من داعش إلى الذئاب المنفردة
AI سـلاح جـــديـــــــــــد فى يد التطرف
صبحى مجاهد
فى زمن تتقاطع فيه التكنولوجيا مع الفكر، لم تعد ساحات التطرف حكرًا على الجبال أو الخنادق؛ بل امتدت إلى الفضاء الافتراضى؛ حيث تحوّلت تطبيقات الذكاء الاصطناعى ومنصات التواصل الاجتماعى إلى ساحات حرب فكرية خفية.
وأكدت دراسة حديثة صادرة عن «المؤشر العالمى للفتوَى» التابع لدار الإفتاء المصرية، حدوث تحوُّل خطير فى أساليب الجماعات المتطرفة، التى استثمرت الذكاء الاصطناعى وأدوات التواصل الحديثة فى تجنيد الشباب، ونشر الأفكار المتشدّدة، عبر تغليف الخطاب التكفيرى بغطاء العِلم والمعرفة لإضفاء الشرعية على توجهاتها الفكرية.
جهاد ناعم
بات «الجهاد الرقمى» أحد أخطر أوجُه الإرهاب فى القرن الحادى والعشرين، بحسب ما اتفق عليه عدد من الخبراء.
أوضح الدكتور هشام ربيع، أمين الفتوَى بدار الإفتاء المصرية، أن ما يسمى بـ«الجهاد الرقمى» لم يَعُد مجرد ظاهرة افتراضية عابرة؛ بل أصبح «سلاحًا نفسيًا وفكريًا» تسعى الجماعات الإرهابية لاستخدامه لتزييف الوعى ونشر الفوضى الفكرية؛ خصوصًا أن خطورته تكمن فى تسلله إلى العقول تحت ستار الدين.
وتابع «ربيع»، قائلاً: إن ما يُعرَف بـ«الجهاد الرقمى» أصبح أحد أخطر أدوات التطرف فى العصر الحديث؛ إذ يُستغل لتجنيد العقول وتزييف الوعى تحت شعارات مضللة تتستر بعباءة الدين، فيما الحقيقة أنه شكل جديد من أشكال الإرهاب الناعم.
خطاب عصرى
وأضاف: إن دار الإفتاء المصرية تبذل جهودًا كبيرة فى مواجهة الفكر المتطرف عبر المنصات الإلكترونية، من خلال الردود الشرعية والعلمية الرصينة، وتفنيد المفاهيم المغلوطة، وتقديم خطاب دينى عصرى يواجه دعاوَى «القتل والفوضى» التى تروجها تلك الجماعات.
وشدّد على أن الوعى والمعرفة، هما خط الدفاع الأول لحماية الأوطان من التطرف الرقمى والإرهاب الإلكترونى.
سلاح جديد
فى السياق نفسه؛ كشفت الدراسة الصادرة عن المؤشر العالمى للفتوَى بدار الإفتاء المصرية، عن أن الجماعات الإرهابية باتت تدرك أهمية التكنولوجيا فى السيطرة على العقول، فقد انتقلت من الخطاب الوعظى التقليدى إلى استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعى فى تحليل سلوك المستخدمين واستهداف الفئات الأكثر قابلية للتأثر.
وأوضح «المؤشر العالمى للفتوَى» أن هذه الجماعات تستخدم أدوات تحليل البيانات لرصد اهتمامات الشباب، ومن ثم تقديم محتوى متدرج يبدأ بمفاهيم دينية عامّة، ثم يتطور إلى أفكار متشدّدة تحت غطاء الدفاع عن الدين أو نصرة المظلومين.
ووفقًا للدراسة؛ فإن بعض التنظيمات بدأت بالفعل فى استخدام تطبيقات توليد النصوص بالذكاء الاصطناعى لإنتاج خطابات وفتاوَى مزيفة منسوبة إلى علماء مجهولين أو صفحات ذات مظهر دينى موثوق.
محادثة آلية
كما جرَى رصد محاولات لاستخدام برامج المحادثة الآلية «تشات بوت» لتلقين المستخدمين المفاهيم المتطرفة عبر حوارات تبدو فى ظاهرها دعوية، لكنها تُبنَى على خوارزميات مصمَّمة بعناية لغرس الأفكار الانعزالية والتكفيرية.
وأشار المؤشر إلى أن خطورة هذه التقنيات تكمن فى قدرتها على محاكاة اللغة الدينية بأسلوب مقنع، مما يجعل الشباب غير المدربين فكريًا أكثر عرضة للانخداع بها.. فبدلاً من «الواعظ المتشدّد» الذى كان يُكتشَف بسهولة فى الماضى، أصبح «الذكاء الاصطناعى الدعوى» أكثر دهاءً وأقل وضوحًا فى نواياه.
ذئاب منفردة
ورصدت الدراسة تحوّلاً نوعيًا فى تكتيكات الجماعات الإرهابية بعد انهيار معاقل تنظيم «داعش» فى سوريا والعراق؛ حيث انتقلت المعركة من الميدان العسكرى إلى الفضاء الرقمى، فلم يَعُد الهدف هو تأسيس دولة على الأرض؛ بل نشر «الولاء الافتراضى» عبر شبكات التواصل، وتجنيد ما يُعرَف بـ«الذئاب المنفردة» فى مختلف الدول.
وأوضح المؤشر أن تطبيق «تليجرام» أصبح الأداة المفضلة لهذه التنظيمات، لما يوفره من غرف مغلقة، وتشفير مُحكم، وسرعة فى تبادل الملفات والفيديوهات.. وقد تحوّلت بعض القنوات إلى ما يشبه «المنصات التدريبية» التى تُقدَّم فيها دروس حول إعداد المتفجرات، أو نصوص تعبئة فكرية تحمل شعارات دينية مزيفة.
هندسة رقمية
وأكدت الدراسة أن الجماعات المتطرفة لا تكتفى بالنشر؛ بل تمارس «هندسة وعى رقمية» تستند إلى الإغراق بالمحتوى، بحيث يشعر المتلقى أنه محاط بخطاب واحد لا صوت سواه.

وتقول الدراسة: «كما بات من الصعب التفرقة بين المحتوى الدعوى الوسطى والمحتوى المتطرف فى ظل تقنيات التزييف العميق التى تتيح للجماعات إنتاج مقاطع تبدو حقيقية، وتُستخدَم فيها أصوات وصور علماء معروفين؛ لتضليل الجمهور والتأثير فى اتجاهاته الفكرية».
فتاوَى فورية
خلصت الدراسة إلى واحدة من أخطر النتائج التى تتمثل فى ما أسمَته «الفتاوَى المؤتمتة»، أى تلك التى تُنتَج آليًا بالاعتماد على تقنيات توليد النصوص.
حذرت الدراسة من أن بعض المنصات المشبوهة بدأت تقدم «خدمة الإفتاء الفورى» دون إشراف بشرى؛ حيث تُغذى أنظمة الذكاء الاصطناعى بكمّ هائل من النصوص المتطرفة لتعيد إنتاجها بلغة جديدة تُوهم القارئ بأنها فتاوَى شرعية موثوقة.
وأضاف المؤشر: إن الخطر لا يقتصر على إنتاج المحتوى فحسب؛ بل يمتد إلى تخصيص الرسائل بناءً على بيانات المستخدمين، بحيث تُوجَّه الفتوَى بحسب العمر والجنس والمنطقة الجغرافية؛ بل حتى الحالة النفسية المستنتجة من نشاط الفرد على الإنترنت.
تخصيص خوارزمى
هذا «التخصيص الخوارزمى» يمنح الخطاب المتطرف قدرة غير مسبوقة على التغلغل، ويحوّل عملية التجنيد إلى مسار ناعم يبدأ بالتعاطف وينتهى بالانخراط الكامل فى الفكر المتشدّد.
وكشف المؤشر أن بعض الجماعات تستخدم كذلك تقنيات الذكاء الاصطناعى الصوتى؛ لتقليد أصوات الدعاة والعلماء، وبث تسجيلات تحمل مضامين منحرفة، مما يعمّق حالة الفوضى فى المرجعية الدينية ويزيد من ارتباك المتلقين.
جهود مؤسّسية
فى مقابل هذا التمدُّد الرقمى للجماعات المتطرفة، رصدت الدراسة تصاعد الجهود المؤسّسية فى العالم الإسلامى لمواجهة «التطرف المؤتمت»، وفى مقدمتها جهود الأزهر الشريف ودار الإفتاء المصرية ووزارة الأوقاف.
وأوضح المؤشر العالمى للفتوَى، أن هذه المؤسّسات بدأت بالفعل فى توظيف الذكاء الاصطناعى الإيجابى لخدمة الخطاب الوسطى، عبر تطوير منصات إلكترونية تفاعلية، وإطلاق محتوى توعوى بلغات متعددة.
وأكد المؤشر أن نجاح المواجهة لا يتحقق فقط عبر الردود الدينية؛ بل يتطلب تحالفًا معرفيًا يجمع بين علماء الدين وخبراء التكنولوجيا والإعلام؛ لتطوير أدوات رصد وتحليل قادرة على كشف المحتوى المتطرف فى مراحله المبكرة.
معركة وعى
وأضاف التقرير: «إن معركة الوعى اليوم لم تَعُد تُخاض بالسلاح فقط؛ بل بالكلمة والمعلومة، ومن يمتلك زمام التقنية يمتلك زمام التأثير».
وأشار إلى أن دار الإفتاء المصرية كانت من أوائل المؤسّسات التى أنشأت وحدات متخصّصة لرصد الفتاوَى المتطرفة على الإنترنت، وتحليل أنماط انتشارها، مع إصدار ردود علمية مبسطة تواجه الفكر بالفكر.
ثوب رقمى
خلصت الدراسة- كما عرضها «المؤشر العالمى للفتوَى»- إلى أن التطرف فى ثوبه الرقمى أخطر من كل ما سبق؛ لأنه لا يحتاج إلى قائد ظاهر أو تنظيم معلن؛ بل يكفيه حساب مجهول وخوارزمية ذكية لإعادة إنتاج الكراهية بألف وجه، وأن المعركة المقبلة لن تكون ضد جماعات إرهابية فقط؛ بل ضد أفكار تتخفى خلف الذكاء الاصطناعى، وتستغل الثورة الرقمية لتبرير العنف تحت شعارات برّاقة.
ولفتت إلى أن مواجهة هذا الخطر تتطلب تكاتفًا دوليًا ومجتمعيًا، يبدأ من التعليم والإعلام وينتهى بالتشريعات التى تجرّم استخدام الذكاء الاصطناعى فى التحريض أو التضليل الدينى، كما يجب دعم المبادرات الفكرية التى تشرح للناس كيفية التمييز بين الفتوَى الصحيحة والمحتوَى المزيف، حتى لا تتحول التقنية من وسيلة معرفة إلى أداة تضليل.
واختتم المؤشر العالمى للفتوَى دراسته بتحذير جاد: «إن مَن يترك الفضاء الرقمى فارغًا أمام التطرف؛ إنما يتيح له أن يزرع بذوره فى العقول، ويعيد إنتاج نفسه فى كل جيل جديد..
إن معركة الوعى لم تَعُد تُخاض على المنابر وحدها؛ بل بالخوارزميات وبالذكاء الإصطناعى.. والمنتصر فيها هو مَن يفهم التقنية قبل أن يستخدمه».







