أول مصادرة لـ «روزاليوسف» لدفاعها عن الدستور !

رشاد كامل
لم يعد اسم «محمد محمود» غريبا على أسماع وأذهان الناس ليس فى مصر وحدها بل فى كل أنحاء العالم !
وطوال عام كامل واسم شارع «محمد محمود» يتردد بشكل مستمر بسبب أحداثه الساخنة، ولعل أبرزها وأهمها الشهداء الذين سقطوا فيه ولايزال البحث جاريا - تصوروا - عمن قتلهم !!
ومن الشارع وبكل ما يجرى فيه إلى الرجل نفسه «محمد محمود باشا» الذى رحب بالدستور وهو فى المعارضة، ثم داسه بحذائه عندما تولى الحكم، وهو الذى دافع عن حرية الصحافة ثم صادر «روزاليوسف» وأغلق عشرات الصحف والمجلات التى انتقدته!
«محمد محمود باشا» الذى نفاه الإنجليز مع «سعد زغلول» إلى جزيرة مالطة أوائل ثورة 1919 هو نفسه الذى طارد واضطهد الحركة الوطنية!
«محمد محمود باشا» الذى وصف دستور سنة 1923 بأنه دستور من أحسن ما خرج للناس ثم عاد وأوقف العمل به سنة 1928.
رغم أنه قبل عامين فقط قال فى اجتماع مهم للنواب والشيوخ عقب تعطيل البرلمان : «إننا نتعهد أمام الله والوطن أنا وإخوانى أن ننقذ الدستور أو نموت فى سبيله».
لقد تولى «محمد محمود باشا» الحكم فى ظروف بالغة الغرابة سواء من الناحية السياسية أو الدستورية، لقد جاء للحكم فى أعقاب إقالة الملك فؤاد لوزارة «مصطفى النحاس باشا» فى 25 يونيو 1928، والمريب أن إقالة وزارة تتمتع بثقة البرلمان أمر لا يتفق مع روح الدستور ولا مع الأوضاع البرلمانية الصحيحة، ومما يؤسف له - كما يقول المؤرخ «عبدالرحمن الرافعي» أن يشترك فى هذا الانقلاب من كانوا ينادون بالديمقراطية ويتغنون بالدستور والحرية .
وهكذا يقوم «محمد محمود باشا» بتأليف الحكومة ويتعهد فى كتابه إلى الملك بقبول الوزارة تأكيد : «سيكون رائدنا أن يظل الدستور فى حمى جلالتكم ركن الحكم الركين وعماده المتين».
وبعد مرور 24 ساعة من تشكيل الوزارة أصدر محمد محمود باشا فى 28 يونيو مرسوم تأجيل البرلمان لمدة شهر، وقبل أيام من انتهاء الشهر استصدرت الوزارة أمرا ملكيا بحل مجلسى النواب والشيوخ وتأجيل انتخاب أعضاء المجلسين، وتأجيل تعيين الأعضاء المعينين فى مجلس الشيوخ مدة ثلاث سنوات».
وقامت الدنيا ولم تقعد ضد ديكتاتورية محمد محمود باشا الذى صرح أنه سيحكم البلاد بيد حديدية!
لقد كان أول ما فعله «محمد محمود باشا» أن أعاد العمل بقانون المطبوعات القديم الذى صدر عام 1881 ويجيز تعطيل الصحف وإلغاءها إداريا، وهو ما أدى إلى إلغاء رخص حوالى مائة صحيفة، كما أنذرت وعطلت عشرات الصحف والمجلات، كان فى المقدمة منها روزاليوسف التى خاضت معركة باسلة ومجيدة ضد طغيان وديكتاتورية «محمد محمود باشا»!!
فى تلك الأيام كانت «روزاليوسف» - السيدة والمجلة - شاهدة ومناضلة ومعارضة ضد هذا الطغيان السافر والسافل على دستور الأمة وحريتها وصحافتها وكرامتها.
تقول السيدة «روزاليوسف» : كان الملك فؤاد - بدافع من الإنجليز - قد أقال وزارة الوفد، وتولى المرحوم «محمد محمود» رئاسة الوزارة، ثم لم يلبث أن أعلن تعطيل الدستور والحياة النيابية ثلاث سنوات قابلة للتجديد، واتخذت المجلة خطة الدفاع عن الدستور والهجوم العنيف على الوزارة، وصدر العدد «134» من روزاليوسف وفيه حملة على حق الملك فى إقالة الوزارات، وفيه صورة كاريكاتيرية تمثل «محمد محمود» يدوس على الدستور وهو صاعد إلى مقعد الوزارة .
وبعد أن تم طبع نسخ المجلة كلها، دق التليفون ينبئ بأن المطبعة محاصرة وأن البوليس قد جاء ليصادر العدد، وأسرعت إلى المطبعة لأرى بعينى مأمور قسم عابدين وضباط البوليس السياسى واثنين من الكونستبلات الإنجليز يطيحون بأعداد المجلة المتراصة أعمدة طويلة يمنعونها من الخروج !
وبدا لى هذا الموقف غريبا وغير معقول كيف يمكن أن تصادر الحكومة جهد إحدى المواطنات ؟ كيف يمكن أن تمنع الحكومة مجلة من أن تبدى رأيها، كانت هذه التجربة الأولى من تجارب المصادرة تبدو لى غريبة مثيرة للأعصاب إلى أقصى حد .... و..
ولم تثن هذه المصادرة «روزاليوسف» عن خطتها، فقد تابعت حملتها العنيفة فى الدفاع عن الدستور والهجوم على الوزارة، ولقيت رواجا كبيرا حتى أصبح الناس يتلهفون على يوم صدورها، وقابلت الحكومة هذا الإصرار بالعنف البالغ فصادرت المجلة مرات وعطلتها مرة أخري، وكانت الوزارة لا تصادر المجلة إلا بعد أن يتم طبع جميع النسخ حتى تكون خسارتها المالية كبيرة»!!
كان عدد روزاليوسف رقم 134 المقرر صدوره يوم الثلاثين من يونيو 1928 والذى تمت مصادرته، قد تسربت بعض النسخ المصادرة إلى صحف ومجلات أخرى فراحت تعيد نشر ما جاء فى العدد المصادر.
ولأول مرة تقف غالبية الصحف والمجلات مع روزاليوسف فى معركتها، والغريب أن صحيفة السياسة لسان حال حزب الأحرار الدستوريين حزب رئيس الحكومة كتبت تقول :
«أصدرت وزارة الداخلية أمس أوامرها بمصادرة عدد مجلة روزاليوسف الذى كان اليوم موعد صدوره الرسمى لاشتماله على أمور تعتبر ماسة باسمى مقام فى مصر، ويرى المشرفون على الأمن العام إنه قد يكون من شأنها إثارة الخواطر وتعريض أمن البلاد لشيء من الاضطراب»!
وتدافع جريدة «الاتحاد» - الموالية للقصر والحكومة - عن قرار الحكومة قائلة: إن الهدف من مصادرة روزاليوسف منع انتشار أذاها بين القراء وحمايتهم من هذا العيب»!
وتنشر «الأهرام» - المحايدة - تفاصيل عملية المصادرة، وما دار فى لقاء السيدة روزاليوسف وقادة الوفد بزعامة مصطفى النحاس فتقول: إن النحاس باشا أكد أن الصورة الرمزية التى صادرها البوليس من مجلة روزاليوسف تمثل رئيس الوزراء يطأ الدستور بقدمه، وهذا يعبر عما يقوله كل مصرى من أن دولته قد وطئ الدستور بقدمه أولا بتأليف وزارته ضد إرادة البرلمان ثم بتأجيله، وهذا نقد مباح أقرته المحاكم فى أحكامها، بل أقرت ما هو أكثر تطرفا منه ! لقد كان لحادث مصادرة روزاليوسف وقع سييء فى نفوس النواب والجمهور وخشوا أن يكون مقدمة للاعتداء على حرية الصحافة المقدسة .
وتضيف الأهرام: «ولما تساءلنا عن القانون أو النظام الذى يجيز المصادرة دون المحاكمة قيل لنا إن قانون المطبوعات لايزال حيا، وهذا القانون قانون مطاط تستطيع السلطة التنفيذية أن تستخدمه بكل توسع واستنادا إلى هذا القانون صودرت المجلة».
وشنت جريدة «كوكب الشرق» هجوما صارخا على محمد محمود باشا تحت عناوين من عينة : جُبن الوزارة وضعفها، مخالفاتها لأبسط مبادئ الحرية وأحكام الدستور!
كما نشرت مقالا تحت عنوان «الحرية فى عهدهم : مصادرة أعداد مجلة روزاليوسف» وقالت : يا ذل وزارة لا يرضى عن تصرفاتها أصحابها وأنصارها!!
ولم تتوقف المعركة عند هذا الحد، فقد فوجئ «محمد محمود باشا» والذى كان يشغل أيضا منصب وزير الداخلية، بالنائب «صبرى أفندى أبو علم» - صاحب الشارع الشهير الآن - وهو يقدم استجوابا له جاء فيه :
- حضرة صاحب الدولة وزير الداخلية..
شكلتم وزارتكم دون أن تتقدموا لممثلى البلاد كما تقضى بذلك التقاليد الدستورية بل تجنبتم مواجهة البرلمان تحت ستار التأجيل، على أنه لايزال لمجلس النواب كل الحق فى إعلان رأيه فى وزارتكم من الوجهة الدستورية، وهذا ما لا أتعرض له اليوم .
- وأنا رأيت أن الدستور يعطينى الحق فى أن أبادر من الآن بتوجيه هذا الاستجواب عقب ذلك القرار الذى اتخذتموه ضد مجلة «روزاليوسف» معتدين فيه على دستور البلاد وقوانينها، منتهكين بذلك حرمة الصحافة وحريتها، وما كان لى أن أنتظر انقضاء الشهر لتقديم هذا الاستجواب، فلقد رأيت أن الخطوة الجريئة التى خطوتموها تستدعى السرعة فى تنبيهكم إلى خطورة ما أقدمتم عليه !
- فلقد قرأت بالجرائد أن رجال وزارة الداخلية قد قاموا بمصادرة عدد 2 يوليو سنة 1928 من مجلة روزاليوسف وهو فى المطبعة لم ينشر ولم يوزع، ولا أدرى علام استندتم فى إصدار هذا القرار، ولكننى أعلم أن للبلاد دستورا تنص المادة الرابعة عشرة منه على أن حرية الرأى مكفولة، كما تنص المادة الخامسة عشرة منه على أن الصحافة حرة فى حدود القانون، والرقابة على الصحف محظورة، وإنذار الصحف أو وقفها بالطريق الإدارى محظور كذلك إلا إذا كان ذلك ضروريا لوقاية النظام الاجتماعي.
- ومضى صاحب الاستجواب يقول : وما لى أقارن وزارتكم بوزارة الشعب الدستورية فلنقارنها بوزارة مثلها هى وزارة «زيور باشا» فقد كانت وزارته هدفا لمختلف الانتقادات الجريئة والمطاعن الشديدة من جميع الصحف، وبالرغم من ذلك لم يبلغ به الأمر حد انتهاك أحكام الدستور بخنق حرية الصحافة، بل خنق الآراء قبل إعلانها وقيد الصحف قبل ظهورها والهروب من مواجهة الانتقادات مهما اشتدت .
لقد فررتم من مواجهة البرلمان بالأمس، وفررتم من مواجهة انتقادات مجلة اليوم - روزاليوسف - فحشدتم القوة لتقبروا بها حرية الرأى والتعبير والتصوير .
والآن اسمحوا لى أن أستجوبكم عن السند الذى تعتمدون عليه فى اتخاذ هذه الإجراءات الاستبدادية المخالفة للدستور التى لم نسمع بها إلا أيام قيام الأحكام العسكرية البريطانية ! «تحريرا فى 30 يونيو سنة 1928»
أما المفاجأة التى لم تخطر على بال «محمد محمود باشا» رئيس الحكومة فهى أن جريدة البلاغ التى صدرت يوم 2 يوليو 1928نشرت تحت عنوان «مصادرة روزاليوسف: ماذا فى العدد الصادر، صوره ومواويله ومقالاته» فتقول : وقع فى يدنا نسخة من هذا العدد ففتشنا تفتيشا دقيقا لنرى ما هى المقالات التى يخل نشرها بالأمن العام، وما هى هذه الصور التى تمس مقاما عاليا لا يجوز مسه، فلم نجد فيها إلا ما يجده قراء هذه المجلة الطريفة اللطيفة الشيقة من صور رمزية بريئة ونقد سياسى بريء .
ففى غلاف المجلة الأولى صورة ليحيى باشا وثروت باشا وصدقى باشا يحمل أولهم على ظهره آلة موسيقية، وثروت باشا يديرها، صدقى باشا بلياتشو يتنطط أمامهم، وثلاثتهم وقوف أمام دار المندوب السامى ونشيد الآلة الموسيقية هو الله يحمى الملوك، لآخر لحظة أدينى وياك، لما أشوف آخرتها معاك «بخاطرك بأه !!».. وفى المجلة صور متعددة منها الصورة التى تمثل «محمد محمود باشا» وهو يدوس الدستور بقدمه ليصل إلى كرسى الوزارة ويجلس فيه».
وأخيرا تقول «البلاغ» مدافعة عما نشرته روزاليوسف بأنها «ليس فيها ما يخل بالأمن ولا ما يمس بالآداب العامة، وأن «الباعث الحقيقى الذى بعثهم لمصادرة المجلة هو الغيظ والحنق والألم الذى لا ألم بعده من تصوير مخازيهم وكشف جرائمهم فى مجلة روزاليوسف».
ومضت الحكومة فى طغيانها وحاولت الدعاية لإصلاحاتها الداخلية والتى كان من بينها «ردم البرك والمستنقعات» مما أثار سخرية ودهشة الناس، ونشر الدكتور «سعيد عبده» موالا شهيرا على صفحات روزاليوسف - بعد عودة صدورها - كان الناس يتغنون به فى مجالسهم ومحافلهم : وكان الموال على لسان وفد من «الضفادع» يتحدث إلى رئيس الحكومة قائلا :
شعب الضفادع عاوز له ديكتاتور زيك
طولك وعرضك وفى ضعفك وفى عيبك
دور ما بين الطغاة، مالاقاش فيهم زيك
ضعيف وعامل قوي، أبكم وتترافع !
ما تحرموش دولتك نورك ولا ضيك!!
ويذهب الطغاة، وتبقى روزاليوسف وكل صحافة حرة !■
النحاس باشا
سعد باشا
محمد محمود
الملك فواد