الخميس 2 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

أديب مناسبات.. محافظ.. وموالِ للسلطة؟!

أديب مناسبات.. محافظ.. وموالِ للسلطة؟!
أديب مناسبات.. محافظ.. وموالِ للسلطة؟!


منذ تعرفت على عالم القراءة والأدب كان اسم إحسان عبدالقدوس، ولم يزل، بالنسبة لى، ملتبسا، مزدوجا، ومثيرا لنوع من الإعجاب المشوب بالحذر، لا أستطيع أن أحدد موقفا أو شعورا محددا منه. لو فكرت فى رسم صورة تقريبية  لهذا التناقض، يمكن أن أقول إنها مزيج من الثائر الاجتماعى الرائد قاسم أمين على نجم الأدب الشعبى  (Pop Literature) الحالى أحمد مراد.

امتلك إحسان عبدالقدوس حسا متمردا يليق بطفل ولد عام ثورة 1919، وابن لـ«روزا اليوسف»، إحدى أقوى وأبرز النساء العربيات فى النصف الأول من القرن العشرين، وشاب وطنى مثقف فى عصر شجاع، شاب، شاعت فيه أفكار النهضة والتنوير والتحرر على كل المستويات.
هو ابن الحداثة العربية التى صعدت فى فترة ما بين القرنين واستمرت حتى منتصف القرن العشرين، قبل أن تنتكس عقب الاستقلال على أيدى الثوار أنفسهم الذين تحولوا إلى ديكتاتوريين رجعيين يحكمون مجتمعات جبانة تخشى التغيير.
هو أيضا ابن الطبقة المتوسطة المحافظة، والوسطية، بطبعها، التى تقف دائما على منتصف السلم، مرتعشة، عيناها على التجديد، وقدماها مشدودة بالتقاليد.
فى طفولتى كنت أسمع اسم إحسان عبدالقدوس مقرونا بالإعجاب بين نساء العائلة والجيران، بعضهن كن يقرأن قصصه ورواياته المسلسلة فى «روزاليوسف» و«صباح الخير». ربما انحفر اسمى المجلتين فى عقلى منذ هذا الحين، لأننى عندما كبرت وفكرت فى أن أصبح صحفيا، لم يخطر ببالى سوى أننى سأعمل فى هاتين المجلتين!
لكن إحسان عبدالقدوس لم يستهونى كأديب.. كنت أراه خفيفا وشعبويا أكثر من اللازم، مثله مثل أنيس منصور، بالرغم من إعجابى الشديد بلغتيهما السهلة، السلسة، المتدفقة مثل نبع من الماء.
لم أحب تركيزه على قصص الحب، ومشاكل المراهقات والنساء، وعالم الطبقة المرفهة، والسطحية التى يكتب بها أبعاد شخصياته وحبكات حكاياته.
كانت سمعة قصص وأفلام إحسان عبدالقدوس، ولم تزل، خاصة وسط المتطرفين والمتشددين دينيا، الذين دأبوا على مهاجمة وسب الفنانين والأدباء والمفكرين، بأنها قصص «جنسية»، «إباحية»، تحض على الانحلال، وغالبا ما يستشهدون على ذلك بأعمال مثل «النظارة السوداء» و«أنا حرة» و«الخيط الرفيع»، وبغض النظر عن أنهم ينطلقون من موقف رجعى، معاد للحرية، فهو ينم أيضا عن جهل بكيفية قراءة الأعمال الأدبية والتمثيلية، لأن القراءة التحليلية يمكن أن تكشف لنا أن جوهر أعمال إحسان عبدالقدوس تقليدى، محافظ، بل رجعى أحيانا، لا يكاد يرى الحرية إلا بين الفخذين كما يفعل المتطرفون، ويقرنها دوما بالزنى أو الجنس غير الشرعى، ولا يكاد يعترف بأهميتها، إلا لو كانت مرحلة مؤقتة على سبيل الوصول إلى الطريق الصحيح فى النهاية، الذى هو البيت التقليدى أو الحرية السياسية للوطن.
هل لاحظت، مثلا، أنه فى الوقت الذى تنتصر فيه الكثير من الأفلام المصرية «التقليدية» للحب الأول، فإن «الوسادة الخالية» ينتصر للزواج بدون حب.. أو أن بطلتى «أنا حرة» و«النظارة السوداء» تعلنان توبتهما فى الصفحات الأخيرة بعد أن تعتنق بطلة «أنا حرة» النضال السياسى، وتسجن فى سبيل الوطن وتتزوج من أحد الوطنيين (لا نعلم ما إذا كان أعطاها حريتها أم فرض عليها البقاء فى البيت والانفراد  وحده بثمار الانتصار والاستقلال، كما حدث للنساء وللقوى الشعبية عموما فى مصر والجزائر وباقى البلاد العربية؟)، وهو نفس ما تفعله ماجى بطلة «النظارة السوداء» التى تتخلى عن حريتها وطبقتها لتنضم إلى صفوف الطبقة العاملة والمقاتلين ضد العدوان الأجنبى.
لقد لجأ إحسان عبدالقدوس، مثل كثير من المفكرين المصريين، إلى الحلول الوسطية السهلة، التى تزعم التصالح بين الماضى والحاضر، الأصالة والمعاصرة، الموروث والجديد، الدين وحرية التفكير، حرية المرأة وبقائها ظلا للرجل. لقد قرأت مقالا لإحسان عبدالقدوس عن حرية المرأة من أسوأ ما قرأت فى حياتى فيما يتعلق بهذا الموضوع لأن ظاهره التقدمية وإنصاف النساء وباطنه الامتثال بل تبرير القهر والرجعية.
شخصيا قضيت سنوات أعتقد أن أعمال إحسان عبدالقدوس ليبرالية وسنوات أخرى أعتقد أنها رجعية، والسبب فى الحالتين هو الفهم الخاطئ لوظيفة الفن والطريقة التى يعمل بها، فليس المهم رأى المبدع أو الحل الذى يطرحه العمل وإنما قدرته على طرح المشكلة وإثارة تفكير ووجدان المتلقى.
والحقيقة أن قيمة أعمال إحسان عبدالقدوس لا تكمن فى موقفه ورأيه الشخصى من موضوعاته وأبطاله، بل فى شجاعتها وقدرتها على طرح الأسئلة الشائكة التى يتهرب منها الآخرون. وبالفعل يمكننا أن نلاحظ أن أعماله تمتلئ بالأسئلة وعلامات الاستفهام والمونولوجات الحائرة لشخصياته.
على عكس نجيب محفوظ مثلا، كتب إحسان عددا كبيرا من «أدب المناسبات»، مثل بعض القصص التى كتبها عقب ثورة يوليو تمجيدا فيها وفى عبدالناصر.. ومثل سيناريو الفيلم الوحيد الذى كتبه «الله معنا»، أو قصة «قلبى فى دمشق» التى كتبها زمن الوحدة مع سوريا، وكذلك بعض القصص التى كتبها فى عهد السادات، مثل «الهزيمة كان اسمها فاطمة» و«رصاصة واحدة فى جيبي».
لقد جنت الصحافة على إحسان الأديب، خاصة أنه كان دائما صحفيا مقربا من السلطة وصديقا شخصيا للمسئولين.. مع أنه صحيح أن الصحافة ساعدت إحسان على الانتشار، والأكثر من ذلك أنها ساهمت فى تقريب الأدب من الناس العاديين، وخلقت ما يعرف بالأديب النجم، الذى يكتب أدبا شعبيا على حلقات، وكان لإحسان آلاف المعجبات والمعجبين، مثل نجوم السينما، بل ساهمت أيضا فى تقريب الفجوة بين الأدب والسينما، حيث كان لأعمال إحسان المنقولة إلى السينما نصيب الأسد، وكان المخرجون والنجمات يتهافتن ويتنافسن على شراء قصصه لتحويلها لأفلام.
ولكن من ناحية ثانية جعلته يكتب وعينه على القارئ، بل على شرائح معينة من القراء، كما أن الكتابة على حلقات أدت لخروج كثير من رواياته بشكل متسرع، مفكك، لا مجال فيها للمراجعة والتنقيح. والأسوأ من ذلك أنها دفعته أحيانا إلى اقتباس أعمال أجنبية، مثل «لا أنام»  و«الطريق المسدود» المأخوذتين عن روايتين فرنسيتين شهيرتين.
على أية حال لم يكن إحسان وحده الذى اقتبس بعض أعماله من أعمال أجنبية، فالقائمة تضم معظم أدباءنا وفنانينا، مثل توفيق الحكيم ويوسف إدريس والمازنى، والعبرة بقدرة الفنان على صبغ الموضوع المقتبس بوجهة نظره ومعالجته الخاصة.. وإحسان لديه عالم يخصه وأسلوب أدبى ولغة لا يمكن إنكارها.
إن الوجه الآخر لأى إنسان لا ينفى الوجه الأول، بل يكمله ويؤكده فى بعض الأحيان، خاصة إذا كان صاحبه فنانا، ففى الالتباس والتناقض والشك، ينمو الفن ويزدهر، وليس فى الصوت الواحد الزاعق الممتلئ باليقين.