محمود السعدنى.. أول الفلاسفة.. وآخر الظرفاء
رشدى الدقن
عندما تضع لجامًا على فمك سيضعون سرجًا على ظهرك... احرص دائمًا على قول كلمة الحق فهى الباقية.. تقال مهما كانت الظروف والمغريات..كان هذا هو الدرس الأول الذى تعلمته فى لقاءات نادى الصحفيين بالجيزة من أستاذنا الكبير آخر فلاسفة وظرفاء العصر محمود السعدنى الشهير بـ«الولد الشقى». الذى تحل ذكرى ميلاده الـ98 هذه الأيام.
خسر كثيرًا من لم يحضر جلسات عمنا محمود السعدنى فى نادى الصحفيين على نيل الجيزة والتى عشقها وعاش فيها عمره كله وكتب عن شوارعها ومقاهيها وصعاليكها وملوكها وأثريائها الكثير.

جلسة عمنا محمود السعدنى كانت تمطر ورودًا وفرحًا وثقافة وعلمًا وظُرفًا.. يحكى لنا عن تجربته الحياتية المثيرة والشيقة.. فهو قادر دومًا أن يجعل الحكايات الباهتة متوهجة.. والميتة حية.. والتى تلفظ أنفاسها الأخيرة إلى عداءة فى سباق ميت متر حرة.
فى حضرته الكل صامت لا ينطق أى كان الحضور.. وزراء سفراء ملوك - ملوك حقيقيين كانوا يأتون مصر وأول زيارة لهم تكون فى نادى الصحفيين - وفى الجلسة نفسها ترى كتّابًا كبارًا ورؤساء تحرير ..ومحررين يبدأون حياتهم وإلى جوارهم صعاليك وسجناء سابقون ولواءات.. الكل ينصهر فى بوتقة واحدة فى حضرة السعدنى.. يملك الكاريزما الطاغية المغلفة بالطيبة والأريحية مما يجعل الناس تُقبل عليه وهى على يقين أنهم أمانة سيحافظ عليها.
«كلمة الحق» صعبة.. غالية.. خاصة فى الأوقات التى أصبح كل شىء فيها «رخيص» وأصبحت القيم مهانة،.. «الكذب» أطلقوا عليه مجاملة، والنفاق شطارة، والتلون وتغيير المواقف والمبادئ بات كل لحظة وحسب الهوى والمصلحة .

«عمنا وتاج راسنا» الكاتب الكبير الأستاذ محمود السعدنى واحد ممن ثبتوا على المبدأ.. ظل طوال عمره قابضًا على الجمر.. ظل ممن يقولون الحق حتى لو على أنفسهم، مستعدينً دائمًا لدفع الثمن سواء كان منفيًا أو سجينًا أو رُفد من العمل وتشرد وأفلس ولف ودوران فى بلاد الله لخلق الله.
عمنا «محمود السعدنى» لم يكن مجرد كاتب ساخر، كان فيلسوفًا معاصرًا، له منظور خاص لكل من حوله من بشر وشجر وحجر، خبيرًا بالنفس البشرية، سبر أغوارها وفهم أعماقها.. سخر من الحياة وسخرت منه، أحبها فبادلته الغرام أضعافًا مضاعفة..لم تتمكن منه، كان يستقوى بالمعرفة.. فكان موسوعة متنقلة.. صاحب الصعاليك والملوك.. ولم يخش سوى تأنيب الضمير.. فتحت ثقافته أمامه كل الأبواب وأغلقت أيضًا كل ثقوب الهواء.. لكنه تحايل على ضيق التنفس بالصبر والجلد.
عمنا محمود السعدنى امتلك جينات أصلية دفعته دائمًا لقول كلمة الحق حتى لو على رقبته.. يجنى من وراء صدقه، وصراحته، وشجاعته، وعزة قلمه الحنضل فيضحك ويسخر ويطلق نكاته اللاذعة.
عاش حياته متهكمًا من كل شىء.. محولًا لحظات الحزن إلى ابتسامة، ولحظات العذاب إلى نكتة، وكان السجن فى انتظاره دائمًا.. سواء فى عهد عبدالناصر الذى ظل مخلصًا له طوال حياته ويفخر بناصريته حتى آخر أيام عمره أو فى عهد السادات الذى تعرف عليه فى بيت زكريا الحجاوى وكان وقتها -السادات- هاربًا من البوليس وتصادقا لكن؛ لا ناصريته ولا صداقته مع السادات منعته من قول كلمة الحق.. حين دخل المعتقل، حوّل سنوات حبسه إلى مواقف ساخرة.. كان ضمن 150 معتقلًا على أبواب سجن القلعة بعد حملة اعتقال الشيوعيين عام 1959، الجميع خائفون يجلسون القرفصاء فيعلق السعدنى: «أنا دلوقتى عرفت سر تمثال الكاتب الجالس القرفصاء عند قدماء المصريين، شكله كان مسجون زيّنا».

كان أول المسجونين سخريةً من كل شىء، بداية من تعليمات إدارة مُعتقل القلعة ووصولاً إلى النكات التى كان يحكيها طوال الليل لكل المسجونين معه.
عمنا «محمود السعدنى» شخصية فريدة ومتميزة بين أبناء جيله.. واحد من أهم رواد الكتابة الساخرة فى الصحافة العربية، وله الفضل فى تأسيس عدد كبير من الصحف داخل وخارج مصر.
ظلت كلمة الحق التى ينطق بها تطارده فيصبر ويضحك ويصر عليها حتى عندما احتدم الخلاف بين الناصريين وبين الرئيس أنور السادات. وكانت ليلة القبض على من أسماهم السادات مراكز القوى، وبينهم عمنا محمود السعدنى ليبقى فى السجن عامين.. ويُفصل من «روز اليوسف»، ويُمنع من دخول «صباح الخير»، التى كان رئيس تحريرها ويُمنع ظهور اسمه فى أى مطبوعة، حتى فى صفحات الوفيات!.
وبعد سنتين، تم الإفراج عنه، فيحمل حقائب السفر، ويطوى سنوات من عمره فى الغُربة والتشرد، والتى كان يقول عنها «بلاد تشيل وبلاد تحُط».
تجربة السجن المريرة تركت أثرًا على صراحة وصدق السعدنى بعد أن كلفته الكثير.. لكنه أبدًا لم يتراجع عنها .. ظل متمسكًا بها.. قَصَد الدوحة، وعمل فى مجلة «العهد»، إلا أنه لم يتحمل غلظة رئيس تحريرها، ولم يتحمل رئيس التحرير صدق وصراحة ولسان السعدنى اللاذع فطوى أوراقه وحمل حقائبه ولجأ إلى أبو ظبى، وهناك عمل فى «دار الوحدة»، لكنه لم يتحمل أيضًا .
لم تتحمل روحه الحرة أن تكون مقيدة حتى لو تقاضى الملايين، فهجر الخليج كله وذهب إلى بيروت، وانضم إلى كتاب جريدة «السفير».. ومنها إلى ليبيا والكويت.. لكن ظلت مأساته حاضرة «قول الحق» وعدم المداهنة أو المقايضة على كرامته وعزة نفسه حالت دائمًا إلى استقراره.. فرحل من جديد إلى لندن ولم يعد إلى القاهرة إلا بعد أن تولى مبارك الحكم.. وفى القصر الجمهورى بمصر الجديدة استقبله الرئيس مبارك، ليطوى بذلك صفحة طويلة من الصراع مع النظام فى مصر. ويتفرغ لكتابة مذكراته.

بلغت أعمال محمود السعدنى 26 كتابًا وهى: الولد الشقى جزء أول: قصة طفولته وصباه فى الجيزة - الولد الشقى جزء ثانٍ: قصة بداياته مع الصحافة - الولد الشقى فى السجن: صور متنوعة عن شخصيات عرفها فى السجن - الولد الشقى فى المنفى: قصة منفاه بالكامل - الطريق إلى زمش : ذكرياته عن أول فترة قضاها فى السجن فى عهد عبد الناصر. -متى يعود القمر- شاهد على العصر- القضية- مسافر على الرصيف- مسافر بلا متاع - ملاعيب الولد الشقى: مذكرات ساخرة - السعلوكى فى بلاد الإفريكى - الموكوس فى بلد الفلوس- وداعًا للطواجن- ألحان السماء - رحلات ابن عطوطة - خوخة سعدان- أمريكا يا ويكا- السماء السوداء- بلاد تشيل وبلاط تحط- مصر من تانى- عزبة بنايوتى- قهوة كتكوت - جنة رضوان- تمام يا فندم - المضحكون- حمار من الشرق- عودة الحمار- بالطول والعرض رحلة إلى بلاد الخواجات - أحلام العبد لله.
فى ظنى أن خير من وصف عمنا السعدنى وأجاب لنا عن السؤال الصعب.. لماذا هو متميز وساخر وفيلسوف وباق إلى اليوم..هو عمنا خيرى شلبى والذى قال عنه فى مقال قديم بمجلة الهلال: يتسم أسلوبه بمسحة فولكلورية ناطقة، إنه يستخدم نفس اللغة العربية التى يكتب بها الجميع قديمًا وحديثًا، ولكن اللغة عنده تبدو فوق عروبتها مصرة تلبس العمامة المملوكية «واللباس أبو دكة» بشراريب والبنش واللاسة.. هى لغة رغم فصاحتها وأصالتها وجزالتها والتزامها بفنون البلاغة العربية الموروثة كاد -لفرط سيولتها بالسهل الممتنع- تكون عامية واضحة لجميع الأفهام، كلغة السير الشعبية وألف ليلة وابن إياس والجبرتى، فصحى عريقة ولكنها أخذت من العامية المصرية رصيدها الفنى من الشحنات الشعورية كلغة نتكلم بها ونفكر ونحلم ونتوجع ونغنى ونحزم بها، وهذه الشحنات الشعورية التى تتمتع وتتميز بها العامية المصرية دون جميع لهجات العرب نظرًا لعراقتها فى ظل مجتمع أشد عراقة فى النظام الدولى، هى التى أضفت على أساليب الفصحى المصرية خصوصية فريدة أكسبت اللغة العربية إشراقًا وسيولة ومرونة، ووسعت من رداء المفردة ليتسع لكثير من دم ولحم التجارب والمعانى والأحاسيس فى طور المفردات وأبعدها عن جذورها البدوية القديمة.. ثم إنها فى أسلوب السعدنى أصبحت لغة مزاجها رايق جدًا، أصبحت تتحزم وترقص عشرة بلدى بالعصا وبالشمعدان، تلطم وتصرخ كنساء مصر الثكالى المنكوبات على امتداد التاريخ بفقد رجالهن وعيالهن فى أعمال سخرة أو حروب مجانية، تغنى بالموال والدور والطقطوقة والمونولوج الشكوكوى والياسينى، تتفتون مع الفتوات وتتعارك بالنبوت وبالكرسى والروسية والشلاليت، تردح بالصوت الحيانى لمن يجدر به الردح من البكوات الزائفين بتوع الحلمبوحة، تتسلطن فى العصارى مع واحد شاى ومبسم النارجيلة لتتلقى أخبار الحى بأريحية وحميمية لتلعب دورًا فى درة المصائب أو إغاثة ملهوث أو مساعدة محتاج أو مواجهة عدوان. انتهى كلام عمنا خيرى شلبى.
الخلاصة.. أنا ومثلى كثيرون، كنا محظوظين بالقرب من عالم عمنا محمود السعدنى.. الرجل الذى له أبناء وتلاميذ وأصحاب ورفاق ومريدون آلاف مؤلفة..الجميع يتباهون بمعرفته والجلوس معه ويرددون عنه حكايات ومواقف ومآثر ونوادر.. لكن تظل حكايته محكية بلسانه وقلمه.. ولا نجرؤ أن نكتب فيها حرفًا واحدًا.. لأنه قال كل شىء ولم يخف فى صدره أى شىء يدينه أو يدين الآخرين.. وجميعا نتشرف بانتسابنا لمدرسته.











