الأسير المقدسى المحرر أحمد سليم: مجازر الاحتلال جعلتنا رجالاً قبل الأوان ونضالنا كان قدرًا وليس اختيارًا "الحلقة 11"

محمد الجزار
الأسير المحرر أحمد سليم بعد 23 عاما قضاها فى غيابات الجحيم، لكنه خرج مُبعَدا مدى الحياة محروما من العودة إلى فلسطين، فأصبحت تعيش داخله ويتنفس هواءها وذكريات الأرض الطيبة، لم يستسلم يوما للتعذيب والتنكيل داخل السجون الصهيونازية، ولأنه بارع فى امتلاك الحروف حوّلها لكلمات دعمته على النضال، والمشاركة فى إضرابات السجون وانتقم المحتل منه بهدم بيت عائلته بالضفة الغربية وقرر أن يكون سفير الفلسطينيين حتى يعودوا جميعا ويصلوا فى الأقصى.
وإلى تفاصيل الحوار مع روزاليوسف.
الأسير المحرر أحمد سليم، وعن وذاكرة الانتفاضة، وأسرة الأسر، ونَسيم الحرية يقول:
حين اقتحم مجرم الحرب أرئيل شارون باحات المسجد الأقصى فى خريف العام 2000، لم يكن يدرى أنه يُشعل بركانًا من الغضب فى قلوب الفلسطينيين. من هناك، من قلب الأقصى، بدأت انتفاضة الأقصى التى كانت امتدادًا طبيعيًا لذاكرة وطن لا تنام، وكنت ابن حركة التحرير الوطنى الفلسطينى «فتح»، واحدًا من أبناء ذلك الجيل الذى قرر أن يُشعل المواجهة لا أن يعيش على الأطلال.
وقد نشأتُ فى مدينة سلفيت بالضفة الغربية، فى بيت فلسطينى محافظ، والدى ووالدتى كانا قدوة فى الالتزام والنضال، ربّيا أبناءهما الستة- خمسة أولاد وبنت- على حب الوطن والتمسك بالحق. فى ظل الاحتلال، لم تكن طفولتى مثل باقى أطفال العالم، فالقصف والاقتحامات والاعتقالات كانت هى اللغة اليومية التى نتعلم منها كيف نكون رجالًا قبل الأوان.
ويضيف الأسير المحرر أحمد سليم أنه منذ نعومة أظفاره، كان قلبه معلقًا بحركة فتح، تلك الحركة التى جسدت روح الثورة ومعنى التحرر، ووجد نفسه بطبيعة الحال منخرطًا فيها، يتعلم، يشارك، ويتقدم الصفوف.
لم يكن النضال خيارًا، بل كان قدرًا. وعندما اندلعت انتفاضة الأقصى، كان طالبًا جامعيًا، وكان يرى أن مكانه الحقيقى هو بين صفوف المقاومين والتحق بصفوف كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح.
ويتذكر أحمد سليم يوم اعتقاله بأنه فى 22 رمضان عام 2002، كنت فى قلب مدينة سلفيت، عندما حاصرتنى قوات الاحتلال، مجموعة متطرفة من الجنود الإسرائيليين المتعصبين. أطلقوا النار نحوى دون إنذار، فى محاولة لتصفيتى ميدانيًا. لكن الله كتب لى النجاة. اعتقلونى جريحًا، حيث إننا فى هذا اليوم كنا نعد العدة ونجهز أنفسنا للقيام بعملية عسكرية ضد الاحتلال مما جعل تحركاتنا كثيرة فى ذلك اليوم مما أدى إلى سهولة اعتقالى والحصول على معلومات عن تحركاتنا ومكان تواجدنا وبالتالى تمكنت قوات الاحتلال من رصد تحركاتنا واعتقالنا. وبعد ذلك بدأت من هناك رحلتى الطويلة فى سجون الاحتلال.. رحلة استمرت أكثر من عقدين.
وحُكم علىّ بالسجن مدى الحياة بسبب انخراطى فى المقاومة، لكن السجن لم يكن نهاية الطريق، بل بدايته. داخل الزنازين، قررت أن أُحوِّل قضبان القيد إلى درجات علم. تواصلنا كأسرى مع الجامعات الفلسطينية، وطالبنا بحقنا فى التعليم. ورغم كل العقبات، أتممت دراستى الجامعية.
وحصلت على شهادة البكالوريوس فى الخدمة الاجتماعية والتنمية البشرية من جامعة القدس المفتوحة، ثم أنهيت الماجستير فى العلوم السياسية من جامعة فلسطين. ولم أكتفِ بذلك، فالطموح لا يُحبس، فالتحقت ببرنامج الدكتوراه فى الإرشاد النفسى والتربوى فى جامعة القدس المفتوحة، وأنهيت سنتى الأولى بنجاح رغم قسوة الظروف.
وحول سنوات السجن المريرة أضاف الأسير المحرر أحمد سليم:
خلال 23 عامًا من الأسر، لم يكن السجن مجرد احتجاز، بل كان مسرحًا للصراع اليومى بين الكرامة والقمع. واجهنا السجّان الجبان بإرادة لا تلين، تحمّلنا التجويع، والتنكيل، والمداهمات الليلية، حتى فى رمضان والأعياد، حُرمنا من أبسط حقوقنا كالبسمة ولقاء الأهل.
ومنعت والدتى وإخوتى من زيارتى لسنوات عديدة، رحلة الزيارة كانت كابوسًا حقيقيًا، من التفتيش المهين، إلى ساعات الانتظار الطويلة، إلى المراقبة، إلى الوداع المؤلم الذى لا نعرف إن كان الأخير أم لا.
وبعد عملية «طوفان الأقصى»، شن الاحتلال حربًا داخلية فى السجون. انقلاب كامل على كل الاتفاقيات، اقتحامات شرسة، مصادرة ممتلكات الأسرى، ضرب مبرح، حرمان من الطعام والدواء، حتى الملابس استُخدمت فى تعذيبنا. استُشهد أكثر من 20 أسيرًا، فى ظل صمت دولى مُخزٍ.
ولم تكن المواجهة مع السجّان بالسلاح فقط، بل بالصمود والحوار والوعى. كنا ندير معاركنا بذكاء، نفاوض، نضغط، نضرب عن الطعام، ننتزع حقوقنا بكرامة. كنا مدرسة فى القيادة داخل السجون، وصورة مُشرّفة للشعب الفلسطينى كله.
وحول أبرز القيادات الفلسطينية التى قابلها فى الأسر يضيف الأسير المحرر أحمد سليم:
على مدار 23 عاما من الاعتقال قابلت الآلاف من الأسرى وربطتنى بهم علاقات وثيقة وأخوية ومن بين هؤلاء الأسرى أحد أبطال فلسطين، المعروفين جدا وهو الأخ والصديق ثائر حماد «قناص عيون الحرامية» الذى التقيت به فى أكثر من محطة داخل السجون وحررت له روايته التى كتبها حول عملية عيون الحرامية تحت اسم «إيوار النار» والتى تحدث فيها عن طفولته ومجريات تنفيذه للعملية البطولية بتفاصيلها الكاملة.
فهو أخ وصديق ورفيق درب أعتز وأفتخر به هو وكل أسير تشرفت بلقائهم والعيش معهم داخل السجون.
وقال إن الحب فى حياة الأسير هو حب الأرض، وحب الأم، وحب الحبيبة التى لم ترحل رغم المسافات والقيود. لم يكن الحب فى قلبى غائبًا، بل كان رفيقًا فى كل لحظة، وكان منبع القوة والإيمان بالحياة بعد الأسر.
ونحن كشعب فلسطين نقدر المرأة الفلسطينية.. ذلك لأن دورها فعال جدا فى تفاصيل شعبنا فتلك المرأة هى التى أنجبت وأنشأت جيلا مقاوما وودعت أبناءها محملين على الأكتاف بابتسامة وزغرودة ووردة. ولم تكتفِ بذلك فهى الأسيرة والجريحة والشهيدة وهى رفيقة درب الرجال فى النضال وحامية الوطن الأولى ونارنا المقدسة المشتعلة لإنارة دروب تحررنا.
وحول فقدان الأب وألم السجن قال:
خلال سنوات أَسرى فقدت والدى، ولم أستطع حتى توديع جثمانه أو معانقة أمى فى حزنها. كان الألم شديدًا، لكنه لم يكسرنى، بل جعلنى أكثر تمسكًا بوصيته فى الدفاع عن الوطن.
تدمير المنزل... والعقاب الجماعى
فى عام 2004، هدم الاحتلال منزل عائلتى كعقاب على نشاطى المقاوم. أرادوا إذلال عائلتى، كسرها، زرع الخوف فى قلوبها، لكنهم فوجئوا بأسرة تُجسد عناد الأرض، لم تتراجع، بل كانت دائمًا سندًا لى فى الأسر والمقاومة.
حين أُفرج عنى بعد أكثر من عقدين من الأسر، لم أصدق أنى أتنفس هواءً بلا قضبان. كانت لحظة عناق الحرية لا تُنسى. وجدت الوطن رغم الألم لا يزال حيًا، وشعبنا رغم الجراح لا يزال شامخًا.
صمود غزة.. وإعلان ترامب
صفقة القرن ومحاولة شراء غزة ما هى إلا أوهام فى عقول من لا يفهمون هذا الشعب. غزة اليوم تُقاوم، وتصمد، وتُفاجئ العالم. شعب لا يُباع ولا يُشترى، هذا ما علمتنا إياه غزة.
الدور العربى.. والتهجير القسرى
أرفض بشدة كل محاولات التهجير، وأقدّر كل صوت عربى وقف مع قضيتنا. الدور المصرى مهم، والدور العربى الأصيل لا يجب أن يغيب. فلسطين ليست وحدها.
رسالتى الأخيرة.. من قلب التجربة:
رسالتى للمقاومة: أنتم روحنا، وكرامتنا، استمروا ولا تترددوا.
رسالتى للأسرى: أنتم الأبطال الحقيقيون، أثبتّم أن الإرادة أقوى من الحديد.
رسالتى للعالم الحر: لا تصمتوا، فالظلم لا يدوم، ومن يصمت عليه شريك فيه.