الإثنين 8 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

فاطمة اليوسف تروى.. قلق صدور العدد الأول

بينما بدأ العد التنازلي لاحتفالنا بمئوية مجلة روزاليوسف؛ ننشر في هذه المساحة أجزاء من مذكرات الست صاحبة الدار، التي غامرت في لحظة مهمة بتأسيس مجلة تحمل اسمها، واشتبكت مع كل القضايا الكبيرة في هذا الوطن. لأننا نؤمن أن مذكرات الست «روزا» وتاريخ المجلة ما هو إلا فصل مهم من تاريخ مصر، بالحكايات والتحديات، بالمواقف والأشخاص، تاريخ اختلط فيه الحبر بالحرب.



 

بين أيديكم فصول من مذكرات الست «روزا» التي بدأت نشرها عام 1938 ثم أعاد جمعها في كتاب واحد الكاتب الصحفي رشاد كامل تحت عنوان «مذكراتي الصحفية».. فأهلا بكم في عالم «روزاليوسف».

 

قلت فى العدد الفائت، إن القلق قد ساورنى نظرًا لقرب الموعد الذى حددناه لصدور العدد الأول من روزاليوسف، دون أن ينجز منه شىء.

وعلى الرغم من أن أصدقائى المحررين، وعمال المطبعة، كانوا يؤكدون لى أن العدد سيصدر فى موعده، فقد ظللت مضطربة، أفكر فيما سوف يقوله الناس عنى حين يتأخر العدد، وكيف أرد عنى نظرات الشامتين، وابتسامات المتهكمين.

ظللت أربعة أيام بلياليها، وأنا نهب المخاوف المتعددة نهارا والقلق ليلاً.

كنت فى خلال هذه الليالى أتقلب فى فراشى ورأسى يغلى بالأفكار، فلا ألبث أن أجلس فى سريرى، وأناجى نفسى قائلة:

- ما من شك فى أن العدد سيتأخر.. وسيقول فلان.. وماذا يقول يا ترى؟!.. وفلانة؟!.. والجمهور؟!.. ألا قاتل الله ذلك الشيطان الذى أوحى إليّ أن أصدر المجلة.

 

مالى أنا وهذه «الدوشة» التى توشك أن تذهب بلبى!!

كان هذا شأنى، حتى صدر العدد الأول فى موعده المحدد، وما كدت أرى «المتعهد» يحمله من المطبعة حتى شعرت كأن كابوسا ثقيلاً قد انزاح عن صدرى، وانمحت جميع المتاعب التى عانيتها منذ أن نبتت فكرة المجلة فى مخيلتى.

وأردت أن أشهد مقدار إقبال الجمهور على الشراء، فامتطيت عربة ورحت أتجول بها هنا وهناك، وكلما رأيت بائعاً، استوقفت العربة لأرى كيف ينادى على «روزاليوسف» وكيف يبتاعها الجمهور.

وكنت كلما رأيت واحدا يشترى المجلة، ويدفع ثمنها للبائع، غمرنى السرور وهممت أن أترجل من العربة وألحق بالمشترى لأشكره على هذه «العاطفة الشريفة» التى حملته على شراء المجلة ودفع قرش صاغ دون أن يساوم البائع لتخفيض ثمنها على الأقل!!

أما الذين كانوا يمرون بالبائع، ولا يتناولون المجلة، فقد أثاروا حنقى حتى لقد اعتزمت أكثر من مرة أن أمسك بخناقهم وأمعن فى «بهدلتهم» لعدم تقديرهم ما تحتويه المجلة من آيات «الأدب العالى».

 

ولم أترك ميداناً دون أن أتجول فيه، وكانت النتيجة سارة جدا، حين استدعيت معظم الباعة وسألتهم عن مقدار ما باعوه.. وما تبقى لديهم منه.

وحدث فى ذات اليوم، أن كنت أسير فى طريقى إلى منزلى، فإذا بأحد باعة الصحف يصيح «روزاليوسف.. روزاليوسف»!!

فأخذتنى الحدة وبرح من بالى أن الغلام ينادى على المجلة، بل دار فى خلدى أنه ينادينى باسمى مجردا على هذا النحو فالتفت نحوه وانتهرته قائلة:

- جرى إيه يا ولد.. عاوز إيه من روزاليوسف!

فدهش الغلام وتمتم يقول:

- روزاليوسف يا ست.. عاوزة روزاليوسف!

وأيقنت أن فى الأمر «دسيسة» فهمت بصفع الغلام فى الوقت الذى تناول فيه إحدى نسخ المجلة وقدمها إلىّ.

وإذ ذاك ذكرت أنه ينادى على المجلة لا علىّ.. فلم يسعنى إلا أن أضحك، وأن أبتاع النسخة التى قدمها إلىّ الغلام.. ولست أشك فى أن الغلام أعتقد إذ ذاك أنه أمام سيدة ليست متمتعة بقواها العقلية!!

وظللت بعد ذلك زمنا طويلا، كلما سمعت من يهتف باسم «روزاليوسف» ألتفت خلفى ولا ألبث أن ابتسم حين يقع نظرى على بائع الصحف!

وعلى توالى الأيام، اعتدت أن يقرع سمعى النداء باسمى دون أن يثير اهتمامًا حتى لقد كان ينادى أفراد أسرتى فى المنزل- أحيانا- فكنت لا أجيب إلا بعد فترة طويلة، لتوهمى أن المنادى من باعة الصحف؟!

وبعد يومين من صدور العدد وكان صدوره يوم 25 أغسطس سنة 1925 نفد العدد الذى تسلمه الباعة عن آخره.

ودنا موعد الشروع فى إصدار العدد الثانى وكنت مطمئنة إلى سهولة الحصول على نفقاته، كيف لا وقد بيع العدد الأول بأكمله.. وما هو إلا «مشوار» بسيط إلى المتعهد، فأعود بعده وفى يدى حوالى العشرين جنيها.

وتوجهت إلى المتعهد فاستقبلنى استقبالا رائعا، وأسرف فى الاحتفاء بى، وأخذ يمتدح المجلة ويقول إنها سوف تكتسح المجلات بأكملها.

وشربت القهوة متمهلة، وأنا أنتظر بين دقيقة وأخرى أن ينقدنى المبلغ، لكنى رأيت أنه «مصهين» فحاولت أن أنبهه بلباقة، وقلت:

- يا ترى الحساب جاهز.. وألا آجى كمان شوية! فقال فى دهشة:

- حساب إيه يا ست؟!

- ثمن العدد؟!

وهنا ضحك المتعهد المحترم، وقال باسما بعد أن سحب نفسا طويلا من «التعميرة» التى كانت بيده:

- يظهر أن حضرتك مش عارفة الأصول.

ثم راح يشرح لى هذه «الأصول» وهى تتلخص فى أن حضرة المتعهد لا يدفع ثمن العدد الأول إلا بعد تسلم العدد الثانى ولا يدفع ثمن الثانى إلا بعد تسلم الثالث.. وهكذا.

كنت أستمع إلى هذه «المحاضرة» والغضب الممتزج بالكسوف، يعتمل فى نفسى، وقد شعرت بقواى تخور، والعرق البارد يتساقط مدرارًا، حيث أدركت أن الأمل فى إصدار العدد الثانى، قد قضى عليه هذا التصريح الخطير الذى أفضى به «المعلم».

واستجمعت أطراف شجاعتى، وعدت أحاول محاولة أخرى فقلت:

- ولكن العدد كله نفد من السوق بشهادة الباعة.

فأجاب ضاحكًا:

- أيوه مفهوم.. لكن الأصول عندنا كده يا ست.. حتى اسألى بتوع المجلات كلهم!!

- أنا مالى ومال «الأصول».. أنا عاوزه ثمن العدد اللى بعتوه وخلاص!

- ما يمكنش يا ست. لأن البياعين مايرضوش يدفعوا ثمن العدد إلا لما ياخدوا اللى بعده!

- طيب.. يصح تدفعوا جزء من الحساب.

- ما يمكنش يا ست.. ما نقدرش نخالف الأصول أبدًا!

وعند ذلك نهضة غاضبة وسرت أتعثر فى خطواتى، وأنا ألعن «الأصول» و«الباعة» و«المتعهد» وكل من ساهم بقليل أو كثير فى هذه المتاعب!!

نعم!!.. ثُرت وسخطت ولم يمض على صدور العدد الأول يومان.. وتطلعت بعين المستقبل إلى المتاعب المقبلة، فلم يسعنى إلا أن أشفق على نفسى منها، وإلا أن أتخوف من مواجهتها.

لكنى لم ألبث أن عدت إلى طبيعتى فاستجمعت شجاعتى واعتزمت أن أناضل.. وأناضل وأفوز!!