الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

وداعا.. آمال

وداعا..  آمال
وداعا.. آمال


فى صباح الثلاثاء الماضى،19 يونيو، رحلت واحدة من أيقونات السينما المصرية فى عصرها الذهبى، رحلت «آمال فريد» التى ظلت لعشرات السنوات تعيش وحيدة، دون سؤال من أحد، دون مساندة أحد، دون اعتناء من أحد... فى الشهور الأخيرة تعرضت «آمال» لوعكات صحية متوالية جاءت نتيجة سقوطها فى الشارع وهو ما تسبب لها فى كسر فى الحوض، ومن خلال رسالة كتبها الطبيب المعالج لها على صفحته الخاصة على (فيس بوك). والتى نادى من خلالها أحباء الفنانة الكبيرة للسؤال عنها وزيارتها خاصة وأنها ذهبت وحدها للمستشفى..
بدأنا نتذكر «آمال فريد»، التى ربما كان يظن البعض أنها رحلت بالفعل. قبل تلك الواقعة نشرت بعض مواقع التواصل الاجتماعى صورا لـ«آمال» وهى جالسة وحيدة فى أحد المقاهى.. باعتبار أنها تعيش مشردة ولكن بالتواصل مع «أشرف زكى» نقيب الممثلين أكد أنها تعيش حياة طبيعية وعادية وفى مستوى معيشى جيد.. تلك الحادثتين كانتا السبب فى إثارة الفضول الصحفى لدينا فى (روزاليوسف) فقامت الزميلة «ابتسام عبدالفتاح» بالذهاب لمحل إقامة «آمال فريد» والتحقيق عن شكل وطبيعة حياة هذه الفنانة من قلب وموقع الحدث. وبالفعل نقلت (روزاليوسف) لقرائها فى العدد رقم (4686) الصادر بتاريخ 7 أبريل 2018.
فى التحقيق عرفنا كيف تعيش «آمال» يومها وحياتها، من خلال رواية الجيران وأهالى الحى. كانت تعيش فى شقة إيجار قديم فى حى الزمالك، بناية من طابقين، ذات الطراز النادر القديم، شقتها فى الطابق الأول، موصدة دائما بـ«القفل» ولا يسكن فى البناية معها سوى صاحب العقار الذى يسكن فى الطابق الثانى،والذى يقضى معظم شهور السنة خارج البلاد، كما لا يوجد حارس للعقار، منذ وفاة آخر حارس له من أربع سنوات.. جاءت «آمال» مع زوجها الأول وكان ضابطا فى الجيش ليعيشا فى هذه الشقة فى الستينيات تقريبا وبعد أن طلقت منه ظلت تعيش بها مع والدتها التى توفيت قبل أن تتزوج «آمال» للمرة الثانية من عازف الكمان «عبود أحمد حسن» الذى توفى منذ خمسة عشر عاما ومن يوم وفاته وهى تعيش وحيدة تماما.
كانت تبدأ يومها فى التاسعة صباحا، حيث تخرج من بيتها ولا تعود إلا فى المساء. وهذا روتين يومى لم تغيره منذ سنوات.. فى حوالى العاشرة صباحا، اعتادت الذهاب إلى أحد (الكافيهات) القديمة لتناول وجبة إفطار، عبارة عن كابتشينو  وكراسون وأحياناً تطلب حليبا فقط، ولا تتناول مشروباتها إلا فى (المج) الخاص بها، وتدفع ثمن ما تطلبه، وتفضل الجلوس على طاولة محددة لا تغيرها. وقد طلبت من العاملين بالمطعم عدم تغيير مكانها وهو ما تقبلوه تقديرا واحتراما لها. وتنصرف عادة فى الساعة الثانية ظهراً.
فى الثالثة عصرا، كانت تذهب يوميا لتناول الغداء فى أحد مطاعم الوجبات السريعة، تجلس على طاولة معينة بعيدة عن الناس، وتطلب وجبة محددة عبارة عن (ساندوتش برجر وبطاطس) لا يتعدى سعرها الخمسين جنيها، وتجلس فى صمت حتى الساعة السادسة مساء، ثم تغادر المطعم.
بعد مغادرتها المطعم تذهب إلى السوبر ماركت، الذى يقع أمام العمارة التى تسكن بها، لشراء كوب من الزبادى وخبز، وهى وجبة عشائها التى تتناولها فى مقهى يوجد أسفل البناية التى تعيش بها، ولا تطلب من العامل سوى كوب من الماء من (الحنفية)، وفى أحيان أخرى كوب من الحليب.. ثم تغادر المقهى فى التاسعة مساء، ليساندها العاملون به حتى باب شقتها.
كان الجيران قد كشفوا لنا بعض التفاصيل عن شكل حياتها، منها مثلا انقطاع الكهرباء عن شقتها لتأخرها فى سداد الفواتير المتراكمة عليها، وأنها لم تستعن بخادمة لتنظيف البيت منذ خمس سنوات تقريبا وأنها كانت ترفض أن يخطو أحد – أيا كان – داخل شقتها. وقد قال لنا صاحب محل بقالة يعيش فى المنطقة منذ سنوات، إنها أحيانا تدفع مبالغ أقل من أسعار الأشياء الحقيقية وأنه لا يراجعها فى ذلك لأنها – عشرة عمره وعمر والده من قبله – وأنه يدرك تماما أنها ليست بخيلة وإنما تعيش فى حالة خوف دائم من الغد، لأنها تتولى مسئولية نفسها بنفسها، وأنها لا تتعامل مع مكوجى أو مغسلة بالشارع، ولا تشترى منه مسحوق الغسيل، ورغم ذلك فملابسها كانت دائما نظيفة وأنها لا تحب البقاء بمفردها فى البيت لذلك تخرج يوميا فى الصباح ولا تعود إلا فى المساء، وكان قد أكد لنا أيضا أنها لم تكن ترغب فى أن يعرف أحد أنها كانت ممثلة لأن شكلها قد تغير، فتريد أن يتذكرها الناس بشكلها الجميل وصورتها الحلوة.. كما رفضت فكرة عرضتها عليها إذاعية شهيرة تسكن بنفس الشارع، بأن تذهب لدار المسنين.. ومع ذلك فقبل نهاياتها بأيام اضطرت «آمال» أن تقيم بإحدى دور المسنين بمصر الجديدة من أجل أن تتلقى الرعاية اللازمة لأن حالتها لم تكن تسمح لها بالحركة.
على مدار 14 عاما فحسب و29 فيلما فقط، تركت لنا «آمال فريد» طلة سينمائية غير عادية فى زمن غير عادى امتلأت فيه الشاشة بجميلات من شكل ولون، الشقراء والسمراء، الطويلة والقصيرة، فتلك تميزها ضحكتها والثانية جمال نظرتها وأخرى جسدها الممشوق، هذه خفيفة الظل والثانية رومانسية لأبعد مدى والأخيرة تبكينا بدموعها الكريستالية.. وفى وسط كل هؤلاء عاشت «آمال» 14 عاما و29 عملا كانا عنوانها (البساطة) فقط، الوجه الرقيق الذى يحتاج للكثير من التأمل كى تكتشف مواطن جماله. التمثيل الهادئ البعيد عن الانفعالات الزائدة، حتى فى أكثر مشاهدها الانفعالية كانت تكتفى بأن تخفى وجهها بيديها وتجرى من أمام الكاميرا. كانت تحمل جمالا له مذاق خاص وأداء تمثيليا نكاد لا نشعر به فحضورها ومرورها على شاشة السينما المصرية كانا أقرب بالنسمة الهادئة الباردة فى صيف صاخب وساخن.
رحلت «آمال فريد» وحيدة، وعلينا أن نتذكر قصتها جيدا ونعى أن هناك فنانين وفنانات يعانون من ذات الوحدة والانعزال والتجاهل والحرمان من التعبير عن الحب والامتنان لهم.. يجب أن نتخذ مما حدث مع الفنانة الكبيرة عبرة حتى لا نكرر نفس المأساة مرة ثانية. 