محمود المراغي
قالت القرارات الاقتصادية:
سنحارب قبل نهاية 1973.. ولـم يصــدق أحــد!
الحرب لم تكن مفاجأة كاملة.. فى فبراير الماضى، عدلت الحكومة عن ميزانية وضعتها قبل ستة أسابيع وطلبت من مجلس الشعب قرارًا يفوّض رئيس الجمهورية فى إصدار قرارات لها قوة القانون.. تمس الميزانية وتمس فرض الضرائب الجديدة، و.. وضع حد لذلك نهاية المعركة، أو نهاية 1967.. أيهما أولاً.. ووضع المجلس شرطا «حالة نشوب القتال» ونشرت الصحف ذلك، ولم يفهم الكثيرون، ولم تفهم إسرائيل!
قال لى مصدر مسئول: إن كمية النيران التى أطلقتها الصواريخ والدبابات والطائرات على جبهة القناة أمس، تزيد على كل النيران التى شهدتها حرب عام 1967.
وسكت المصدر قليلاً.. ثم قال: لكن القتال الأشد سوف يبدأ اليوم، لقد حشد العدو ستمائة دبابة فى مواجهة القوات المصرية التى عبرت القناة، وكان ذلك فى اليوم الثالث للقتال.
الحرب.. صراع من أجل التدمير لكى تبلغ هدفك لا بُدّ أن تدمر.. وتدمر.. وتدمر- وبمقدار ما يتقدم العلم، بمقدار ما يصبح الدمار هائلًا، والاحتياط له ضخما، والتكاليف فى كلتا الحالتين باهظة، وهذه هى الحرب.
ورصدنا لها (208) مليون جنيه العام الأول (67-68).. و(375) مليونًا فى العام الثانى.. وظل الرقم يتصاعد حتى وصل إلى (702) مليون كما تقول ميزانية هذا العام: 1973، وبلغت جملة الإنفاق من أجل المعركة، وكما قال الرئيس السادات فى خطاب سابق: «أربعة آلاف مليون جنيه تقريبًا» خصصناها خلال سبع سنوات من التصدى والردع.. والاستعداد للمعركة الكبرى التى بدأت ظهر يوم السبت (6) أكتوبر.
مساء نفس اليوم: 6 أكتوبر، صدرت عدة قرارات اقتصادية - السكر والبنزين يدخلان البطاقة - اللحوم.. يومان فى الأسبوع - الرغيف تختلف مواصفاته قليلًا، مواد البناء.. للمجهود الحربى أولاً.
واندهش الكثيرون.. متى تم إعداد هذه القرارات؟
والواقع أنه لا مبرر للدهشة فقد بدأ الاستعداد لذلك فى يونيو 1967 . كان الجيش يعود من سيناء، وكانت ميزانية العام المالى الجديد تناقش فى نفس الوقت.
ووقتها اتخذت عدة إجراءات.. ارتفعت رسوم بعض الخدمات كالتليفون والبريد، وزادت ضريبة الأمن القومى، وارتفعت أسعار بعض السلع - وزيد الادخار الإجبارى للعاملين بالحكومة والقطاع العام.
وكان مفهومًا أن ذلك كله يوفر حصيلة للدولة تبنى بها جيشًا وترسى بها احتياطيًا للطوارئ.
بعد أسابيع، كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يلقى خطابه فى 23 يوليو . وأعلن ضرورة بناء «اقتصاد حرب».
وأثيرت مناقشات واسعة: ماذا تعنى باقتصاد الحرب ؟
وكان الجواب باختصار: إنه أكثر الأشكال والأوضاع الاقتصادية التى يمكن أن تساعد على النصر.
وبتفصيل أكثر: إنه الاقتصاد الذى يوفر للجندى حاجته من سلاح، وعتاد، ومؤن، وذخيرة، وغذاء، وكساء.. كما يوفر لمصر حاجتها التى لا تنقطع من سلع وخدمات رئيسية فى ظل ظروف متغيرة تتعرض فيها أدوات السلام للخطر.. وهو أيضًا: الاقتصاد الذى يوفر الحاجات غير المباشرة للحرب.. اقتصاد يرعی المهجرين، وينفق على حماية المدنيين بالمخابئ والطوارئ الطبية ويتحمل الصدمة عندما يتوقف مصنع تحت ضربات العدو، أو عن احتياج قومى.
وبدأنا فورًا المحاولة: إقامة اقتصاد للحرب، يزيد فيه الإنتاج، وتزيد فيه القدرة على التصدير، ويقل فيه الاستهلاك والاستيراد والإنفاق العادى.

وفى التطبيق، حدثت محاولات جادة، تم على الفور، ومنذ عام 1967 وضع سياسة مالية جديدة تزيد الموارد وتقلل النفقات وتحاول أن توازن بين ما تملك وبين ما تحتاج.. وأنشئ وقتها صندوق للطوارى، كما رفع شعار الإصلاح المالى والاقتصادى (مارس 1968) .
أيضًا، ولمدة عام أو عامين ضغطنا الاستيراد فقل عجز العملة الأجنبية، والذى يسميه رجال الاقتصاد بميزان المدفوعات، أى أن موقفنا مع العالم الخارجى أصبح أفضل (لتلك الفترة على الأقل) .
وبقيت معادلة الإنتاج والاستهلاك .. معادلة صعبة، كيف تزيد الإنتاج فى وقت لا تستطيع أن تزيد فيه الاستثمار بشكل ملحوظ، وكيف نضغط الاستهلاك فى وقت يطول فيه الاستعداد للمعركة؟
وحققنا جزءًا من الهدف، استمرت التنمية فى الحدود الممكنة - زاد الإنتاج الزراعى والصناعى، رغم كل شىء، ورغم الصعوبات التى فرضت تعطيل جزء من طاقة مصنع هنا ومصنع هناك بسبب مشكلة الاستيراد والنقد الأجنبى.. زاد الإنتاج رغم ذلك.
وبالطبع، كان الاستهلاك يزيد مع زيادة السكان التى بلغت نحو مليون قادم جديد كل سنة، كما كان طبيعيًا أن يزيد الاستهلاك وهناك توسع هائل فى الإنفاق، أجور تتزايد، ويصل تزايدها فى العامين الأخيرين 29 % بالنسبة للعاملين فى الحكومة والقطاع العام، وهى زيادة لم يسبق لها مثيل من قبل كما يقول تقرير لجنة الخطة والميزانية فى مجلس الشعب عن موازنة هذا العام، ومع الأجور تزيد الأرباح نتيجة لظرف الحرب، ونتيجة للتوسع فى الإنفاق الحكومى، ونتيجة لاستغلال الظروف من جانب ما يسمى بالرأسمالية الطفيلية.. بعض التجار والمقاولين وأصحاب المصانع .
وكما يقول رجال الاقتصاد، أصبحت النقود أكثر من السلع المتاحة فى الأسواق فتأثرت الأسعار إلى تزايد .
هذه الحلقة كان لا بُد أن تقف، بداية الحلقة: نقود تتدفق.. فهل يمكن أن يقل تدفقها رغم ظروف الحرب، والتنمية، وظروف أخرى كثيرة.. ثم سلع تتداول فهل يمكن أن تزيد؟
وهكذا نعود مرة أخرى لقضية الاستهلاك والإنتاج، وبينهما تقف الحلول الإدارية لتوائم بين الاثنين: البطاقات.
البطاقات وسيلة لتحديد الاستهلاك وعدالة توزيع السلع، وضمان بيعها بأسعار معقولة لا ترهق الطبقات الشعبية.
وكان ذلك هو الطريق، يومًا بعد يوم، تدخل سلع أساسية فى بطاقة التموين، بدءًا بالشاى، وانتهاءً بالبنزين والسكر الحر فى يوم السبت 6 أكتوبر 1973.
ومنها: كانت الأسعار التى ترتفع بقرار أو بغير قرار، تلعب دورها فى الحد من الاستهلاك.. فالنقود وإن كانت تزيد إلا أن قوتها الشرائية تقل بعض الشىء.

كانت هذه هى الصورة العامة- سياسة مالية تحاول أن تفى بكل الاحتياجات وأبرزها: احتياج القوات المسلحة والطوارئ.. وسياسة اقتصادية تحاول أن تحل معضلة توازن الإنتاج والاستهلاك.
حتى جاءت ميزانية 1973.. وقدمت الحكومة لمجلس الشعب ميزانية ضخمة يبلغ حجمها (2459) مليون جنيه.. وكان من أبرز معالمها:
- اعتمادات القوات المسلحة والأمن والطوارئ وقد بلغت كلها (702.3) مليون جنيه، أى ما يقرب من 30 % من صافى الإنفاق.
- اعتمادات التنمية، وقد بلغت 430 مليون جنيه للقطاع العام والحكومى... وذلك ضمن خطة للتنمية يصل حجمها إلى خمسمائة مليون جنيه على المستوى القومى .
- وكانت هناك اعتمادات أكثر للأجور والخدمات فى نفس الوقت.
ووافق مجلس الشعب على الميزانية، بعد أن قدمت لجنة الخطة نقدًا لكثير من بنودها وأبرزها نمط التنمية، وحجم الإنفاق على الأجور والخدمات.. وقالت اللجنة فى صراحة «وكأنما خطة وموازنة 1973 جاءتنا لتحسين الأجور وتحسين الخدمات، وهذا مما يجعل اقتصادنا ينمو نموًا بطيئا.. كما يؤدى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية».
على أى حال.. مرت الميزانية، على أساس أن المجلس سوف يناقش خطة عشرية للتنمية يحدد فيها الخطوط الاقتصادية كلها. ولكن.. حدثت مفاجأة.
ثم يمضى أكثر من شهر ونصف على اعتماد الميزانية، حتى كانت الحكومة تتقدم بميزانية للحرب، وشرح رئيس الوزراء ذلك بقوله: «لقد أعلن الرئيس السادات أننا قد اتخذنا قرار المعركة وأن علينا أن نعد أنفسنا لها، كما طلب إلى الحكومة أن تعد ميزانية للمعركة، وقد ذكرت فى بیانى الأخير أمام مجلسكم الموقر أننا قد أعددنا ميزانية للمعركة نطبقها عندما تتطلب الظروف ذلك».
وكان كلام رئيس الوزراء واضحًا.
مطلوب: مراجعة شاملة لسياسة الإنتاج وسياسة الاستهلاك وسياسة التصدير، ومن الجانب المالى: إعادة النظر فى موازنة 1973، وما ورد فيها من استثمارات.
واقترح رئيس الوزراء وقتئذٍ:
- تخفيض استثمارات التنمية.. بالنسبة لمشروعات الخدمات، ومشروعات الصناعة الطويلة الأجل، ومشروعات الزراعة التى لا تؤثر تأثيرًا سريعًا وكبيرًا.. وحدد أكثر أنه مطلوب: وقف كلى أو جزئى لبعض المشروعات الجديدة التى لا تؤثر مباشرة على المعركة. - ترشيد الإنفاق الجارى، واتخاذ إجراءات لتدبير موارد جديدة . - تأجيل النظر فى أية مطالب جديدة لزيادة الأجور حتى نهاية المعركة.
اقترح رئيس الوزراء ذلك، وقدم له بأن «تحويل الموازنة العادية العامة إلى موازنة معركة يرتبط بمراحل المعركة وتطورها، وقد تبين من التقديرات الأولية الخاصة بإعداد الدولة للمعركة وتوفير متطلبات الأمن القومى أنه يلزم إعداد ميزانيةخاصة لتدبير الاعتمادات الاحتياطية التى تحتاجها المعركة، وأبرزها:
- اعتمادات إضافية للقوات المسلحة، وتم إعدادها بمعرفة وزارة الحربية.
- اعتمادات إضافية لمرافق لها صلة بالمعركة كالأمن والصحة والكهرباء .

- تدبیر احتیاطى عام للطوارئ.. فمهما كان التصور دقيقًا لتطورات المعركة ومتطلباتها فإنه يجب أن يخصص احتياطى عام لمقابلة أى احتمالات..
وناقش مجلس الشعب الأمر على وجه السرعة، وعاد للانعقاد بعد 48 ساعة ليوافق على تقرير رئيس الوزراء وليصدر قانونًا يفوّض رئيس الجمهورية فى مسألتين: نقل اعتمادات من باب لباب وتعديل استخدامات وإیرادات الميزانية ثم فرض ضرائب ورسوم لدعم المجهود الحربى.
ووضع مجلس الشعب قيدًا على المسألتين، قال : إن التفويض أمر جائز حسب الدستور، ولكن لأجل وغرض محددين.. وقد استخدم المجلس هذا الحق عندما فوّض السيد الرئيس فى التصديق على اتفاقيات التسليح، وكان ذلك عام 1972 ولفترة محددة هى نهاية 1973، أو حتى إزالة آثار العدوان أيهما أولًا.. و.. طبق المجلس نفس الشىء: يسرى التفويض فى ميزانية المعركة لنفس الفترة ويعرض الأمر على المجلس فور انتهاء فترة التفويض.. ثم .. لا يستخدم حق فرض الضرائب بقرار مباشر دون عرض على مجلس الشعب إلا فى حالة نشوب القتال.. ولنفس الفترة الزمنية: نهاية 1973، أو نهاية المعركة.. أيهما أولًا.
ومر القانون دون أن يلفت النظر كثيرًا.
بعدها، كان المحافظون يلحون على مزيد من الاعتمادات للمشروعات.. وكانت الصناعة تثير مشكلة الإحلال والتجديد كحد أدنى، ولم ينتبه الكثيرون، لما حدث فجأة فى (13) فبراير.. لم يعرفوا ماذا يمكن أن يعنيه التحول المفاجئ للحكومة فتسحب جزءًا كبيرًا من مشروعات التنمية وتضيف اعتمادات للقوات المسلحة بعد ستة أسابيع فقط من إقرار الميزانية.
معظم الناس لم تفهم، وكان أول هؤلاء: العدو نفسه!
فى 6 أكتوبر منذ تسعة أيام اتضح كل شىء.. نشب القتال.. عبرت قواتنا.
حاولت القرارات الاقتصادية بعد ساعات من إطلاق النار أن تضع الجبهة الداخلية أمام مسئولياتها، نصت على إجراءات من شأنها أن تقلل من استهلاك السكر والشاى، والبنزين، والقمح.. وكلها مواد مستوردة بالكامل.. أو جزئيًا.. واردات البترول فى العام الماضى بلغت (27.8) مليون جنيه، والسبب: قضية العدوان والاستيلاء على بترول سيناء (8 ملايين طن) وتعطيل معامل التكرير بالسويس والتى كانت تقدم وحدها 80 % من طاقة التكرير فى مصر، صحيح أننا أقمنا معامل أخرى، وصحيح أننا نصدر بما قيمته (18) مليون جنيه منتجات بترولية ولكن يبقى أننا نستورد أيضًا الشاى، نستورد منه ما وصل أحيانًا إلى 15 مليون جنيه فى السنة .. والقمح يصل استيرادنا منه هذا العام- وحسب تقديرات د.عبدالعزيز حجازى نائب رئيس الوزراء (60-70) مليون جنيه بخلاف (20-28) مليونًا فرق زيادة فى الأسعار.. حتى السكر الذى كان إنتاجه يكفى حاجتنا باستمرار ينتظر أن يحقق عجزًا هذا العام مقداره (19) ألف طن قيمتها (1.5) مليون جنيه تقريبًا .. وذلك بسبب زيادة الاستهلاك.
وكل المواد التى تناولتها إجراءات (6) أكتوبر تدخل بالطبع فى احتياجات القوات المسلحة المتزايدة: الدقيق، اللحوم، البنزين، السكر، الشاى، مواد البناء.. وأقول المتزايدة نظرًا لظروف القتال وضرورة توفير وتخزين كميات وافرة .
والسؤال: هل تقف الإجراءات عند هذا الحد.. وهل نكون بذلك قد بنينا اقتصادًا للحرب .. وما بعد الحرب من تعمير وتنمية؟
فى اجتماع بأمانة الشئون الاقتصادية اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى قال د.عبدالعزيز حجازى «إن الكثيرين قد يتساءلون: لماذا لم تتخذ إجراءات اقتصادية تتماشى مع ظروف الحرب التى تمر بها الدولة منذ عام 1967؟
ويمكننى أن أقول إن الحرمان كان يكون صعبًا لو أنه بدأ منذ سنة 1967، فلا بُد أن يكون هناك قدر متكافئ من العوامل النفسية والعوامل الاقتصادية».
والآن، قد اكتملت العوامل النفسية ، وتلح علينا عوامل الاقتصاد.. ماذا نحن صانعون؟ لقد ضحى أبناء لنا بأرواحهم فِيمَ يضحى الآخرون؟ وكيف نستكمل بناء اقتصاد الحرب، بعد أن أصبحت حقيقة واقعة؟
تلك دراسة أخرى.
نشر في العدد 2366







