
هاني لبيب
مصر أولا.. الثقافة.. أمن قومى مصرى.. معرض القاهرة الدولى للكتاب.. تأثير أم تقصير!
لا أحد ينكر الدور المحورى الذى تقوم به وزارة الثقافة فى دعم حركة النشر والتأليف، والذى يتجسد سنويًا مع انعقاد معرض القاهرة الدولى للكتاب. هذا المعرض الذى يعد من أبرز الفعاليات الثقافية فى مصر والعالم العربى. ورغم الجهود الضخمة المبذولة من قبل الوزارة وهيئاتها المتعددة، فإن صناعة النشر تواجه تحديات معقدة من أبرزها ارتفاع تكاليف الطباعة وإيجارات المساحات المخصصة لدور النشر الخاصة بالمعرض، ما يؤدى إلى زيادة أسعار الكتب. وهو ما يطرح تساؤلات منطقية ومشروعة حول العلاقة بين الوزارة ودور النشر؟ وهل هى داعمة أم منافسة لها؟ وقبل ذلك يظل السؤال الأهم هو: ما هى استراتيجيات وزارة الثقافة من خلال الهيئة العامة المصرية للكتاب فى حركة النشر؟!
وزارة الثقافة وحركة النشر..
أركز هنا على مسارات حركة النشر لوزارة الثقافة من خلال الهيئة المصرية العامة للكتاب لكونها المنوط بها الإعداد والتنظيم والإشراف على معرض القاهرة الدولى للكتاب.
تقوم وزارة من خلال الهيئة المصرية العامة للكتاب بإصدار كتب متنوعة ومتعددة، تشمل: الأدب والفكر، والعلوم.. بأسعار تحمل هامشا من الربح فى حدود 15 % بعد تكلفة التشغيل والطباعة. وهو ما يجعلها فى متناول قطاعات كبيرة من القراء والمهتمين. ومن المفترض أن تحقق هذه السياسة.. هدفًا وطنيًا فى نشر الثقافة، على غرار مكتبة الأسرة.. غير أن الحال تبدل الآن، وأصبح الأمر ثير جدلًا واسعًا حول تأثير هذا الدعم على المنافسة مع الناشرين المستقلين.
النموذج الدال على ما سبق، أن المعرض يعد أكبر منصة لالتقاء دور النشر مع متابعيها.. باعتباره فرصة حقيقية للترويج للإصدارات الجديدة. وتقدم الوزارة جناحًا خاصًا لإصداراتها بأسعار رمزية، بينما يتحمل الناشرون الآخرون تكاليف مرتفعة للإيجار، ما يترتب عليه.. تفاوتا واضحا فى أسعار الكتب داخل المعرض.
أزمات وتحديات..
المفارقة أنه رغم أهمية الدور الذى تقوم به وزارة الثقافة، فإن صناعة النشر فى بلادنا.. تواجه عقبات متنوعة.. تؤثر سلبًا على دور النشر ومتابعيها وقرائها على حد سواء. ويمكن تحديدها فى عدد من الأزمات المركبة والمعقدة والمتناقضة فى آن واحد.
أزمة ارتفاع أسعار الإيجارات: تواجه دور النشر مشكلة ارتفاع الإيجارات المخصصة للأجنحة داخل معرض القاهرة الدولى للكتاب سنويًا.. حيث تصل التكلفة إلى مبالغ كبيرة مقارنة بالقدرة الشرائية للمتابعين والقراء. وهو ما يدفع الناشرين بالتبعية إلى زيادة أسعار الكتب بشكل مبالغ فيه لتعويض التكلفة وتحقيق ربح.. ما يؤدى إلى تراجع مبيعاتهم. ولذا لجأت بعض دور النشر الصغيرة إلى تقليص حجم الأجنحة المؤجرة إلى أقل مساحة ممكنة أو المشاركة مع ناشرين آخرين لتقليل التكلفة المالية. وهو ما يحد من قدرتها على عرض إصداراتها بشكل كامل وعادل.
ضعف التوزيع والتسويق: تواجه إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب.. مشكلة ضخمة فى التوزيع.. حيث تتركز فى معارض محددة ومكتبات حكومية قليلة. وفى المقابل، يعانى الناشرون من صعوبة الوصول إلى العديد من الأماكن.. ما يزيد من أعبائهم المالية ويقلل من فرص تسويق كتبهم وإصداراتهم.
ارتفاع تكاليف الإنتاج: إلى جانب ارتفاع قيمة إيجارات الأجنحة.. تواجه دور النشر تحديات ارتفاع أسعار الورق والطباعة. هذا الواقع يدفع إلى رفع أسعار الكتب بشكل كبير.. ما يجعلها بعيدة عن القارئ العادى، والذى يمثل القطاع الأكبر من إجمالى القوة الشرائية للكتب.
مركزية العاصمة: لا يزال النشاط الثقافى.. يرتكز فى القاهرة بالدرجة الأولى، وهو ما يعنى ضعف البنية التحتية لمعارض الكتب خارج القاهرة.. ما يحرم المحافظات الأخرى من الاستفادة من فعاليات الهيئة المصرية العامة للكتاب وللناشرين المصريين، ويؤثر على فرص نشر مهارة القراءة على المستوى الوطنى.
معرض الكتاب 2024 و2025 و2026
المقترحات التالية ليست بجديدة، بل كتبتها أكثر منذ سنة 2023 وإلى الآن. وأعتقد أن غالبيتها أن لم تكن معظمها قابلة للتنفيذ على أرض الواقع.. فى حال إذ ما كان هناك إرادة ثقافية وطنية حقيقية.
أولًا: تطوير المعرض، والتفكير فى تغيير سياسات التمويل لهذا المعرض العريق.. للتيسير على الناشرين بإتاحة العديد من الإعفاءات والامتيازات لجميع الناشرين من جهة، ومحاولة الإسهام فى توفير ورق الطباعة للناشرين المصريين من جهة أخرى بعيدًا عن الاحتكار الذى أفسد سوق الورق فى مصر. وإعداد خطة تنفيذية بتوقيتات زمنية ثابتة لخريطة معارض المحافظات وميزانياتها بشكل محدد، واستهداف زيادة معارض الكتاب الداخلية من 11 معرضًا تقريبًا الآن (بين معارض داخلية ونوعية) إلى ما يزيد على 90 معرضًا كما كان قبل ذلك. والقيام بحصر حقيقى لعدد زائرى معارض الكتب، وحصر رقمى (كمى) ومعلوماتى (كيفى) لمبيعات دور النشر بالمعرض من أجل الوصول لقياس مدى جدوى إقامة هذه المعارض من الأساس، وتحديد معايير اختيار دور النشر المشاركة بها.
ثانيًا: توقف معارض الكتب النوعية (فى المحافظات والجامعات) والتى وصلت عام 2018 إلى 99 معرضًا سنويًا.. بحجة ترشيد الإنفاق أو بسبب خسائر معارض الكتب هو أمر جلل. وأبلغ رد عليه هو إذا كان الأمر كذلك، فكيف تقوم دور النشر المصرية الخاصة بالمشاركة فى معظم تلك المعارض.. وغالبيتها خارج مصر؟ ما يعنى المزيد من تكاليف الإقامة والسفر، وشحن الكتب، وإيجار المشاركة بالمعرض، وشحن المتبقى من حصيلة البيع مرة ثانية للقاهرة. والأعجب هو تحقيقهم لأرباح بل وجوائز أيضًا.
ثالثًا: وجود خطة واضحة وصريحة لوزارة الثقافة لتقليل تكلفة المعرض بدلًا من تعجيزه عن منافسة المعارض العربية والدولية التى تم إنشاء الكثير منها بعد معرض القاهرة بسنوات كثيرة. وذلك من خلال التحفيز على توقيع عقود الرعاية السنوية من خلال خطة دعاية متطورة.. خاصة أن أى نشاط ثقافى أو اجتماعى للرعاة.. يخصم قانونًا من الضرائب. وإعادة قيمة جوائز المعرض ومكانتها التى كانت محط اهتمام الجميع.. قبل أن تتراجع لصالح جوائز عربية.. غالبيتها محلى مرتبط باسم مدينة هنا أو هناك. ودعم فتح المزيد من مجالات التنافس من خلال الجوائز المتخصصة للترجمة وللطفل والمرأة.
رابعًا: لا يمر عام تقريبًا إلا وتحل مصر ضيف شرف فى معارض الكتب الدولية أو فى الفعاليات الثقافية المعروفة باسم الأيام أو الأسابيع الثقافية. ويترتب على هذا إرسال الوفود المصرية المشاركة فى تلك الفعاليات العربية والدولية. ولذا من الطبيعى أن تكون هناك معايير محددة لطبيعة تلك الوفود المشاركة وطريقة اختيار أعضائها كممثلة لمصر من خلال لجان مسئولة عن ذلك بحيث يكون لها إسهام فكرى وثقافى حقيقى، وحتى يتحولوا إلى قيمة ثقافية مضافة، بدلا من أن يقتصر التعامل مع الأمر على أنه مجرد رحلة يمكن أن يقوم بها أى موظف إدارى دون الحاجة لسفر قيادات الصف الأول. وهو ما سيجعل سفر الوفود إلى المعارض والمحافل الدولية.. يرتبط دائمًا بجدوى هذا السفر وتحقيق المستهدف منه وما ينفق عليه، وتحقيق النتائج والمخرجات المتوقعة من كل تلك السفريات. قطعًا، أحد الأهداف هو الوجود المصرى دوليًا، ولكن الطبيعى أن يكون هناك أهداف أخرى من ضمنها: الترويج لشراكات فى مجال الملكية الفكرية والنشر وحقوق الترجمة والتسويق الثقافى واقتصاديات النشر وغيرها. وربما يمكن الوقوف على دقة ما سبق، بعمل حصر خلال الخمس سنوات الماضية من جدوى المشاركة المصرية فى معرض فرانكفورت للكتاب وغيره لرصد ما تحقق من صرف لبدلات السفر والإقامة وغيرهما بالعملة الصعبة.
خامسًا: تحديد معايير اختيار العناوين المشاركة بمعارض الكتاب الخارجية وكذلك الأعمال الفنية التشكيلية المشاركة فى الفعاليات الدولية. ومدى اختيارها بناء على دراسات جدوى وأسس تسويق وآليات استثمار ثقافى.. تجنبًا لاختيارات من جانب قاصرى الخبرة تمامًا كاختيار أعضاء الوفود دون رؤية ولا أسباب معلنة. ولضمان عودتهم من رحلاتهم بمشروعات وبرامج وأفكار تسهم فى تطوير العمل الثقافى وإنجاح منظومته.. ولعل قراءة لتشكيلات الوفود التى سافرت فى وزارة الثقافة فى السنوات الأخيرة تكشف عن تحويل السفر للخارج إلى مكافأة نهاية الخدمة، أو لترضية الموالين والمقربين من رؤساء القطاعات المختلفة، وبالتالى أصبحت مشاركة هؤلاء فى الفاعليات الثقافية الدولية هى رحلات تسوق وأيام استجمام وتغيير جو.
سادسًا: لماذا لم يتم تفعيل المنصات الرقمية للنشر والتوزيع من خلال إطلاق منصات إلكترونية لبيع الكتب بأسعار تنافسية.. وهو ما سيسهم فى مساعدة الناشرين على تخطى أعباء الطباعة والتوزيع. ومع ملاحظة أن المنصة الرقمية لمعرض القاهرة الدولى للكتاب.. التى تم إطلاقها احتفالا بخمسين سنة على تأسيس المعرض سنة 2019، وكلفت الدولة المصرية 14 مليون جنيه آنذاك، وكان من المفترض أن تكون منصة رقمية لأول معرض رقمى لبيع الكتب فى الشرق الأوسط والعالم العربى.. لم تعد موجودة نهائيًا. وبالتالى، يكون السؤال ماذا حدث للمنصة؟! وبالمناسبة أين تطبيق «كتاب» الذى تم الإعلان عنه وتصفحه فى يوم افتتاح معرض هذا العام؟! فهو غير موجود على أى متجر تطبيقات نهائيًا حتى كتابة هذه السطور.
أين التطوير فى سياسات النشر لمؤسسات وزارة الثقافة..؟ قبل أن نسأل فيما بعد ذلك عن دعمها لمؤسسات ودور النشر الخاصة.. بعيدًا عن التعبيرات البلاغية والمجازية فى الحديث عن التحول الرقمى؟
استراتيجيات ثقافية..
كنت أتوقع أن تتبنى الهيئة المصرية العامة للكتاب.. استراتيجية ثقافية للنشر. ومن أهم ملامحها:
1 - خفض تكاليف إيجار الأجنحة: كان يجب على هيئة الكتاب.. تخفيض إيجارات الأجنحة فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، خاصة دور النشر الصغيرة.. لتخفيف الأعباء المالية، ما يمكنها من تقديم أسعار مخفضة للكتب. وبالتالى، الوصول إلى شريحة أكبر من القراء والمهتمين.
2 - دعم الناشرين: لا زالت هناك.. آليات لتقديم دعم غير مباشر لدور النشر عبر تبنى وزارة الثقافة مع وزارة المالية.. فكرة تخفيض الضرائب على الورق والطباعة، أو مع البنوك لتوفير قروض ميسرة لدعم صناعة النشر.
3 - الشراكة مع القطاع الخاص: تعزيز التعاون بين الهيئة المصرية العامة للكتاب والناشرين.. عبر إنشاء برامج مشتركة، مثل: دعم إتاحة الكتب الصادرة عن دور النشر الخاصة فى المكتبات الحكومية أو تخصيص أجنحة مشتركة بأسعار مخفضة.
4 - التحول إلى النشر والتسويق الرقمى من وزارة الثقافة كلها وفى مقدمتها الهيئة المصرية العامة للكتاب المنوط بها النشر فى إطار التطوير والتجديد الذى يتحدثون عنه. ومع ملاحظة أن هناك عددا من دور النشر.. بدأت فى فرض وجودها بصيغ وأشكال جديدة للنشر الرقمى.
5 - تنوع المحتوى واستهداف مريدين جدد: من خلال التنوع فى الإصدارات بين الكتب الجماهيرية والأكاديمية.. لضمان جذب قراء جدد، ومع تقديم حملات تسويقية مبتكرة لزيادة الإقبال.
مساعدة أم منافسة..
الدور الذى تقوم به الهيئة المصرية العامة للكتب هو دور مزدوج له أبعاد متشابكة، فهى تدعم نشر الثقافة من خلال تقديم كتب بأسعار مدعومة، لكنها فى الوقت نفسه.. تنافس دور النشر عبر بيع كتبها بأسعار مخفضة داخل المعارض. وكما ذكرت قبل عدة سطور، فإن ارتفاع الإيجارات المخصصة لأجنحة الناشرين.. يزيد من التكلفة المالية عليهم، ويدفعهم إلى رفع الأسعار، وهو ما سيجعل المنافسة غير متوازنة بينهما.
نقطة ومن أول السطر..
مازلت أرى أن معرض القاهرة الدولى للكتاب.. يشكل فرصة لإعادة النظر فى سياسات الهيئة المصرية العامة للكتاب تجاه دعم دور النشر. والتأكيد على توفير بيئة متوازنة تخفض الأعباء على الناشرين وتعزز وصول الكتاب لقطاع عريض من القراء، وهو ما سيحدث تغييرًا حقيقيًا.. فى صناعة النشر بمصر.
الثقافة هى الحل..
الثقافة.. أمن قومى مصرى.
الثقافة هى السبيل لتحقيق الدولة المدنية المصرية.