الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

المصريون يكسون الكعبةبالقماش «القبطى»

المصريون يكسون الكعبةبالقماش «القبطى»
المصريون يكسون الكعبةبالقماش «القبطى»


شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هو ذاك الشهر الذى تقرر فيه صناعة كسوة الكعبة المشرفة فى مصر من كل عام وإرسالها عقب تجهيزها فى موكب احتفالى ضخم إلى المملكة العربية السعودية.
هذا الموكب الاحتفالى الذى كان يخرج من مصر أطلق عليه (المحمل الشريف) نسبة إلى حمل الكسوة التى كان يرافقها الحجيج إلى بيت الله الحرام.

كسوة الكعبة المشرفة وصناعتها فى مصر ترجع إلى عهد أمير المؤمنين (عمر ابن الخطاب) رضى الله عنه وأرضاه، صصالذى أوصى بها نظراً لجودة القماش المصرى الذى كان يعرف باسم (القباطى) نسبة إلى أقباط مصر، وأيضاً إلى مهارة المصريين فى صناعة النسيج، وكانت تصنع الكسوة فى بادئ الأمر فى مدينة الفيوم التى اشتهرت بهذا النوع من القماش.
ظلت الكسوة منذ عهد (الفاروق) ترسل إلى السعودية واستمر على هذا التقليد كل من جاءوا بعده مروراً بالدولة الفاطمية والأيوبية والعباسية والعثمانية والمملوكية. الدولة الفاطمية هى الدولة الوحيدة التى خالفت المألوف فى كسوة الكعبة، حيث اهتم حكامها بإرسالها باللون الأبيض وليس - كما كان معتاداً - باللون الأسود الذى أعادته مرة أخرى (شجرة الدر) فى عهدها عام 1250 م، كما أن شجرة الدر كسرت الطريقة التقليدية التى كانت ترسل بها الكسوة وقررت إرسالها فى احتفالية ضخمة من خلال موكب رائع بدأته فى نفس العام الذى أدت فيه فريضة الحج لأول مرة، وظل هذا التقليد قائمًا حتى نهاية أسرة (محمد على). المحمل الذى خرجت به (شجرة الدر) كان على هيئة قمم هرمية عالية زينت بأبهى الزخارف، تحملها الجمال والبعير التى زينت هى الأخرى بأفخر الزينات وهذه الجمال والبعير كانت مخصصة فقط لحمل (المحمل الشريف)، حيث لا يجوز استخدامها فى أى أغراض أخرى. كان يقود المحمل قائد متين البنية، شعره مضفر وطويل ونصف جسده الأعلى عار، وكان المحمل يمر فى الشوارع الضيقة بالقاهرة القديمة حتى باب النصر، وفى هذا اليوم - أى يوم المحمل - كانت تتوقف جميع الأعمال فى البلد وتقفل الحوانيت - الدكاكين - والمحال الكبرى وتزدحم الشوارع بالأهالى الذين كانوا يرتدون أحسن الثياب وتزدان المبانى والشوارع بالبيارق - الأعلام - ثم يتجه الموكب خارج المدينة إلى الصحراء ويتقدم كل قسم فرقة من الموسيقى على ظهور الجمال فى وجود رجال القضاء والجيش والأمن بملابسهم الرسمية الفاخرة المزينة بنياشينهم الذهبية مصحوبين بفرق الدراويش بعماماتهم المختلفة الألوان، مع قيام البعض بألعاب بهلوانية كالمشى على أطراف السيوف وأكل الثعابين ورشق أسياخ الحديد فى وجوههم فتخترقها من الخد إلى الخد.
عندما تصل القافلة أو المحمل الشريف إلى خارج المدينة تعسكر فى الصحراء لمدة يومين أو ثلاثة - حسب حجم الإجهاد - بعدها يبدأ التحرك فى طريق يسمى (درب الحاج) ومنه إلى قناة السويس ثم قلعة (النخل) بوسط سيناء ثم إلى (العقبة) فـ (ينبع) وصولاً إلى الحجاز لتبدأ مناسك الحج التى ما إن تنتهى حتى تبدأ رحلة العودة التى كانت تستغرق 60 يوماً - وهى نفس المدة التى كانت تستغرقها ذهاباً. القافلة كانت بمجرد وصولها إلى مشارف القاهرة تجد الأهل والأصدقاء فى استقبالهم بالموسيقى والمظاهر الاحتفالية المختلفة، وقد أتوا معهم بالكسوة القديمة التى حلت محلها الكسوة الجديدة لتقطع القديمة قطعاً صغيرة وتوزع على المساجد والمشايخ والأمراء والنبلاء للتبرك بها.
فى ظل الدولة المملوكية أصر السلطان (الظاهر بيبرس) على إرسال الكسوة، حيث يقينه بأن إرسالها شرف يجب ألا ينازعه فيه أحد حتى لو وصل الأمر إلى القتال مثلما كاد يحدث مع ملك اليمن (المجاهد) عام 751 هجرية عندما أراد نزع كسوة الكعبة المصرية واستبدالها بالكسوة اليمنية، فلما علم أمير مكة أخبر المصريين الذين ألقوا القبض عليه وأرسلوه إلى القاهرة مصفداً بالأغلال، كما تم التصدى بقوة لبعض المحاولات التى كادت تحدث من الفرس والعراق.
ظلت كسوة الكعبة طوال عمر صناعتها بمصر تغطى تكاليفها من أموال المصريين عن طريق الضرائب التى تفرض عليهم لهذا الغرض، ومع مرور الزمن ومع بداية العصر الحديث - فى بدايات القرن الماضى - تم إنشاء دار خصيصاً لصناعة كسوة الكعبة المشرفة بحى (الخرنفش) بالجمالية بمنطقة القاهرة الفاطمية وشارع المعز لدين الله الفاطمى التى مازالت موجودة إلى الآن ويحتفظ فيها بآخر كسوة صنعت للكعبة عام 1962م قبل أن تتوقف مصر عن إرسال الكسوة بعد أن تولت المملكة العربية السعودية شرف صناعتها، وكانت الكسوة تصنع من الحرير الأسود المطعم بخيوط الذهب والفضة والمزين بالآيات القرآنية.
الكسوة كانت تتكلف - وقتها - 23 ألف دولار - أى حوالى 8 آلاف جنيه مصرى.. على اعتبار أن الجنيه المصرى وقتها كان يساوى 3 دولارات - كما أن مصاريف الحج التى تنفقها الحكومة المصرية كانت تصل إلى 330 ألف دولار - أى 110 آلاف جنيه مصرى، وذلك تحديداً عام 1909 - أيام حكومة الخديو (عباس حلمى) الثانى.
فى تلك الفترة وبمجرد الانتهاء من تصنيع كسوة الكعبة كان يصدر (فرماناً) - أى أمراً - يودع بالمحكمة الشرعية للإعلان عن بدء استقبال طلبات الراغبين من المصريين فى أداء فريضة الحج للسفرمع قافلة (المحمل الشريف) ليكونوا تحت رعاية أمير الحج والحرس وقافلة الأطباء والصيادلة الذين يتولون أمر علاجهم - إذا لزم الأمر - على أن تكون مصاريف الحج 25 جنيهاً مصرياً للشخص الواحد بالدرجة الأولى ويشمل المبلغ أجرة الجمل والباخرة و(الوابور) - القطار - وهى وسائل التنقل للحاج فى تلك الفترة - أما الدرجة الثانية فكانت تكلفتها 23 جنيهاً مصرياً و20 جنيهاً مصرياً للدرجة الثالثة، وإن اتفق اثنان من الحجاج على السفر بجمل واحد تكون القيمة 14 جنيهاً مصرياً لكل منهما، وكان يخرج إلى هذه الرحلة أو القافلة من المصريين كل عام الآلاف.
الرحلة كانت تبدأ يوم السابع والعشرين من شهر شوال، وكانت نقطة انطلاق المحمل من أمام قصر (محمد على) بالقلعة، يقود المحمل فرقتان من الفرسان الأتراك على خيولهم، ثم بعض الرجال - من موظفى الدولة - على الجمال أيضاً، تتبعهم مجموعة أخرى من الجمال تحمل قرباً وصناديق بها الاموال المخصصة للإنفاق على رحلة الحج، وبها أيضاً أمتعة أمير الحج والكسوة الجديدة وتضم (كسوة الكعبة المشرفة)، (كسوة مقام الخليل إبراهيم)، (ستارة باب التوبة) وبيارق الكعبة والمنبر، يتخلل الموكب فرق الدراويش وهم يحملون الأعلام والمصابيح الملونة، وراقصو التنورة وحملة المشاعل، كذلك يضم الموكب بعض أعضاء طوائف الحرف وأئمة المذاهب الأربعة (المالكية - الشافعية - الحنفية - الحنبلية) وخلف كل هذا رجال الطرق الصوفية يدقون الطبول ويرفعون الرايات.
الغريب أن هذه الاحتفالية الفريدة التى كان يحرص عليها كل حكام وولاة مصر لم يحضرها قط الخديو (إسماعيل) الذى كان ينيب عنه دائماً ولى عهده (توفيق) الذى ظل يحرص على حضورها حتى بعد أن أصبح خديو مصر.
الحاكم فى تلك الاحتفالية - أو من ينوب عنه - كان يجلس وسط السرادق المعد للاحتفالية لإعطاء إشارة انطلاق المحمل، ولتسليم زمام الجمل الذى يحمل كسوة الكعبة المشرفة إلى أمير الحج الذى يكون بذلك قد أولاه الحاكم أو من ينوب عنه ثقته ومنحه جميع الصلاحيات والسلطة على كل من معه، بعدها يطوف المحمل - الذى يحرص على مشاهدته كبار رجال الدولة وكبار الشخصيات من المصريين والأجانب - شوارع القاهرة تتقدمه البغال التى تجر مدفع (المحمل الشريف)، وكانت تمنح البغال والجمال المشاركة فى (المحمل) تراخيص رسمية تدمغ فى رقبتها، هذه التراخيص تسمح لها بالتجول فى شوارع مصر دون أن يعترضها أحد.