شمس بدران ومصطفى أمين والفاجومى.. نزلاء 5 نجوم

روزاليوسف الأسبوعية
يلعب المكان دورا عظيما فى حياة الإنسان.. وهكذا كان الحال معى وأنا فى السادسة من عمرى.. نشأت وتربيت فى حى مصر القديمة جنوب القاهرة بالقرب من منطقة طرة التى كانت فى العام 1948 تختلف تماما عما هو قائم اليوم.. فالخضرة تكسو المكان والمزارع تحيط بنا من كل جانب قبل أن تمتد يد الإهمال لتغتال كل ما هو أخضر وتزرع مكانه تلك الكتل الأسمنتية البغيضة، والشىء الغريب أن هذه البقعة من الأرض كانت بمثابة المتنفس للأسرة بأكلها فهى تمتد بطول 15 كيلو مترا، ويحدها جبل المقطم حتى النيل بمساحة عريضة تمتد لخمسة كيلومترات.
هذه البقعة الخصبة من الأرض هى التى كانت تمد القاهرة بكل ما تحتاج إليه من خضروات وفاكهة.. وفيها أحياء مصر القديمة.. والبساتين والمعادى وحى دار السلام.. وقد لفت انتباهى مساحة شاسعة من الأرض مسورة بأسوار عالية وفوق الأسوار هناك أسوار شائكة من السلك وفوق ذلك هناك عساكر مدججون بالسلاح يحرسون هذا المكان المثير للانتباه، وعندما سألت والدى عن السر وراء كل هذه الاستحكامات.. أجابنى أن داخل هذا المكان يعاقب المجرمون وكانت هذه هى المرة الأولى التى أسمعه فيها وأتعرف على (السجن) وآثار دهشتى وجود عدد كبير من الصناديق الحديدية المليئة بالأحجار وفهمت من والدى أن بعض المساجين يقضون فترة الأشغال الشاقة يقومون خلالها بتكسير الأحجار ثم نقلها من الجبل الشرقى (محجر طرة) إلى ميناء نهرى بالنيل الغربى لنقلها بالمراكب الشراعية القليلة التكلفة إلى حيث يتم استخدامها فى البناء ورصف الطرق.
واسترسل أبى فى شرح الأهداف التى من أجلها أقيمت السجون فى مثل هذه الأماكن الخالية من البشر والتكتلات السكانية وأهمها الدواعى الأمنية ذلك لأن وجود المساجين داخل كتلة بشرية كبيرة يجعل من عملية السيطرة عليهم أمرا صعبا للغاية خصوصا فى حالات الهروب أو العصيان، بالإضافة إلى أن هناك أسبابا صحية تتعلق بانتشار الأوبئة والأمراض المعدية.
واستغل والدى إنصاتنا واندهاشنا الشديد لحكاياته من السجون والعقاب والثواب وألقى على أسماعنا درسا فى حقوق الوالدين ووجوب الطاعة لهما من الأبناء، لأن الإنسان كالزرع إذا وضعت بذرته فى أرض طيبة فسوف يعطى ثمرا طيبا بالتأكيد، أما إذا غرسته فى أرض غير صالحة فسيكون الحصاد بالضرورة سيئا.. والأرض هنا هى الأسرة إذا صلحت أحوال الأسرة صلح كل أفرادها وانعدلت أحوال المجتمع. أما إذا فسدت فسوف يتحول كل فرد فيها إلى مجرم سيكون مصيره الخلود فى هذه البقعة المعزولة عن الحياة والمسورة بالأسلاك.. ولا أدرى لماذا صور لى خيالى أن هؤلاء المجرمين أشبه بالعمالقة وأنهم قادرون على إيذاء البشر وأن لهم قدرات خارقة ولذلك كنت أرجو والدى ألا يمر بنا بسيارته أمام هذا المكان الذى يأوى الأشرار.
ويا سبحان الله شاء قدرى بعد ذلك بسنوات أن أكون أحد هؤلاء الذين يعيشون داخل أسوار (طرة) ليس من باب الجريمة لا سمح الله ، ولكن بحكم الوظيفة.. وأصل الحكاية أننى بعد الثانوية العامة تقدمت بأوراقى إلى كلية الشرطة والحمد لله مرت السنوات الدراسية بخير وكنت أحد الطلبة المتفوقين العاشقين للعمل الشرطى، وفى السنة الدراسية الثالثة كان علينا أن نقوم بزيارة للمواقع الشرطية المختلفة.. ومنها مصلحة السجون ليكون الطلبة على علم بطبيعة العمل فى هذه المواقع وكنت ضمن فوج من الطلاب اتجهنا ذات صباح باكر فى أحد أيام خريف العام 1963 حيث توجهت بنا سيارة شرطة كبيرة نحو سجن طرة واستقبلنا هناك ضباط من السجن.
قاموا بشرح نظام العمل داخل السجن، وبالطبع استدعيت من الذاكرة تلك الأيام البريئة للطفولة وخيالاتها العجيبة وأحاديث الوالد والنبت الطالح والنبت الصالح.. ولم أفق من شريط الذكريات إلا عندما أصبحنا أمام بوابة حديدية تؤدى إلى ممر تصطف عند آخره عنابر إيواء النزلاء.. عند هذه النقطة تحديدا بدأت أشعر أن هناك طعما آخر للحياة وفارقا رهيبا بين الوقوف أمام البوابة الحديدية من جهة هى الحرية بكل ما تعنى ومن جهة أخرى هى اللوائح والأعراف والقيود والنوم بمواعيد والاستيقاظ أيضا بالساعة والثوانى حتى دخول الحمام يخضع للتوقيت المحدد.. ولم يكن طعم الحياة فقط هو الذى تغير ولكن رائحتها أيضا..
وهى رائحة سوف تعتادها الأنوف وستصبح ماركة مسجلة على كل السجون، ففيها تختلط رائحة الطعام الذى يتم طهيه دون إضافة أى تحابيش أو توابل ستجد هذه الرائحة مضروبة مع أنفاس العديد من البشر الذين يقضون فترة العقوبة مع الرائحة التى تنبعث من أجسامهم، مضيفا ذلك الرطوبة التى تزيد الإحساس بحرارة الجو وتجعلك تشعر بصعوبة بالغة فى عملية التنفس وتساعد على الاحتفاظ برائحة المكان فلا تزول منه على الإطلاق !
فى هذا الجو الملبد بالروائح الكريهة بدأ الضباط يشرحون لنا كيف يقيم هؤلاء المساجين فى السجن وبدا أنهم يصفون لنا الجنة ونعيمها والعجيب أن بعضهم كانوا يؤكدون على هذا المعنى بينما كنا نحن طلبة كلية الشرطة نكاد نختنق من عفن المكان، فأخذ أحدهم يصف الجنة الموعودة وقال.. السجن هو أفضل سجون مصر والطعام المقدم للنزلاء لا يضاهيه سوى الطعام المقدم فى الفنادق المعتبرة وربما لا يجده بعض المواطنين خارج أسوار السجن.. نظرت بعينى أتجول فى الوجوه التى حولى وأغلبها لمساجين تم اختيارهم بعناية وجدتهم أكثر حماسا من الضباط فى رسم صورة للمكان لا تتفق على الإطلاق مع حقيقته.. وكما كونت انطباعا فى طفولتى حول هذا المكان العجيب.. خرجت وأنا طالب فى سنة ثالثة بكلية الشرطة وأنا أدعو الله عز وجل من أعماقى بألا أكون يوما ما من ضباط السجون ولا حتى منتميا إلى المصلحة من أساسها.
وبعد أن تخرجت فى كلية الشرطة فى العام 1965 استجاب الله لدعائى، وبالفعل توجهت إلى مديرية أمن أسوان.. صحيح أننى ابتعدت كثيرا عن أهلى وناسى وأصحابى، ولكننى حمدت الله فما أجمل الحياة بعيدا عن الأسوار ورائحتها والتى كلما تذكرتها أحسست بثقل رهيب يصيب جهازى التنفسى ومرت الأيام هادئة مطمئنة، فأهل أسوان لهم طبيعة ودودة طيبة وهم إذا أبديت لهم احتراما قابلوك باحترام أشد وإذا قابلتهم بالمراحب.. كان ترحابهم بك أكثر حرارة ولم يكدر صفو هذا الجو الرائع فى أسوان.. الرائع أمنيا إلا الحرارة هناك، الحرارة أجارك الله لا يستطيع أن يتحملها بشر خصوصا فى فصل الصيف ، ولكن هذا الحر القاتل فى أسوان كان أهون ألف مرة من الربيع خلف أسوار أى سجن فى القاهرة.. أقول مرت السنوات رائعة فى هذا البلد الآمن حتى وقعت أكبر نكبة فى تاريخ مصر الحديث عندما وقعت هزيمة 1967، وتم تقديم العديد من قيادات الجيش الكبرى إلى المحاكمة وصدر على البعض منهم أحكام وتم إيداعهم فى السجون فى مختلف أنحاء مصر، ومن بين هؤلاء كان وزير الحربية الأسبق شمس بدران وبالطبع كنت أتابع الأخبار من خلال الجرائد شأنى كشأن أى مواطن مصرى.. حتى تم استدعائى ذات يوم من قبل رئاستى وأخطرونى أنه قد تم اختيارى من بين عدد من الضباط للعمل فى السجن الذى يقيم به شمس بدران.. وانتابتنى أحاسيس متناقضة.. فقد عرفت السعادة طريقها إلى قلبى فسوف أعود إلى مراتع الصبا ومسقط الرأس حيث تقيم أسرتى وكنت قد تزوجت وزوجتى تقيم فى القاهرة.. ولكن شعوراً بعدم الإحساس بالرضا انتابنى حيث إننى سأقضى معظم وقتى وكأنى سجين أقيم داخل أسوار السجن مع مجرمين وقتلة وخارجين على القانون وطعام تأبى الكلاب الضالة أن تأكله وهواء مسمم.. وفوق ذلك فقد تمسك أهل أسوان الطيبون بى وتحدث البعض منهم مع رؤسائى فى مديرية الأمن وطالبوا ببقائى وسطهم.
فقد كانوا بالفعل خير الأهل والجيران أحاطونى بمشاعر دافئة وود بغير حدود وعشرة لن أنساها ما حييت ولكنى اتخذت قرارى بتنفيذ الأمر والعودة إلى القاهرة بأسرع وقت ممكن لاستلام وظيفتى الجديدة.
وقبل موعد التنفيذ بأسبوع جاءت زوجتى من زيارة خاطفة لأسرتها فى القاهرة وعندما علمت بالخبر.. تبدلت أحوالها وأصيب وجهها باحمرار وجلست وقد ألقت رأسها بين يديها وكأنها تندب حظها العثر وعندما سألتها عن سر غضبها الرهيب هذا صارحتنى بأن عملية النقل إلى السجون هى بمثابة فأل سيئ.. ولكننى شرحت لها طبيعة المهمة حيث إن الضباط الذين تم اختيارهم سيقومون بالتعامل مع شخصيات رفيعة المستوى.. فهم مساجين من نوع خاص..
المهم أن زوجتى فى نهاية المطاف تقبلت الأمر وعلى عجل قامت بتجهيز أغراضنا استعدادا للعودة إلى القاهرة وقد كان السجن الذى وقع عليه الاختيار يضم السيد شمس بدران وهو سجن ملحق مزرعة طرة.. الكائن بمنطقة سجون طرة!!
ولمدة شهرين دخلنا فى تدريبات متواصلة لنتعرف على أوجه النشاط وكيفية التعامل مع المسجونين فى نطاق القوانين والأوامر واللوائح وحدث أن استدعانى العميد عبدالله عمارة وكنا فى العام 1968 وكان الرجل يشغل منصب مدير المنطقة وصارحنى بأن عملية الاختيار جاءت من أعلى مستوى فى الوزارة وفوق ذلك فقد تم اختيارى مجددا لمهمة أكثر خطورة وذلك للعمل ضابطا بسجن جديد هو سجن (مزرعة طرة) حيث تم اقتطاع جزء من سجن مزرعة طرة وتجهيزه باحتياطات أمنية مشددة وأجهزة متقدمة وتجديد زنازينه وتحديدها حيث لا تستقبل الزنزانة سوى نزيل واحد فقط وتحتوى على سرير ودورة مياه مستقلة لكل غرفة وهو أمر لم يكن معهودا فى سجون مصر فى ذلك الوقت، وأفادنى العميد عمارة بأن نزلاء هذا السجن الجديد هم أنفسهم الضباط المحكوم عليهم فى قضية النكسة وعلى رأسهم وزير الحربية شمس بدران وكانت هناك استحكامات شديدة وحراسة غير مسبوقة تحسبا لأى عملية هروب منظم للنزلاء الجدد خصوصا أن من بينهم العميد جلال الهريدى قائد قوات الصاعقة فى الجيش والعقيد أحمد عبدالله وهما من مؤسسى قوات الصاعقة المصرية ولديهما شعبية رهيبة وولاء جارف بين رجال الصاعقة المصرية..
هنا بدأ الفأر يلعب فى صدرى.. فالمهمة التى تصورت أننى مقبل عليها لم تكن بهذه البساطة التى تخيلتها فقد أحسست أنهم اختارونى ربما لدبلوماسية أتقنها فى التعامل مع الآخرين أو لود أكنه للجميع دون استثناء ولكن بعد أن علمت بنوعية النزلاء وخطورتهم الشديدة أدركت أن هناك مسئولية كبرى سوف تزيد همومى وتشغل بالى وتلقى بعبء على تفكيرى.
نعم.. هذه مهمة يستحيل معها صفاء الفكر أو روقان البال.. إنها تستدعى كل أشكال اليقظة وجميع أسباب الانتباه والتحسب لكل الأمور بل أسوأ الأمور حتى لا يحدث ما لا تحمد عقباه.. وبالطبع لم يكن فى مقدورى الانسحاب والحق أقول.. أننى توكلت على العلى القدير فى أن يلهمنى الصواب ويمدنى بعونه لأداء هذه المهمة التى تحولت إلى كابوس جعل النوم يفارقنى والهم يعرف طريقه إلى نفسى ومع ذلك لم أتفوه بكلمة لأحد ممن حولى وقررت أن أحبس أحاسيسى داخلى حتى فى أكثر المواقف صعوبة وكنت دائما أحاول رسم ابتسامتى الهادئة المعهودة.. ولكن داخلى اعتصرتنى آلام كادت تعصف بنفسى كانت على الدوام هادئة مطمئنة حتى علمت بأخطار تنتظرنى، وعلى رأسها هؤلاء القادة الذين أسسوا لأحد أعظم ما نملك من قوات وهى قوات الصاعقة المصرية.. فكيف لى أن أتحمل مسئولية تأمين وحفظ حياة رجل مثل شمس بدران أو جلال الهريدى.
لا أخفى على حضراتكم أننى قارنت بين البيئة الهادئة والأيام الجميلة الرائعة التى قضيتها بين أهل أسوان وما أنا مقبل عليه من مشاكل وأخطار وفوق ذلك زاد من خوفى على المستقبل وما تحمله تلك الجملة التى رددتها زوجتى بشأن انتقالى إلى السجون وما ذكرته تحديدا ووصفته بأنه الفأل السيئ.. بدا لى وكأنها تقرأ طالعى فى كتاب مفتوح !!∎
مهامى فى السجن
حولت حياتى إلى
كابوس طيَّر النوم
من عينى
طمأنت زوجتى
بأننى سأتعامل
داخل السجن مع
شخصيات رفيعة
المستوى ومساجين
من نوع خاص
عندما رشحت للعمل
سجانا شعرت
بأنى سأقضى حياتى خلف
الأسوار مع مجرمين وقتلة
بدأ «الفأر يلعب فى
عبى» بعد أن علمت
بنوعية النزلاء
وخطورتهم الشديدة
صور لى خيالى
الطفولى أن
المساجين أشبه
بالعمالقة ولهم
قدرات خارقة
دخلت بوابة السجن
الحديدية فشعرت
أن للحياة طعما
ورائحة أخرى
فى جو ملبد
بالروائح الكريهة
بدأ الضباط
يشرحون لنا حياة
المساجين وأظهروها لنا
مثل الجنة ونعيمها
دعوت الله من أعماقى
وأنا طالب فى كلية
الشرطة بألا أكون
من ضباط السجون
إدارة السجن اختارتنى
لمهمة أكثر خطورة مع
قادة الجيش المحكوم
عليهم فى قضية النكسة