عبر أدواتها الدبلوماسية والسياسية
مصر ترسم حدودها الاستراتيجية بخطوط حمراء
آلاء البدرى
تُعَبر الخطوط الحمراء التى لا تقبل القاهرة المساس بها؛ عن حدود المصالح العليا للدولة، وهى خطوط لم تأتِ بوصفها تهديدًا أو تصعيدًا؛ بل إعلانًا صريحًا عن إدراك مصر العميق لموقعها، وتجسيدًا واضحًا لرؤيتها فى حماية أمنها القومى، عبر الأدوات السياسية والدبلوماسية، والقوة عند الضرورة.
ولا شك أن بيان رئاسة الجمهورية الأخير عن الخطوط الحمراء فى السودان؛ أثبت أن العقيدة الأمنية المصرية تتميز بإدراكها العميق بأن جغرافيا الأمن القومى لا تقاس بالخرائط وحدود الدول فحسب؛ بل تشمل عمقًا استباقيًا متعدد الأبعاد.
وتُعَد مصر من الدول القليلة التى تضع تصورًا دقيقًا ومتكاملًا لحدود أمنها القومى، لا يقتصر على حماية الأرض والحدود الجغرافية؛ بل يشمل الفضاء الحيوى المحيط بها برًا وبحرًا، ودائمًا وفى الوقت المناسب ما تصدر مصر بيانات حاسمة تؤكد أنها تنظر إلى أمنها القومى باعتباره منظومة شاملة تتداخل فيها عوامل الأمن بالجغرافيا، والديموجرافيا والاقتصاد والثقافة بالسياسة، ولذلك فإن أى اضطراب فى محيطها الإقليمى؛ خصوصًا فى دول الجوار المباشر (السودان أو ليبيا أو غزة) يُعَد تهديدًا مباشرًا يستوجب التحرك والتصدى له، وجزءًا لا يتجزأ من معادلة الأمن المصرى التى ترفض أى تسلل للفوضى أو الإرهاب أو التطرف، سواء عبر الأفراد أو الأفكار أو الميليشيات، أو الأجندات العابرة للحدود.
خطوط السودان الثلاث
خلال زيارة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السودانى، إلى القاهرة، أصدرت رئاسة الجمهورية بيانًا رسميًا حازمًا، ورغم أنه لم يحدد منطقة بعينها كحدود للأمن القومى المصرى؛ فإنه حمل رسائل سياسية مهمة تؤكد أن مصر وضعت الخطوط الحمراء على حدودها الجنوبية، فى إشارة واضحة إلى أن أمن السودان واستقراره بات جزءًا لا يتجزأ من الأمن القومى المصرى.
وركز البيان على ثلاث نقاط واضحة، أولاً: إن مصر تَعتبر وحدة السودان وسلامة أراضيه خطًا أحمر، وعدم السماح بانفصال أى جزء من أراضيه، أو خلق كيانات موازية تهدد كيان الدولة السودانية.
وثانيًا: عدم المساس بمؤسّساته الوطنية وعلى رأسها الجيش السودانى.
وثالثًًا: عدم العبث بمقدرات السودان وشعبه.
وأكدت القاهرة؛ أن أى محاولة للمساس بتلك الثوابت تُعَد تهديدًا مباشرًا للأمن القومى المصرى، كما شدّد البيان على أن مصر تحتفظ بحقها الكامل فى اتخاذ ما تراه مناسبًا من إجراءات استنادًا إلى مبادئ القانون الدولى، واتفاقية الدفاع المشترك لحماية حدودها الجنوبية، ومنع أى امتداد للفوضى أو التهديدات إلى داخل أراضيها.
ولم يقتصر البيان على الجوانب البروتوكولية أو السياسية المعتادة؛ بل جاء محملاً برسائل إنسانية واضحة، عكست التزام مصر العميق بثوابتها الأخلاقية والإنسانية تجاه الشعب السودانى، وأن حماية المدنيين وصون كرامتهم تظل أولوية لا تقبل المساومة فى السياسة الخارجية المصرية.
وأدانت مصر بشكل صريح الانتهاكات الجسيمة فى إقليم دارفور ومدينة الفاشر، مشددة على ضرورة وقف إطلاق النار بشكل فورى وغير مشروط، وتهيئة المناخ لاستئناف حوار سياسى شامل يضم كافة الأطراف السودانية.
اتفاقية الدفاع المشترك
أثارت الإشارة إلى اتفاقية الدفاع المشترك فى البيان الرسمى الصادر عن الرئاسة جدلاً واسعًا على منصات التواصل الاجتماعى؛ حيث انقسمت الآراء بين من أكد وجودها، ومن نفى سريانها، غير أن الوقائع التاريخية تثبت أن اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر والسودان قد وقّعت بالفعل فى 15 يوليو 1976 فى عهد الرئيسين أنور السادات وجعفر نميرى، وتم التصديق عليها فى السودان بأمر مؤقت أقره مجلس الشعب السودانى فى دورته الطارئة بتاريخ 1 أغسطس 1976 .
تنص المادة الثامنة من الاتفاقية على أن التصديق يتم وفق الأوضاع الدستورية فى كل من الدولتين، على أن تتبادل وثائق التصديق فى وزارة خارجية جمهورية السودان الديمقراطية، وتُعَد الاتفاقية نافذة من تاريخ التبادل.
وعندما شهدت السودان تذبذبًا؛ خصوصًا بعد انتفاضة رجب الشعبية، طالبت بعض القوى السياسية السودانية بإلغاء الاتفاقية فورًا، وقد نص إعلان كوكادام الموقّع فى 24 مارس 1986 بين التجمع الوطنى لإنقاذ البلاد والحركة الشعبية لتحرير السودان على إلغاء الأحلاف العسكرية التى تمس السيادة الوطنية، فى خطوة اعتبرت تمهيدًا لعَقد مؤتمر دستورى قومى، ومع ذلك لم يصدر أى إعلان رسمى بإلغاء الاتفاقية؛ بل على العكس جاء ميثاق الإخاء الموقّع فى 21 فبراير 1987 بين رئيس الوزراء المصرى آنذاك الدكتور عاطف صدقى ونظرائه السودانيين؛ ليؤكد استمرار التعاون، وإن كان بصيغة جديدة؛ حيث اعتبر الميثاق بمثابة نسخ ضمنى لاتفاقية الدفاع المشترك؛ استنادًا إلى القاعدة الأصولية القائلة بأن اللاحق ينسخ السابق.
كما شهدت العلاقات العسكرية بين البلدين تطورًا لافتًا فى السنوات الأخيرة، إذ تم توقيع اتفاقية تعاون عسكرى جديدة عام 2021، بين وزير الدفاع المصرى الفريق محمد فريد ونظيره السودانى الفريق أول ركن محمد عثمان الحسين، وأعلن حينها أن الاتفاقية تهدف إلى تعزيز الأمن القومى المشترك، وتوّجت بسلسلة من التدريبات العسكرية المشتركة، أبرزها نسور النيل 2 استكمالاً لنسور النيل1 التى كانت فى 2020 قبل توقيع الاتفاقية، ثم حُمَاة النيل فى2021 التى شاركت فيها قوات برية وبحرية وجوية من الجانبين؛ بهدف توحيد أساليب العمل والتصدى للتهديدات المحتملة.
ورغم التباين فى الرؤى بين من يميز بين اتفاقية الدفاع المشترك ذات الطابع التنفيذى الملزم، واتفاقيات التعاون العسكرى ذات الطابع التنسيقى؛ فإن الثابت هو أن العلاقات العسكرية بين مصر والسودان لم تنقطع؛ بل تطورت وفقًا للمتغيرات السياسية والإقليمية، مع احتفاظ القاهرة بحقها فى الاستناد إلى الأطر القانونية القائمة عند الضرورة.
وأشار البيان المصرى بشكل صريح للحقوق التى تكفلها مبادئ القانون الدولى، قبل الإشارة إلى اتفاقية الدفاع المشترك.
خط «سرت- الجفرة»
على خلاف الموقف المصرى فى السودان، جاء الخط الأحمر الذى أعلنته القاهرة فى ليبيا أكثر وضوحًا وتحديدًا، متمثلاً فى محور «سرت- الجفرة»، الذى أعلن عنه فى يونيو 2020 كحد جغرافى على الأرض لا يسمح بتجاوزه دون رد مباشر من مصر؛ نظرًا لما يمثله من أهمية استراتيجية تمس صميم أمنها القومى.
والمحور يبعد نحو 1000 كيلومتر عن الحدود المصرية، ومع ذلك لم ينظر إلى الإعلان المصرى كتصريح سياسى؛ بل تعاملت معه جميع الأطراف بجدية منذ اللحظة الأولى، باعتباره ترسيمًا فعليًا لحدود النفوذ والتوازن فى الأزمة الليبية، ورسالة واضحة بأن مصر ضامن رئيسى للاستقرار فى جوارها العربى.
وقد حال هذا الخط دون تقدُّم القوات القادمة من الغرب باتجاه الشرق، ومنع أيضًا أى محاولة للسيطرة على مدينة سرت، التى تُعَد بوابة الهلال النفطى؛ حيث تتركز أهم الحقول والموانئ النفطية فى ليبيا.
وتدرك مصر أن وقوع تلك المنطقة فى قبضة ميليشيات مدعومة من قوى أجنبية، من شأنه أن يخل بتوازن القوَى، ويهدد استقرار ليبيا واقتصادها والمنطقة بأسْرها، كما أن إعلان الخط الأحمر كان بمثابة رسالة ردع صريحة للتدخل التركى فى ليبيا، إذ توقفت العمليات العسكرية عند محور «سرت- الجفرة» بعد هذا الإعلان، مما ساهم فى ترسيخ وقف إطلاق النار لاحقًا، وقد عزز ذلك من مكانة مصر كطرف فاعل فى الملف الليبى، ودفعها بقوة نحو دعم الحل السياسى بدلًا من الحسم العسكرى؛ خصوصًا أن هذا المحور يمثل نقطة التقاء استراتيجية بين الشرق الليبى؛ حيث تسيطر قوات الجيش الوطنى بقيادة المشير خليفة حفتر، والغرب الليبى.
قطاع غزة
منذ اندلاع العدوان الأخير على قطاع غزة، وضعت مصر جملة من الخطوط الحمراء الصارمة التى تعكس ثبات موقفها الاستراتيجى تجاه القضية الفلسطينية، وفى مقدمتها رفض قاطع لأى محاولة لتهجير الفلسطينيين من القطاع، سواء إلى سيناء أو إلى أى مكان آخر، باعتبار أن هذا السيناريو يمثل تجاوزًا غير مقبول، ويفتح الباب أمام تصفية القضية الفلسطينية، وإنهاء حق العودة.
وترى القاهرة أن مثل تلك المخططات لا تهدد فقط الوجود الفلسطينى على أرضه؛ بل تشكل أيضًا خطرًا مباشرًا على الأمن القومى المصرى، من خلال فرض ترتيبات أمنية جديدة على حدودها الشرقية، وهو ما تعتبره مساسًا بسيادتها الوطنية.
ويظل الخط الأحمر الأبرز فى هذا الملف هو سيناء؛ حيث تؤكد مصر بشكل دائم أنها ليست أرضًا بديلة، ولن تسمح بأى مشروع يغير طبيعة حدودها، أو يفرض واقعًا جديدًا على أراضيها.. وقد ساهم هذا الموقف الحازم فى تعطيل وإفشال مشاريع التهجير التى طرحت خلال السنوات الأخيرة، ليؤكد أن القاهرة تربط أمنها القومى ارتباطًا واضحًا ببقاء الفلسطينيين على أرضهم، وصون حقوقهم المشروعة.
النهر والبحر
يُعَد وضع مصر لخطوط حمراء للنهر والبحر؛ ترجمة عملية لفلسفة الأمن القومى المصرى الشامل الذى لا يقتصر على حماية الحدود؛ بل يشمل الدفاع عن الموارد الحيوية التى تقوم عليها الدولة والمجتمع، وإذا كانت تلك الخطوط الحمراء التى رسمتها مصر فى السودان وليبيا وقطاع غزة، ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالأمن؛ فإن خطها الأحمر فى ملف نهر النيل يتجاوز البعد الأمنى ليصل إلى شريان الحياة ذاته، ومن هذا المنطلق تتعامل القاهرة مع أى تهديد لحصتها التاريخية فى مياه النهر باعتباره تجاوزًا للخطوط الحمراء، لا يقل خطورة عن أى تهديد عسكرى على حدودها، وقد عبرت مصر مرارًا عن تمسكها بحقوقها المائية مستندة إلى اتفاقيات دولية راسخة، ومؤكدة أن التعاون هو السبيل الأمثل لتحقيق التنمية المشتركة بين دول الحوض، دون المساس بحقوقها أو فرض الأمر الواقع.
ووضعت مصر الخطوط الحمراء فى ملف نهر النيل فى ضوء مواقف وتصريحات كثيرة مثيرة للجدل اتخذتها إثيوبيا، أو أدلى بها رئيس الوزراء الإثيوبى آبى أحمد الذى كان يشغل سابقًا منصبًا فى جهاز المخابرات الإثيوبى، وقد أقر بنفسه بعد توليه الحكومة أن مشروع سد النهضة مشروع سياسى بحت، قبل أن يغير موقفه لاحقًا بعد أن لمس تأييدًا شعبيًا واسعًا للمشروع داخل إثيوبيا.
وفى إطار استراتيجية مصر لحماية أمنها المائى والقومى؛ كثفت تحركاتها الإقليمية ووقّعت سلسلة من الاتفاقيات مع دول محورية فى محيط حوض النيل، وفى عام 2022 أبرمت اتفاقيات تعاون مع جيبوتى وكينيا وأوغندا، كما وقّعت مؤخرًا اتفاقية دفاعية مع نيجيريا، فى خطوة اعتبرها الخبراء بمثابة تطويق دبلوماسى واستراتيجى لإثيوبيا من مختلف الجهات.
ورغم استبعاد المحللين والخبراء لاحتمال لجوء مصر إلى عمل عسكرى مباشر ضد إثيوبيا؛ نظرًا لتفوقها الاستراتيجى فى مجالات عدة، لا سيما على الصعيدين العسكرى والدبلوماسى؛ فإنهم يؤكدون أن القاهرة تمتلك أدوات ضغط متعددة يمكن توظيفها بفعالية داخل إثيوبيا وخارجها لحل أزمة سد النهضة، دون اللجوء إلى التصعيد.
والتحديات المرتبطة بالسّد لا تقتصر على مصر وإثيوبيا وحدهما؛ بل تمتد لتشمل دولاً أخرى تعتمد على نهر النيل كمصدر أساسى للحياة، ما يجعل الأزمة قضية إقليمية بامتياز، تتطلب حلولاً عادلة ومستدامة، تضمن حقوق الجميع، وتحافظ على استقرار المنطقة.
البحر الأحمر
وترسم خطوات مصر بشأن ا خطوطًا حمراء، وإن لم تعلن عنها القاهرة صراحة؛ حيث تُعَد قناة السويس خطًا أحمر لا يسمح بتجاوزه أو تهديده، ويُعتبر شريانًا اقتصاديًا وأمنيًا بالغ الحساسية ليس فقط لمصر بل للتجارة العالمية بأسْرها، وأن أى محاولات لزعزعة الاستقرار فى البحر الأحمر أو التلويح بتهديد حرية الملاحة فيه تجاوز للخطوط الحمراء.
وجاء توقيع مصر على اتفاقية التعاون العسكرى مع الصومال؛ ليعكس وعيًا استراتيجيًا متقدمًا؛ خصوصًا فى ظل الاتفاق المثير للجدل بين إثيوبيا وأرض الصومال الانفصالية، الذى أثار موجة انتقادات إقليمية ودولية؛ نظرًا لما يحمله من تحديات قانونية وسياسية، وتهديدات محتملة لتوازنات المنطقة؛ إذ وضعت القاهرة هذا الاتفاق نُصب عينيها، واعتبرته محاولة إثيوبية للتمدد نحو البحر الأحمر عبر بوابة غير مشروعة، وهو ما دفعها إلى تعزيز علاقاتها العسكرية مع الحكومة الصومالية الشرعية، فى خطوة تهدف إلى تحصين الأمن القومى المصرى من الجنوب الشرقى، وتأكيد دعمها لوحدة وسيادة الصومال، كما تسعى مصر إلى توسيع حضورها الاستراتيجى فى منطقة القرن الإفريقى عبر التعاون الأمنى والعسكرى مع دول محورية وحكومات شرعية لضمان استقرار الممرات البحرية، ومنع أى أطراف إقليمية أو دولية من فرض أمر واقع يهدد مصالحها الحيوية.







