الأحد 23 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

فيلم يلتقط ما بقى من الفرحة فى وجوه أهالى غزة:

ضايل عنا عرض.. عندما يصبح «الفرح» مقاومة

فى مدينةٍ يضيق فيها الهواء، وتثقل سماؤها برائحة الغبار والبارود، يولد فيلم (ضايل عنا عرض) مثل نافذة صغيرة تُفتح نحو قلب غزة. نافذة لا تروى الحرب، بل الناس. لا تلاحق الدمار، بل أولئك الذين يصرّون على أن يظل الضوء قائمًا، ولو على هيئة مهرّج يركض فى شارع مُحاصر أو طفل يضحك لدقيقة واحدة.



الفيلم، الذى مثل مصر فى المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي، يشكّل تجربة إنسانية أكثر منها سينمائية؛ تجربة تلتقط هشاشة الحياة وقوّتها فى آن واحد، وتنسج صورة حميمية عن فرقة «سيرك غزة الحر»، تلك المجموعة التى قرّرت أن تبقى العروض مستمرة مهما حدث، وأن تظل البسمة ممكنة حتى عندما يحاول العالم كله إطفاءها.

مشاهد من قلب الخراب

يبدأ الفيلم من هناك.. من الأزقة التى مرّ عليها القصف، من جدرانٍ انشقت، من الأزقة التى صار الأطفال يحفظون أصوات الانفجارات فيها مثل أسماء الألعاب. ومع ذلك، وسط هذا الركام، ينهض هؤلاء الشبان بثيابهم الملوّنة، بأنوفٍ حمراء، بأجساد تتشقلب فى الهواء، يقدّمون عروضًا للأطفال فى الملاجئ والشوارع، كأنهم يعلنون أن الحياة هنا ما زالت تحاول.

المشاهد فى (ضايل عنا عرض) تأتى مشبعة بتناقضٍ مؤلم: أصوات الصرخات فى الخلفية، وحركات السيرك فى الأمام؛ جنازات تمرّ، وطفل يقهقه لأن المهرّج تعثّر عمدًا؛ خراب واسع، وبهجة صغيرة لكنها حقيقية.. بهجة تعاند الموت ولا تسمح له أن يحتكر المشهد.

 

 

 

الفيلم يقترب منهم دون ضجيج، يراقب لحظاتهم قبل العرض وبعده، يلتقط لحظات الإرهاق، الخوف، الإصرار، وحين يعودون إلى مساكنهم المؤقتة فى المخيمات. تلك التفاصيل الصغيرة تعطى الفيلم روحه: ليس تسجيلًا للحرب، بل تسجيلًا لتمسّك البشر بحياتهم رغم الحرب.

حكاية بدأت من شاشة تليفزيون

المخرجة المصرية «مى سعد» كانت تتابع ما يحدث فى غزة يومًا بعد يوم، تشعر بعجزٍ يشبه عجز الملايين الذين يرون الإبادة ولا يملكون سوى المشاهدة. كان السؤال يطاردها: كيف يمكن توثيق ما يحدث؟ كيف يمكن أن يأتى الصوت من الداخل لا من وراء الحدود؟

بحكم صداقات صحفية، وصلت إلى اسم شاب من غزة يعمل خلف الكاميرا ويعيش وسط الأحداث «أحمد الدنف». تراسلا، ثم تحوّلت الرسائل الأولى إلى بداية مشروع مشترك. كانا يعملان عبر الإنترنت، يتحدّيان انقطاع الكهرباء وسقوط الاتصال، يصنعان خطة للتصوير رغم كل العقبات. ومع الوقت، صار الفيلم يكتب نفسه من هناك، من قلب غزة لا من القاهرة.

تقول «مي» إن لحظة معرفتها بفرقة «سيرك غزة الحر» كانت نقطة التحوّل. فقد وجدت فى هذه الفرقة ما يشبه المستحيل: مجموعة تريد أن تصنع الضحك وسط المجازر. حاولت الوصول إليهم أسبوعًا كاملًا حتى استطاعت أن تتواصل مع أحدهم، «محمد»، الذى بدا لها الشخصية التى تحمل روح الفرقة. صوته كان مزيجًا من دفء وإصرار، ومن حديثه فهمت أن هؤلاء الشباب لا يقدمون عروضًا فقط، بل يقدّمون “إنقاذًا صغيرًا للروح” وسط المخيمات.

ومع أول محادثة بينهما، شعرت المخرجة أنها أصبحت قريبة من عالمهم، وأن الفيلم لن يكون مجرد رصد صحفي، بل مشاركة وجدانية كاملة.

ولادة فيلم رغم المستحيل

عمل «مى والدنف» كمن يعيش فى عالمين مختلفين: هى تُخرج وتتابع وتطلب لقطات، وهو يصوّر وسط القصف، يرسل مشاهد متقطعة كلما عاد الإنترنت، يستخدم إضاءة الهواتف عندما تختفى الكهرباء، ويحاول أن يمنح الكاميرا مكانًا آمنًا حين يفقد العالم حوله أى معنى للأمان.

الطابع الحميمى للفيلم جاء من هناك؛ من أن الكاميرا لم تكن عينًا من الخارج، بل عينًا من الداخل، جزءً ا من حياة الأشخاص لا زائرًا يراقبهم. وفى كل مشهد، يظهر التعبير الصادق لجسدٍ مرهق، أو نظرة طفل يركض تحت شمس غزة لأنه رأى مهرّجًا لأول مرة منذ أسابيع من الحصار.

سيرك يقاوم.. وحكايات تكسر الصورة النمطية

لطالما حاول العالم تقديم صورة نمطية عن أهالى غزة: أنهم اعتادوا الموت، أو صاروا جزءًا منه. لكن الفيلم يهدم هذا الوهم بطريقة بسيطة: يريك كيف يقفون فى طوابير طويلة من أجل ضحكة، وكيف يحلمون، كيف يبنون الأمل من أبسط الأشياء.

فقد قال «الدنف» إن أحد أهداف الفيلم كان أن يُظهر أن أهل غزة يحبون الحياة أكثر مما يظن الآخرون. هم لا يصمدون لأنهم اعتادوا الموت، بل لأنهم يتمسكون بما بقى لديهم من حياة. الفرقة كانت تجسد هذا المعنى: رغم أن الحرب فرّقت أعضاءها، عادوا من جديد ليصنعوا عرضًا واحدًا، ثم آخر، ثم آخر.. لأن الفرح نفسه نوع من المقاومة.

الفيلم بذلك يتحول إلى شهادة على قدرة الإنسان على البقاء، والإصرار على أن يكون موجودًا رغم أن العالم يحاول محوه.

رحلة شاقة.. لكنها ضرورية

ورغم كل الصعوبات الإنتاجية، من نقص الإمكانيات إلى خسارة معدات التصوير، ومن انقطاع الاتصال إلى العمل فى ظروف غير إنسانية، فإن فريق الفيلم، من مصر وغزة، كان يعمل بإيمان كامل أن العمل ليس مجرد مشروع، بل واجب. ولهذا، شارك الفنيون المصريون دون مقابل تقريبًا، إيمانًا منهم بأن الفيلم يجب أن يُصنع مهما كان الثمن.

(ضايل عنا عرض) ليس فيلمًا عن الحرب، بل فيلم عن الإنسان الذى يرفض أن يستسلم لها. فيلمٌ يقول إن الضحكة الصغيرة فى وجه طفل محاصر، قد تكون فعل مقاومة أكبر من رصاصة. وإن الفن، فى أحلك الأوقات، يصبح وسيلة للبقاء، للتماسك، ولتذكير العالم أن غزة ليست مجرد أخبار… بل بشر، وحياة، وذاكرة، وأرض.

وفى النهاية، يترك الفيلم أثرًا لا يُنسى: ذلك الإصرار على أن يظل العرض مستمرا