لأن الجمال صار مملا
القبح أيضًا.. له معارض
آلاء شوقى
كان (الجمال) دائمًا معيارًا للفن حيث الأشكال المثالية، والتصميمات المتناغمة التى اعتادتها عيون الباحثة عن الجمال فى صورته النمطية. لكن ظهرت خلال السنوات الأخيرة معارض جديدة حول العالم تحتفى بـ(القبح) وتكسر الصورة النمطية للفن بوصفه انعكاسًا للجمال.
فمن المعارض التى تحتفل بالأشياء (القبيحة) إلى المتاحف المخصصة لعرض (الفن الرديء)، يبدو أن هناك حركة متنامية تتحدى المألوف، وتعيد النظر فى معايير الجمال التقليدية، ليتحول (القبح) من عبء ثقافى إلى قيمة فنية يعاد اكتشافها من جديد!
الأجيال الجديدة تكره النمطية وتعشق السير عكس التيار السائد وترى الفن التقليدى مملًا بل تجد فى التغيير، بحد ذاته، جمالًا ومتعة. كما ترى الأجيال الجديدة الجمال التقليدى فى الفنون مملًا أو على الأقل يستفزهم هذا النوع من الجمال كونه غير متسق مع الواقع الحالى فى عالم ملىء بالمتناقضات والفوضى. لذلك ربما يكون الفن القبيح الصادم والمختلف عما اعتادته العيون هو أُسلوب مبتكر للتعبير عن الواقع.
عصر(القبح) فى «الصين»
فى أقصى الشرق الآسيوى، وتحديدًا فى مدينة «هانجتشو» الصينية، أقيم - منذ أسابيع قليلة - معرض «عصر القبح» تحت إشراف منصة «تاوباو» التابعة لواحدة من أكبر شركات التجارة الإلكترونية والخدمات الرقمية فى (الصين)، بهدف كسر القواعد والتصورات التقليدية عن الجمال.
يضم المعرض أكثر من ثلاثمائة منتج دخلوا جميعًا ضمن (جائزة الأشياء القبيحة)!!
الأكثر غرابة أن تلك المنتجات شملت – على سبيل المثال - صنادل مستوحاة من أوراق الكرنب، وأبراج من الوسائد الغريبة على شكل قطط، وغيرها من المنتجات التى قد يراها البعض مشوهة أو غير جذابة، لتصبح - الآن - ذات بشعبية غير مسبوقة.
من جانبه، قال المسئول عن مشروع (جائزة الأشياء القبيحة) «يو هو» لوكالة «رويترز» إن عصر القبيحين اجتذب أكثر من 3 آلاف زائر يوميًا خلال فترة عرضه من أواخر يوليو إلى منتصف أغسطس الماضي؛معتبرًا أن الشباب يُغذون شعبية هذه المنتجات البسيطة، لأنهم يريدون التعبير عن شخصياتهم الفريدة، من وجهة نظره.
كما حققت المنتجات القبيحة على «تاوباو» مبيعات تجاوزت 100 مليون يوان، أى ما يقدر بـ 13 مليون و940 ألف دولار منذ عام 2020.
هذه الظاهرة الغربية أشارت إلى توجه المستهلكين، خصوصًا من الجيل الشاب، نحو اقتناء أشياء ليس بسب مظهرها الجميل أو فائدتها العملية، بل لأنها تعكس شخصية الفرد، وتمنحه شعورًا بالتفرد؛ فيما اعتبر معرض «عصر القبح» أكثر من مجرد معرض للأشياء الغريبة، إذ يمثل انقلابًا فى مفهوم الجمال.
سريالية «مايسون أوبجيه» فى «باريس»
أما فى عاصمة الجمال «باريس»، فيعد معرض «مايسون أوبجيه» الدولى أكبر تجمع فى مجال التصميم والفن؛ كما يعد واحدًا من أضخم وأهم المعارض العالمية فى مجال الديكور، إذ يتم تنظيمه مرتين فى العام فى شهرى يناير وسبتمبر.. ورغم روعة وجمال المعرض الذى تم تنظيمه خلال الشهر الجارى؛ إلا أن المعرض الذى أُقيم فى يناير 2025 جاء مختلفًا وضاربًا كل التقاليد الفنية ومفاهيم الجمال المعتادة.
كان معرض يناير يهدف إلى اقتباس الحياة اليومية من السريالية، حيث شاهد الزوار أشياء غريبة، وغير منطقية. ومن بين التصاميم الغريبة بل الصادمة، كانت مزهريات على شكل رءوس حيوانات مقطوعة، وزهور مقلوبة، وأثاث يبدو وكأنه مقتبس من عالم الأحلام، حيث كانت الأرائك والكراسى تشبه الكائنات الحية؛ كما عُرضت طاولات مصممة على شكل أيدى بشرية، وغيرها.
وقالت المديرة الفنية التى صممت إحدى قاعات المعرض «إليزابيث ليريش» لموقع «يورونيوز»: «نحتاج لنوع مختلف من الاستهلاك، وهذا يعكس موضوع السريالية.. أردت أن ينظر الزوار إلى الأشياء بطريقة مختلفة، وأن يتساءلوا عن علاقتنا بالاستهلاك.. أعتقد أننا بحاجة إلى إعادة إحياء سحر العالم فى الوقت الحالى..هذا هو جوهر هذا الموضوع».
يذكر، أن الهدف من المعرض، هو تحفيز الزوار على التفكير بشكل مختلف حول العلاقة بين الجمال والاستهلاك. فالسريالية، كما رآها القائمون على المعرض، هى دعوة للتساؤل عن مفهوم الجمال.
الفن القبيح.. من «بوسطن» إلى «إيطاليا»
إذا كانت «الصين»، و«فرنسا» شكلتا صورة مختلفة لهذا النوع من (جمال القبح)، فإن مدينة «بوسطن» الأمريكية كانت واحدة من أولى المدن التى احتضنت هذا النوع من الفنون، الذى يُعتبر رديئًا وفقًا للمعايير التقليدية، وذلك عبر تخصيص متحفًا كاملًا للأشياء الرديئة!
ففى «متحف الفن الرديء» (MOBA)، تُعرض أكثر من 600 قطعة فنية تُعتبر سيئة التنفيذ، لكنها - فى الوقت ذاته - تمثل نوعًا من الفن الفريد الذى يستحق التقدير.
هذا المتحف، الذى أُسس فى أوائل التسعينيات، يهدف إلى تكريم هؤلاء الفنانين الذين لم يحظوا بالشهرة أو التقدير، ولكنه ـ أيضًا - يعكس كيفية تحول «الرداءة» إلى شيء مرغوب فيه، ومُثير للضحك والإعجاب.
ومن بين المعروضات الغريبة فى المتحف لوحة فنية تدعى «مانا ليزا»، وهى إعادة تفسير مشوهة من اللوحة الشهيرة «موناليزا» التى رسمها الفنان الراحل «ليوناردو دا فينشى»، حيث أُعيد تصويرها بشكل مشوه إلى حد كبير. والمثير للعجب والسخرية - أيضًا - هو أن القطعة الفنية أصبحت تستحق التأمل بسبب قبحها الفريد.
هذا بالإضافة إلى وجود لوحات أخرى مثيرة للريبة، مثل: محاولة أحد الفنانين لرسم امرأة عارية أمام مرآة، ولكن الفنان يبدو أنه لم يكن يعرف كيف يرسم الصورة الصحيحة للمرأة أمام المرآة، مما جعل اللوحة تُظهر تناقضات غريبة، ولكن - الغريب - أن تُوصف لوحة غير متناغمة إلى حد القبح بالمليئة بالإبداع، عبر إعطائها تفسير بأنها (رؤية مشوهة للإنسان)!!
قد يظن البعض أن مثل هذا النوع من الفن ليس له قيمة حقيقية، لكن المتحف الأمريكى الذى يحتفى بالرداءة والقبح الفنى يشير إلى أن الفن يمكن أن يكون مصدرًا للضحك، والسخرية، والدهشة فى آن واحد.
فبينما تحاول المتاحف التقليدية عرض الفن الذى يتسم بالكمال، فإن (MOBA) يركز على تقديم الفن الذى يخرج عن المألوف، ويفتح المجال للقبول بكل أشكال الإبداع غير التقليدى.
أما فى إيطاليا، فإن «متحف البراز» (Museo Della Merda) يقدم مثالًا آخر على كيفية تحويل الأشياء التى تعتبر فى العادة مقززة أو غير صالحة إلى أعمال فنية.
فالمتحف الذى يقع فى شمال «إيطاليا» بالقرب من مدينة «ميلانو»، هو واحد من أغرب وأندر المتاحف فى العالم، حيث يُقدم موضوعًا يعتبره الكثيرون محظورًا، أو غير مناسب للعرض العام.. وهى الفضلات، باعتبارها أمرا يُحتفى به ليس فقط لكونه جزءا من الدورة الطبيعية للحياة، بل وفن أيضًا!!
فى هذا المتحف، يتم استخدام البراز المُجمع من الأبقار لتحويله إلى قطع فنية؛ حيث يُخلط مع الطين فى أفران خاصة، لإنتاج مادة جديدة تُسمى «مرداكوتا».
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تستخدم تلك المواد لتصنيع قطع فنية، مثل: أوانى الطهى، الأثاث، والأوانى الزخرفية، وتُعرض فى المتحف كأعمال فنية فريدة، تجمع بين الفن والحرف التقليدية لتزيين الأماكن!!
هذا بالإضافة إلى وجود العديد من القطع التى يتم فيها دمج البراز الحيوانى مع تقنيات معاصرة، مثل: الإنارة الحيوية، إذ يتم إنتاج مصابيح تُضاء من خلال الميثان المُستخرج من البراز.
الجمال فى القبح.. فلسفة جديدة للفن
بعيدًا عن قبول تلك الأفكار أو رفضها، فإنه عند النظر إلى هذه الظواهر الجديدة التى تكسر التابوهات التقليدية، فإنها تؤكد فكرة مهمة تتعلق بكيفية تغير مفاهيم الجمال فى عالمنا اليوم.
وهكذا،بينما يظل الجمال، فى نظر البعض، هو الغاية الأسمى للفن،بدأ القبح يخطف الأضواء..فأصبح له قاعاته ومعجبيه.وربما يأتى يوم نرى فيها طوابير طويلة تنتظر دورها لتتأمل لوحات مشوهة وتماثيل غريبة غير متناسقة. فالفن، كما يبدو، لم يعد يبحث عن إرضاء العين بل إرباكها ودفعها إلى إعادة التفكير هل ما تراه جميلًا أم قبيحًا أو ربما إعادة التفكير فى مفهوم الجمال فى حد ذاته.
ففى الماضى، كان الجمال يُفهم على أنه معايير ثابتة، تقاس بالصور المثالية، والمصممة بعناية فائقة. لكن، مع مرور الوقت، وتغير الزمان، بدأت تظهر حركة تميل نحو الاحتفاء بالأشياء التى لا تتمتع بالكمال، بل بالأشياء التى تخرج عن المألوف، مما يثير تساؤلًا مهمًا، وهو: هل نحن أمام ثورة فنية جديدة تخرج عن الأطر المألوفة؟؛ أم أنها مجرد نزوة ثقافية جديدة ستزول؟!







