مغنـّون؟ بل مـُنافـِقون!

محمد شميس
فى زمن يُستهلك فيه الفن أكثر مما يُنتج، وتُعامل فيه الأغنية كما تُعامل علبة بسكويت رخيصة على رفّ المينى ماركت، خرج علينا بعض ممتهنى الغناء- أو من يُطلق عليهم تجاوزًا «فنانون»- ببيانات حزينة وتصريحات خائبة من عينة: «سأقوم بمسح كل أغنياتى بعد وفاة أحمد عامر».
ووصف هؤلاء بـ«المنافقين» ليس تجنِّيًا، بل هو توصيف دقيق. فحين نرجع لتعريف النفاق سنجده: إظهار خلاف ما يُبطن. وهؤلاء يظهرون حبًا للفن وادّعاءً للرسالة، بينما فى دواخلهم يحتقرونه، ويتعاملون معه كوسيلة للثراء السريع لا أكثر.
لن أخوض هنا فى الجدل العقيم حول حرمانية الغناء، رغم أنه لا يوجد نص قاطع يُحرّمه. بل إن فى صحيح البخارى حديثًا عن السيدة عائشة، يفيد بغناء جاريتين فى بيت النبى، بالآلات والألحان. فهذه المسائل مليئة باللغط، ولكل شخص أن يؤمن بما يشاء. لكن، من حقنا أيضًا أن نسأل:
إذا كان الغناء حرامًا، فلماذا تمارسونه؟ ولماذا تنتظرون الموت كى يُمحى أثركم الفني؟ ما الذى يمنعك من محو أغانيك الآن، وأنت بكامل قواك العقلية والحياتية؟ وإذا كانت الموسيقى «إثمًا» كما تزعم، فلماذا لا تتبرّع بما جنيته منها؟ ولماذا لا تترك هذا المجال المحرّم لتعمل فى حلالٍ خالص، وتتوب توبةً نصوحة تكون فيها متسقًا- لأول مرة ربما- مع نفسك وأفكارك؟
يظن البعض أن هذا العبث يخص فئة بعينها من مطربى الأغنية الشعبية. لكن الحقيقة- ومن واقع معرفتى الواسعة بالمشهد الغنائى- أن قطاعًا كبيرًا من العاملين فى الوسط لا يؤمنون بما يفعلونه أصلًا. خذ مثلًا ما حدث بعد وفاة الموسيقار «محمد رحيم»؛ إذ طالب كاتب شاب الجمهور بعدم نشر أغانيه لأنه «الآن فى دار الحق»! والأدهى أن مؤيدى هذه الفكرة لم يكونوا من العامة، بل من صُنّاع الأغانى أنفسهم، بعضهم يعمل مع «عمرو دياب» و«تامر حسنى» وغيرهما من كبار نجوم الساحة!
بل إن بعض الصحفيين المتخصصين فى تغطية الشأن الفنى يقتنعون بأن الغناء حرام. أحدهم- لن أذكر اسمه حرصًا على الإحراج- كتب منشورًا مطولًا عنى، فقط لأنى فى برنامجى «ربع تون» دافعت عن مشهد غناء «عمرو دياب» مع ابنته، كرسالة ضد خطاب متخلف يدّعى أن صوت المرأة عورة. تخيّل، صحفى يتربّح من الفن يحرّض الناس على من يدافع عن شرعيته وشرعية مهنته التى تفتح بيته!
حتى جمهور الغناء نفسه، كثيرٌ منه يرى أن الغناء «حرام»، لكنه يستمع إليه خِفية، ثم يخرج ليحتقر من يصنعه.
يصفّق للأغنية، ويشتم صاحبها. يطرب لكلمات الحب، ثم يُكفّر من كتبها.
مفارقة صارخة، لكنها كاشفة لثقافة مستهلكة للفن، لا تؤمن به، بل تتعامل معه كخطيئة لذيذة.
نحن، فى الحقيقة، أقلية نعيش وسط محيط من النفاق الصريح؛ نفاق يتعامل مع الإله بمفهوم ساذج ومختزل، يظن فيه المرء أنه قادر على خداع خالقه عبر ميزان شخصى للحلال والحرام: يغنى، ويجنى المال، ثم يتطهّر منه بمشروع «خيرى» ليغسل ذنوبه، وكأن الفن خطيئة يمكن تسويتها بماكينة صدقة!
لقد حوّلوا الفن إلى وسيلة دنيئة للثراء، يتبرؤون منها بعد أن «يأخذوا منها اللى يكفى»!