكة واحدة يحكمها الملك مينا الذى ارتدى لأول مرّة تاجًا واحدًا هو التاج المزدوج الذى جمع فى تكوينه بين تاج الصعيد ذى اللون الأبيض وتاج الدلتا ذى اللون الأحمر، كحَل وسط أبدعته العقلية الجمعية المصرية لترضى به جميع القوى الفاعلة على أرض مصر آنذاك.

 

وحدثت وحدةُ مصر بالتدريج من الجنوب إلى الشمال؛ إذ تم توحيد  أجزاء مصر حضاريّا ثم سياسيّا تحت راية المعبود الأزلى حورس، الذى قُدّس فى مدينة الكاب (بالقرب من مدينة إدفو فى محافظة أسوان الحالية). ولعب التجار الجنوبيون دورًا كبيرًا فى نقل ثقافتهم ونشرها فى الشمال. وكان الصعيد قد اتحد تحت حُكم واحد ولواء واحد وراية واحدة بعد سلسلة من الحروب وبفضل عدد من التحالفات السلمية. ثم اتحد الشمال والجنوب سياسيّا معًا إلى أعلن ملك مصر العليا والسفلى، الملك المؤسِّس مينا أخيرًا الوحدة السياسية والأبدية للبلاد المصرية.

 



 

كان قد أسَّس هذه المدينة الجديدة، إنب حدج، الملك الموحِّد «حور عحا» (أى «حورس المحارب»)، الذى حمَل لقب «مِنِيِ» بمعنى «المثبت» أو«المُدعِّم» لأركان وحدة مصر الجديدة، والذى يُعرف فى زمننا الحالى باللفظ الشائع «مِينَا»؛ ذلك الملك الذى نظر إليه المصريون فى العصور التالية بعين الإجلال والإكبار؛ نظرًا لكونه أول ملوك مصر الموحِّدة، والملك الوحيد الذى نجح فى توحيد البلاد بعد محاولات عديدة من قِبَل ملوك كثيرين وقام بالقضاء على الصراع السياسى والتناوش العسكرى اللذين استمرّا فترة طويلة من الزمن قبل عهده المجيد. 

 

وقام الملك مينا بإنجازات عديدة، كان أهمها توحيد مصر وتأسيس هذه العاصمة الجديدة للبلاد «إنب حدج». ويقول أبو التاريخ هيرودوت إن كهنة العاصمة حدَّثوه بأن مينا كان أول من حَكم مصر من البشر وبنَى ذلك الملك «القلعة البيضاء» أو «الدار البيضاء» (يعنى مدينة «إنب حدج») عند رأس الدلتا لتكون عاصمة للمملكة المتحدة، وأوجد جسرًا لحماية العاصمة؛ إذ كان النهر كله يجرى بحذاء الهضبة الرملية من جانب الصحراء وجفَّف المجرَى القديم وحوَّل مجرَى النهر لينساب بين الهضبتين. وتقع هذه العاصمة الجديدة على شاطئ نهر النيل وتبعد نحو أربعة وعشرين كيلو مترًا إلى الجنوب من عاصمة مصر الحالية، مدينة القاهرة. وتوجد فى موقع استراتيجى بين وادى النيل والدلتا، وفيه يلتقى الصعيد بالدلتا، وكذلك طرُق التجارة.

 

ويشير الدليل الأثرى إلى أن موقع هذه العاصمة المختارة كان موجودًا منذ عصر ما قبل الأسرات. وكان من أبرز ملامح هذه العاصمة المبانى الإدارية مثل المبنى الأبيض الذى احتوَى على المَقر الملكى ومكاتب الحكومة. ومثلت هذه المدينة مركز الوحدة وميزان الأرضين، أرض مصر السفلى وأرض مصر العليا، واختار الملك بذكاء ذلك المكان المتوسط، الذى سوف يكون المكان الأبدى الذى تُحكم منه مصر- باستثناء مدينة الإسكندرية التى اتخذها البطالمة والرومان من بَعدهم عاصمة لمصر حتى تكون قريبة من بلادهم الأصلية. ونظرًا لاهتمام المصريين بالاحتفال بوحدة بلادهم، ضاقت مدينة «إنب حدج» بالقادمين من كل مكان من أرض مصر الواسعة، وامتلأت البيوت بالمقيمين، وازدحمت شوارع وساحات المدينة بالخيام، وامتلأت الطرُقات بالذاهبين والقادمين، وانتشر اللاعبون والمُغنون والراقصون على جنبات الطرُقات، وعَجّت الأسواق بالعارضين والبائعين. وازدانت واجهات البيوت بالأعلام وأغصان النباتات والزهور. وبهرت الأنظار جماعات الحرس الملكى بثيابها الزاهية وسيوفها ذات النصال الناصعة اللامعة. وهرعت الجموع إلى المنطقة الممتدة ما بين القصر الملكى والمعبد على شاطئ نهر النيل. وهبط البعض إلى السُّفن قاطعين المسافة بين القصر والمعبد مرددين الأغانى والأناشيد على أنغام المزامير والقيثارات، وراقصين على إيقاع الطبول والدفوف. 

 

ووقف الجنود مصطفين على جانبَى الطريق بأسلحتهم المتنوعة بين تماثيل الآلهة والإلهات التى نسب إليها الفضل فى تحقيق وحدة البلاد ودعم الملك لتحقيق هذا الحلم الغالى. غير أن أبرز المعبودات كان الإله حورس الذى صُوّر على هيئة صقر أو إنسان برأس صقر. ورمز ذلك الإله السماوى للملك والملكية المقدسة ويعنى اسمه «البعيد». واتحد مع الملك منذ نهاية عصر ما قبل الأسرات، وكان الملك هو الممثل الأرضى لحورس، ونجح الملك مينا آخر حكام عصر ما قبل الأسرات فى توحيد مصر، وكان قد أُطلق على هؤلاء الحكام «أتباع حورس»؛ نظرًا لربطهم بين الإله والمملكة التى كانوا يسعون لتأسيسها؛ لذا فهُم بحق المؤسِّسون الأوائل للدولة المصرية العريقة ولوحدتها الأزلية.

 



 

تطلع الملك مينا إلى السماء من نافذة قصره المنيف المبنى على ضفة نهر النيل الخالد، فتهلل وجهه بالبِشْر والفرَح وخفق قلبه وسجد على الأرض شاكرًا الرّب المعبود فى عليائه على تحقق الوحدة التى طالما تطلعت إليها الأمّة المصرية على يديه. وألقى نظرة على الجموع الغفيرة التى جاءت من أنحاء مصر المختلفة للتعبير عن حُبها له وللإنجاز التاريخى والحضارى غير المسبوق الذى حقّقه بفضل ذكائه وقوته وحكمته وإخلاصه، منهيًا بذلك تاريخًا طويلًا من التشرذم والتناحر السياسى الذى مزّق الأمّة المصرية العريقة لفترة زمنية طويلة، فسعد الملك مينا برؤية الوجوه المشرقة تعلوها الابتسامات وتتجاذبها الضحكات؛ فالكل سعيد بهذا الحدث العظيم. ووجد الملك أهل الصعيد يقفون فى تناغم إلى جوار أهلهم من الدلتا بجانب أهل مصر النوبيين وغيرهم.  

 

وارتفعت أصوات الجموع المختلفة هاتفة بالوحدة وداعية للملك مينا بالحياة والصحة والسعادة. بينما ارتفعت أصوات أخرى تعلن عن البضائع التى جلبتها من بلادها البعيدة لبيعها فى هذا الحدث الذى بَعث الفرحة والسرور فى قلب كل مصرى ومصرية. 

 

وسُمع صوت بوق شديد يخترق عنان السماء، فعَلم القوم أن الملك مينا فى طريقه للخروج من قصره المنيف فى موكبه الملكى الكبير. وبدأ حملة الأبواق المصطفين على جانبَى طريق الموكب النفخ فى أبواقهم نفخًا طويلًا متصلًا إيذانًا بالبدء الفعلى لطقوس الاحتفال.

 

وبدأت طلائع الجيش المصرى مسيرتها فى صفوف منتظمة على أنغام الموسيقى العسكرية تتقدمها حامية العاصمة وفرق الحرس الملكى العديدة، رافعة عَلم الوحدة الذى يعلوه صورة  الإله الصقر حورس رب الوحدة وراعيها. وسارت خلفها فرَق المشاة تحمل الرماح والتروس، وفرقة الرُّماة حمَلة السهام والأقواس. فاشتعل حماس الجموع، فهتفت وصفقت بقوة ممجدة جنود الشمس الذين حققوا الوحدة. وسار بعدهم حملة ألوية الآلهة والإلهات ورموز أقاليم مصر المختلفة فى موكب جليل لا يتكرر كثيرًا. 

 

 وما هى إلّا لحظات قليلة حتى خرج الملك مينا كى يشهد الاحتفال. وارتدى الملك رادءَه الملكى الذى أعدّه خصيصًا لهذا الاحتفال الذى لا يتكرر مرتين، وكان الملك يتحرك منتصب القامة يُحيى الجموع التى استبشرت خيرًا بتوليه الحُكم. وكان يضع على رأسه لأول مرّة فى تاريخ مصر، التاج المزدوج، تاج مصر العليا والسفلى، ويقبض بيديه على شارات الحُكم، المذبة وصولجان الحُكم. وكانت تعلوه المهابة وتحرسه عناية السماء ترافقه العائلة المالكة والأمراء والأميرات والوزير وكبير الكهنة والقضاة وقوّاد الجيش وكبار رجال الدولة وحكام الأقاليم.

 

وانتهى الموكب بفرقة حامية من الحرس الملكى. وتحرَّك الموكب الملكى فى جلال مهيب وعظمة من القصر إلى ساحة الاحتفالات الواقعة بين المعبد والنيل.

 

وطالعت العيون الواقفة على جانبَى الطريق الملك مينا وبذلك قد أسعدها الرَّبُّ العظيم فى سمائه برؤية ملكهم المقدس رأى العين. فتبين لهم أن الملك مينا شاب قوى وسيم ورشيق فارع الطول فضلًا عن قوّة إرادته وعظم شخصيته وثقته الكبيرة بالنفس التى تتبدّى من نظراته وحركاته. وأسبغ الرَّبُّ الحامى الإله حورس حمايته على الحفل الأسطورى وعلى ممثله على الأرض الملك مينا. وسارت أمُّ الملك، الملكة «نيت حُتب» إلى جوار ابنها الملك الموحِّد. وسارت خلفهما زوجة الملك، الملكة الجميلة «بنرت إيب» (أى «حلوة القلب») التى كان شَعرها الأسود ينسدل كأسلاك من الحرير اللامع على كتفيها فى هالة من الليل كأنه تاج إلهى، ويبزغ فى وسطه وجهُها المشرق الطويل ذو الخدين الجميلين والفم الرقيق والعينين السوداوين الصافيتين الناعستين الممتلئتين بالحنان والحب والرحمة. ثم سار من خلفهم أفراد البيت المالك وكبار رجال الدولة. ووصل الموكب إلى ساحة الاحتفالات. ودخل الملك للمعبد مقدمًا القرابين وآيات الشكر والامتنان للإله. ثم رجع مرّة ثانية إلى ساحة الاحتفالات حتى يشهد وقائع الاحتفال ويسعد بما حقق من إنجاز. ودقت الطبول مُعلنة بداية الحفل وأدّى الجُند التحية العسكرية وارتفعت موسيقى الحرس الملكى. وجلس الملك مينا فى الصف الأول إلى جوار الوزير والملكة الأم وزوجته وأفراد البيت المالك وكبار رجال الدولة. واستمع إلى عزف الموسيقى وغناء المُغنيات ورقْص الراقصات الإيقاعى الجميل.

 



 

فى نهاية الاحتفال خطب الملك المؤسِّس مينا فى الجموع المصرية الغفيرة قائلًا:

 

«بداية أحمدُ الإلهَ العظيمَ فى عليائه على بلوغنا هذا اليوم العظيم وتحقق هذا الحلم التاريخى الذى كانت تتوق له الأفئدة قبل العقول فى عهدى. وأشكرُ الشعبَ المصرى العظيم على مساندته الوحدة والوقوف إلى جوارها والتضحية بكل غالٍ ورخيص حتى نصل إلى هذا اليوم المشهود. وأدعو الجميع حُكامًا ومحكمومين إلى الالتزام بتعاليم الإله العظيم فى سمائه والحفاظ على أرض مصر ودعم أركان وحدتها دومًا وأبدًا، والتخلق بقيم وأخلاقيات الحرية والعدالة والإيمان والتحضر والنظام والمساواة والحكمة والمحبة والتكافل والتسامح والسلام والأمان؛ لأننا أول أمّة ظهرت للعالم وأبدعت الحضارة المبنية على الحق والخير والجَمال. إذن لنكن سبَّاقين، كما نحن الآن، فى كل ميادين الخير والعدل والمساواة والتقدم والرخاء. وأدعوكم من أعماق قلبى أن يكون العلم والدين نبراسين لكم وللأمّة المصرية فى تاريخها اليوم وأبد الأبدين. حفظ الإلهُ مصرَ وأرضَها وشعبَها ودولتَها، وحفظ الإلهُ الإنسانَ المصرى العظيم ونهر النيل اللذين أبدعا ولايزالان يبدعان حضارة وادى النيل العريقة. وإلى لقاء قريب ومنجز تاريخى جديد».

 

وبعد أن أنهَى الملك المؤسِّسُ مينا خطابَه التاريخى، انصرف الموكب الملكى كما جاء إلى قصر الملك تَحفّه المهابة وتحوطه العظمة والمَجد، وتهتف له القلوب المُحبة بصدق. ومنذ ذلك الحين صار الملك المؤسِّس مينا، أول ملوك مصر الموحدة، ملء الصدور وقبلة الأبصار ومحط الأفئدة؛ فقد حقق آمال وأفراح الأمّة التى خفقت بها قلوب المصريين منذ أمَد بعيد. وأثبت للعالم أجمع إلى هذه اللحظة أنه لا يوجد شىء يعجز المصريون العظامُ عن فعله طالما وجدت القيادة المخلصة والمُحبة للوطن وللشعب والمؤمنة بما تفعل، وصدقت الهمة، وصحت الأمّة. وفى هذه الحالة، سوف يقف الشعب إلى جوار القيادة القوية الصادقة المخلصة الأمينة حتى يتم تحقيق ما فيه مصلحة البلاد والعباد والترفع عن المآرب الشخصية، وسوف يصير الكل فى واحد؛ لأن الكل سوف يزول وتبقى مصرُ العظيمة والمصريون العظام. 