ما بعد الصدمة
جريمة سيدز تفتح ملف الرقابة على المدارس الدولية
نرمين ميلاد
فى قلب مؤسسة تعليمية يُفترض أن تكون ملاذًا آمنًا، انكشفت واحدة من أبشع الجرائم التى يمكن أن تُرتكب بحق الطفولة: اعتداءات جنسية ممنهجة على أطفال فى عمر البراءة، لكن الجريمة لم تكن فقط فى الفعل، بل فيما كشفه هؤلاء الأطفال بأجسادهم الهشة وعيونهم التى لم تتعلّم الكذب بعد، وما هو أعمق من الجريمة التى شهدتها مدرسة سيدز الدولية بالعبور، وهو أن «البيدوفيليا» هنا لم تكن فعلًا فرديًا شاذًا، بل جريمة مغطّاة بالزى الرسمى.
أثار ما حدث عدة تساؤلات تتعلق بالرقابة على المدارس ومتابعتها خاصة المدارس الدولية، يرى البعض أن انعدام الرقابة على التعليم الخاص وخاصة الدولى أهم الأسباب، بينما يرى آخرون أن المؤسسات التعليمية أصبحت مؤسسات تجارية تستهدف الربح وليس التعليم وبناء الإنسان فى المقام الأول، فى حين شدد الجميع على ضرورة متابعة وزارة التربية والتعليم للمدارس الخاصة أو الدولية، وعدم الاعتماد على «عناوين الاستقلالية».
مهلة أسبوعين
فى خطوة تستهدف تشديد الرقابة ورفع جودة العمل داخل المدارس الدولية، أصدرت وزارة التعليم قرارًا يمنح تلك المدارس مهلة لا تتجاوز أسبوعين للانتهاء من اعتماد جميع العاملين لديها داخل الإدارات التعليمية، مع ضرورة إرفاق صحيفة الحالة الجنائية لكل موظف، سواء كان إداريًا أو معلّمًا أو عامل دعم فنى.
يأتى الإجراء فى إطار خطة شاملة لتأمين البيئة التعليمية، والتأكد من سلامة العاملين داخل المدارس، خاصة مع الزيادة المستمرة فى أعداد المدارس الدولية خلال السنوات الأخيرة.
كما شددت الوزارة على ضرورة مراجعة واعتماد عقود العاملين الأجانب بجميع المدارس، إلى جانب التأكد من حصولهم على تصريح عمل رسمى، لضمان التزام المؤسسات التعليمية بالقوانين المنظمة لوجود الأجانب داخل سوق العمل المصرية.
ضوابط جديدة
ولم تقتصر القرارات الجديدة على العاملين فقط، بل امتدت لتشمل تنظيم العملية التعليمية اليومية داخل المدارس، حيث أكدت وزارة التربية والتعليم على عدة ضوابط صارمة، أبرزها: الالتزام بنسبة إشراف لا تقل عن معلم أو مشرف لكل 6 طلاب، وهى نسبة تهدف لرفع جودة المتابعة داخل الفصول والأنشطة، ومنع استقبال أى طالب قبل بداية الطابور المدرسى بأكثر من 15 دقيقة حفاظًا على انضباط اليوم الدراسى، وإلزام مدير المدرسة بالبقاء داخل المؤسسة حتى مغادرة آخر طالب لضمان وجود مسؤول إدارى أعلى طوال فترة تواجد الطلاب، وحظر وجود أى طفل فى رياض الأطفال أو المرحلة الابتدائية دون إشراف مباشر من مدرسة الفصل أو مشرفة الأتوبيس أثناء التنقل، وتفعيل سجلات الأمن المدرسى لضبط دخول الزوار أو الغرباء، إلى جانب نشر الإشراف فى طرقات المدرسة لمتابعة حركة الطلاب بشكل مستمر.
وتعكس تلك التعليمات حرص الوزارة على رفع معايير الأمان داخل المدارس الدولية، بعد ملاحظات عديدة تتعلق بقصور الإشراف أو عدم توفيق أوضاع العاملين فى بعض المؤسسات الخاصة والدولية خلال العامين الماضيين، وتشير مصادر داخل الوزارة إلى أن الحملات التفتيشية ستبدأ فور انتهاء المهلة، وأن المدارس المخالفة ستتعرض لعقوبات قد تشمل وقف القيد، أو تعليق التراخيص مؤقتًا.
المكسب على حساب الهوية
يقول د.محمد فتح الله، أستاذ مناهج التعليم والخبير التربوى لمجلة روزاليوسف، إن التعليم الخاص هو أحد أذرع منظومات التعليم فى مصر، وتزايد أعداد المدارس الخاصة والدولية فى الآونة الأخيرة يعد استثمارًا مربحًا، لكنه استثمار من المفترض أن يقدم خدمة تعليمية بديلة للتعليم الحكومى وموازية له، وولى الأمر له حرية الاختيار، لكن الواقع فرض مفردات جديدة، حيث أصبح الاهتمام بالمكسب والاهتمام باللغات على حساب اللغة العربية، يؤثر على الثقافة والهوية الوطنية، فى مقابل تحدث الطالب لغة أجنبية.
وأضاف: هذه سلبيات جعلتنا نتساءل عن مدى قدرة الحكومة فى السيطرة وضبط النظام التعليمى الخاص بكل شعبه وآلياته، وليس جشع الأسعار فقط، بإنشاء منظومات تعليم خاص موازية مثل المدارس اليابانية ومدارس النيل، لكن المشكلة تكمن فى أن الرقابة على التعليم الخاص من حيث الحفاظ على هوية المجتمع منعدمة، كما أن جودة التعليم الخاص ليست ضمن الأهداف الرئيسية لمنظومة التعليم، فنحن لدينا الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد، ومنوط بها أن تتحقق من جودة الخدمات التعليمية التى تقدم من خلال مؤسسات التعليم، سواء التعليم قبل الجامعى أو الجامعى، لكن مؤسسات التعليم الخاصة لا تخضع لها.
متابعة الدولة
وأشار «فتح الله» إلى أنه لا بد أن يعاد النظر حول منظومة التعليم الخاص والهدف منها، المنظومة التعليمية لا بد أن يعاد تشكيلها فى ضوء الهوية الوطنية والثقافة الوطنية ووحدة الأمة، وأنصح أولياء الأمور قبل إلحاق طفلهم بالمدرسة أن يسألوا: هل المدرسون لهم سنوات خبرة طويلة أم حديثو التخرج، هل توفر المدرسة دورات تدريبية وعائدًا ماديًا مناسبًا للمدرس أم لا، وما نسبة غياب الطلاب فى المدرسة.

وأضاف: ما نراه فى مدارس دولية يجعلنا نفكر فى أن تكون هناك متابعة جيدة من قبل الدولة حتى نتكامل معًا، فالدولة لها جناحان للتعليم، الحكومى والخاص، بحيث لا يسيطر أحدهما على الآخر ويكون الهدف واحدًا، ولا يخرج الطالب شاعرًا بالاغتراب فى وطنه.
المدرسة والوزارة
وأوضح أ.د.محمد خليل موسى، الخبير التعليمى، أن للمدارس الدولية آليات رقابية داخلية، حيث يتم مراقبة الأداء وجودة المدرسين وجودة العملية التعليمية والمناهج وفقًا لمعايير دولية تضعها الجهات المعتمدة للمدارس، والمعايير تهتم بجودة التعليم، وأن يصبح الطالب محور الاهتمام، بمعنى ليست أساليب مبنية على التلقين، لأن المعايير الحديثة تعتمد على مشاركة الطالب فى كل شيء، والأنشطة خارج المنهج، مع الاهتمام بمنصات إلكترونية والتدريب للمدرسين ورفع مستوى التدريب والتوظيف والتواصل مع أولياء الأمور، وهو ما يميز المدارس الدولية.
وأضاف أن المشاكل الرئيسية الموجودة داخل تلك المدارس تكمن أحيانًا فى التحرر الزائد وفقًا للقيم العربية والإسلامية، لكن يتم تداركها بزيادة الوعى داخل الفصول، وفى حال حدوث تجاوزات من الطلاب يتم استدعاء ولى الأمر، كما يحدث فى أى مدرسة، بعض المدارس صارمة وشديدة، وبعضها ينظر للطالب على أنه زبون له كامل الحق، ولا تصل الشكوى لولى الأمر.
ويرى «خليل» أنه يجب حال حدثت تجاوزات فى إحدى المدارس، فلا بد أن تقع المسئولية مباشرة على إدارة التربية والتعليم، ولا بد أن يكون هناك ممثل للوزارة داخل كل مدرسة دولية لضمان الجودة والتواصل بين الجانبين.
مؤهلات الإشراف
وأوضحت د.بثينة عبدالرؤوف، الخبير التربوى، أن المدارس الدولية تتبنى مناهج معتمدة من الخارج، والحكومة المصرية لا تشرف عليها لكن تعطيها تصريحًا فقط بالبناء، والمناهج مراقبة من الخارج وحتى الشهادات دولية، والقانون يظهر أن الدولة تعطى تصريحًا وتراقب الأبنية التعليمية ومدى مطابقتها للمواصفات.
وأضافت أن وزارة التربية والتعليم جعلت مواد مثل اللغة العربية والدين والتاريخ أساسية، لذا من حقها الإشراف على مدرسى المواد القومية، لكن هذا لا يحدث لأن الموجهين ليس لديهم الوقت للذهاب لتلك المدارس، وعددهم قليل، ولا توجد تعيينات، العدد الموجود يكفى بالكاد للإشراف على المدارس الحكومية وبعض المدارس الخاصة، كما أنهم ليسوا مؤهلين للإشراف على مناهج التعليم الدولى، وبالتالى لا تخضع للجودة والاعتماد.

وقالت إن الدولة لا تستطيع التدخل أو الإشراف على التعليم الدولى ولا تعيين العاملين به، توجد إدارة التعليم الأجنبى بوزارة التربية والتعليم بها موظفون ليس لديهم الكفاءة للتقييم والمتابعة.
وأضافت أن المدارس الدولية أصبحت مؤسسات تجارية هادفة للربح وليست مؤسسات تربوية، وأكثر المشاريع الاستثمارية المربحة فى مصر حاليًا هى المؤسسات التعليمية، سواء مدارس أو جامعات.
واقترحت «عبدالرؤوف» أن يكون لدينا هيئة قوية تتبع الوزير مباشرة، ويكون بها أساتذة جامعيون ومتخصصون لديهم درجة علمية معينة وكفاءة بحيث تكون لديهم القدرة والجرأة على الإشراف على المدارس الدولية.
سلامة وأمن الأطفال
توضح د.سحر السنباطى، رئيس المجلس القومى للطفولة والأمومة، أن حماية الأطفال تأتى على رأس أولويات عمل المجلس، مشددة على أن المجلس لن يتهاون فى اتخاذ جميع التدابير اللازمة لضمان سلامة وأمن كل طفل مصرى، كما استعرضت الإجراءات العاجلة التى تم اتخاذها بشأن واقعة مدرسة سيدز، حيث استقبلت الإدارة العامة لنجدة الطفل عددًا من البلاغات على خط نجدة الطفل (16000) من أسر الأطفال، وقام المجلس بإبلاغ مكتب حماية الطفل والأشخاص ذوى الإعاقة والمسنين بمكتب النائب العام للتحقيق فى الواقعة.
وأشارت إلى أن وحدة الدعم القانونى بالمجلس تتولى متابعة سير التحقيقات وتقديم كل أوجه المساندة القانونية لضمان حقوق الأطفال وحمايتهم، فضلًا عن إعداد خطة متكاملة لتقديم الدعم النفسى للأطفال.
وانتهى المجلس إلى عدة قرارات وهى: إعداد مشروع تعديل تشريعى لعرضه على البرلمان المصرى، يعزّز الردع ويضمن تطبيق أقصى العقوبات على كل من ارتكب أو تسبب أو أهمل بما يؤدى إلى إيذاء أى طفل من أطفال مصر، والتنسيق مع وزارة التربية والتعليم والتعليم الفنى لاتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة لحماية الأطفال داخل المؤسسات التعليمية، واستكمال حملات التوعية المجتمعية ورفع وعى الأسرة المصرية حول حماية الأبناء بالتعاون مع كل الوزارات والجهات الحكومية ذات الصلة، واتخاذ إجراءات عاجلة للتوعية المجتمعية، والكشف المبكر عن تعرض الأطفال لأى أذى، وتوفير بيئة آمنة لهم، وتطوير وحدة الدعم النفسى بالمجلس لتصبح «وحدة الطفل الآمن»، بما يعزز قدراتها فى تقديم الدعم المتخصص للأطفال، وسرعة الانتهاء من إعداد الدليل المعيارى لحماية الأطفال، وتدريب جميع المتعاملين مع الطفل لضمان تحقيق أعلى مستوى من الأمان داخل المؤسسات، ووضع سياسات حماية واضحة ومفعّلة داخل جميع المنشآت التى تتعامل مع الأطفال بالتعاون مع الجهات المعنية، ووضع معايير واضحة وصارمة لاختيار العاملين والمتعاملين مع الأطفال داخل المنشآت والمؤسسات العامة والخاصة بالتنسيق مع الجهات المختصة، وتكليف اللجان الدائمة المتخصصة بالمجلس بإعداد مصفوفة للتدخلات، كلٌّ فيما يخصه.







