الأحد 20 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
حسابات المكسب والخسارة فى طوفان الأقصى!‏

حسابات المكسب والخسارة فى طوفان الأقصى!‏

قال لى طبيبى: ممكن أن تريح دماغك تماما، وإلا لن أكون مسئولا عنك، لا تشاهد نشرات ‏الأخبار فى التليفزيون، لا تقرأ كتبا فى السياسة والتاريخ، لا تتابع شبكات التواصل ‏الاجتماعى، يعنى فرفش، اتفرج على أفلام كوميدية، مسلسلات مسلية، اسمع أغانى مبهجة ‏خالية من الهجر والدموع والأسى، خليها (ضحك ولعب وجد وحب) على طريقة عبد الحليم ‏حافظ، اذهب إلى الريف، سافر إلى سيوة أو أسوان، اعمل «رحلة فى الصحراء»!‏



ضحكت بجد قائلا: يعنى أقاطع العالم، وأنت نفسك متابع كل صغيرة وكبيرة على الكوكب، ‏كيف أفعلها فى تلك الظروف المعقدة التى تحيط بنا، التفكير فريضة، والعقل هو أثمن ما ‏يملكه الإنسان، وعلينا جميعا أن نفهم حتى نجنب مصر وأنفسنا «المخاطر» التى تكاد تقفز إلينا ‏عنوة!‏

قال: أسبوعان ثلاثة، حتى يهدأ توترك ويخف وجع دماغك.. ‏

طبيبى مثقف منشغل جدا بالشأن العام، وفى الوقت نفسه مهنى محترف، عاشق لمهنته مكب ‏على كل معارفها، يشبه الدكتور محمد أبو النجا فى قصة يوسف إدريس «على ورق سوليفان».‏

ثم سألنى: ما أخطر ما يؤثر فيك ويتعبك إلى هذه الدرجة؟

قلت: قد أكون متألما من جراء ما حدث فى المنطقة من حروب أهلية وانقسامات ‏واضطرابات، انتهت باختفاء العالم العربى الذى درسته فى المدارس الإعدادية والثانوية، ‏سبع دول فيه صارت أسماء دون واقعها الذى عرفناه، أغلبها دول فى المركز الجغرافى ‏للمنطقة، سوريا والعراق ولبنان وفلسطين وليبيا، ناهيك عن اليمن فى مدخل باب المندب، ‏والسودان بوابته الجنوبية إلى إفريقيا ومنابع النيل، ولم يبق من هذا المركز إلا القلب ‏‏«مصر»، ورغم فقرها والمشكلة الاقتصادية هى عمود الخيمة المنتصب وحيدا فى منطقة ‏تجرفها عواصف مصطنعة ومقصودة، وبقاء هذا العمود صامدا يحافظ على أمل العودة ‏وتصحيح الخراب الذى حاق بهذه الدول، ولو على مدى بعيد نسبيا، كما فعلت مصر عبر ‏تاريخها كله، ومؤكد أن العدو لا يرغب ويتربص بعمود الخيمة.‏

قال: عندك حق.. لكن شعب مصر فاهم وعارف وتركيبته الإنسانية مختلفة، وتجاربه التاريخية ‏أعمق كثيرًا من أن يسقط فى الفخ.‏

غادرت، وكنت على موعد مع مجموعة من الأصدقاء الذين يشاركوننى قلقى، وفكرت أن ‏‏ «أعتذر» لهم، حسب تعليمات الطبيب، وقبل أن أطلب صاحب الدعوة، طلبنى هو، مستفسرا: ‏أين أنت؟، نحن ننتظر، وقد تأخرت نصف الساعة وهذا ليس من عاداتك.‏

قلت له: ممكن أعتذر، نصحنى طبيبى أن أبتعد عن أى مناقشات عن الأحوال العامة لمدة ‏أسبوعين على الأقل.‏

قال غاضبا: لن نقبل اعتذارا، ابدأها من الغد، بضع ساعة لن تفرق!‏

فاستجبت واتجهت إليهم، كنا أربعة، صحفيين ومهندس ومدير حسابات..‏

بعد التحيات والسلامات، سألونى: هل سمعت تهديدات دونالد ترامب للمنطقة بأنه سيحولها ‏إلى جحيم إذا لم تفرج حماس عن الرهائن الإسرائيليين؟

قلت: تهديدات رعناء قديمة متكررة ممتلئة بالغطرسة.‏

سأل المهندس: ما الذى يمكن أن يفعله ترامب، حين يصل إلى البيت الأبيض دون الإفراج ‏عن الرهائن؟

قلت: لا أتصور جحيما أكثر مما حدث فى غزة.‏

قالوا فى نفس واحد: إذا ماذا يقصد؟

قلت: أظنه تهديدا لكل أهل المنطقة، يقول لهم إن لم تجدوا حلا مع حماس خلال الأيام العشرة ‏المقبلة، ستدفعون جميعا ثمنا باهظا، وأظن، مع أن بعض الظن حرام، أنه تهديد بتنفيذ التهجير ‏القسرى لأهل غزة، وربما أيضا لبعض أهل الضفة الغربية، أى أنه سيسمح لإسرائيل بمزيد ‏من عمليات الإبادة وجرائم الحرب، لإجبار أهل غزة وسكان مناطق فى الضفة إلى الفرار ‏إلى أقرب ملاذ أمامهم.‏

سألوا: وهل هذا ممكن؟

أجبت: سيحاولون، لكنهم سيفشلون، لأن الفلسطينيين قرروا أن يموتوا فى أرضهم ولا ‏يغادرونها، لقد تعلموا دروس التاريخ، من يترك أرضه يستعصى عليه أن يعود إليها مرة ‏أخرى.‏ وقطعا هذه المحاولات ستمثل خطرا وضغوطا هائلة على مصر والأردن بالدرجة الأولى، ‏ودول الخليج بدرجة أقل.‏

نظر إلينا مدير الحسابات ممتعضا وقال: إذن ما حدث فى 7 أكتوبر هو حسابات خاطئة من ‏حماس، يعنى طوفان الأقصى هو السبب فى كل ما حدث، تدمير غزة، الحرب فى جنوب ‏لبنان وتدمير عشرات القرى فيه، انهيار الحكم فى سوريا لمصلحة ميليشيات متطرفة، كبيرها ‏كان على قائمة الإرهابيين المطلوبين من الحكومة الأمريكية، وكان عضوا فى تنظيم القاعدة ‏ثم تنظيم داعش،عجيبة جدا، هلل بعضنا لطوفان الأقصى وانتهى إلى كارثة وشرق أوسط ‏جديد على الطريقة الأمريكية الإسرائيلية!‏

قلت: مبدئيا، حماس ليست الفلسطينيين، مجرد فصيل منهم، تأسس بدعم من الغرب وإسرائيل ‏وبعض العرب، وكان الهدف هو تفتيت الفلسطينيين، وأى جماعات مسلحة لا يمكن السيطرة ‏التامة على تصرفاتها، فكان طوفان الأقصى، والفلسطينيون لهم الحق فى الكفاح المسلح ضد ‏الاستعمار الصهيونى كما تعترف به كل القوانين والمواثيق الدولية، ثانيا، قضايا تحرير ‏الشعوب من الاستعمار، ليست من أعمال الشركات، فلا تحسب معاركه بالأرباح والخسائر ‏المادية المباشرة، فهى معارك طويلة وممتدة وغير متكافئة، خاصة إذا كان هذا الاستعمار ‏الاستيطانى مثل إسرائيل، مدعوما من القوى الكبرى المتحكمة فى النظام العالمى، تخيلوا ‏إسرائيل فى جانب، معها وأمامها وخلفها، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا ودول ‏غربية أخرى بكل ما يملكونه من إمكانات عسكرية ومخابراتية واقتصادية وسياسية ‏ودبلوماسية، والفلسطينيون فى الجانب الآخر (يا مولانا كما خلقتني) إلا من إيمانهم بالله ‏وحقهم فى الوطن، مع مساعدات عسكرية واقتصادية محدودة من دول تستغل «قضيتهم» فى ‏دور إقليمى، يتيح لهم التفاوض على مصالحهم الخاصة، والفلسطينيون مجبرون على قبول هذه ‏المساعدات، فهم كالغريق الذى يتعلق بقشة.‏

قالوا: هذا لا يغطى هذا القدر المفزع من الخسائر البشرية وتدمير كامل البنية التحتية وسبل ‏الحياة فى قطاع غزة، وإيقاظ حالة التوحش الإسرائيلى فى الضفة الغربية أيضا!‏.

قلت: لا أعرف شعبا أو جماعة إنسانية نجحت فى الحفاظ على حقوقها من مستعمر سواء كان ‏مؤقتا أو استيطانيا دون دفع ثمن باهظ جدا، الفيتناميون مثلا خسروا فى حرب استقلالهم سواء ‏ضد الفرنسيين ثم ضد (الأمريكيين وقوات فيتنام الجنوبية)، ما بين 1.3 مليون إلى 3.8 ‏مليون نسمة، منهم 400 ألف مدنى، ولو حسبوا الخسائر التى أوقعتها بهم القوات الأمريكية ‏فى عشر سنوات ما تحررت فيتنام فى عام 1975، وكان الأمريكيون يلقون قنابل النابالم ‏بوحشية على القرى ويحرقونها بالكامل، بشرا وحيوانات ومزروعات!‏

هذا للعلم مع الفارق الهائل بين طبيعة وظروف الفيتناميين والفلسطينيين، الفيتناميون ‏الشماليون كانوا أكثر تسليحا وتدريبا وخلفهم قوة عظمى هى الاتحاد السوفيتى، ويتحركون ‏من أرضهم ضد قوات أجنبية تحارب فى أرض غريبة عنهم.‏

وإذا تحدثنا عن الهند فقد نشر «جيسون هيكيل» عالم الإنثروبيولوجيا الاقتصادية فى مجلة « ‏التنمية العالمية» أن الاستعمار البريطانى تسبب فى مقتل ما يقرب من 165 مليون شخص فى ‏الهند، ما بين عام 1880 إلى عام 1920 فقط!، ناهيك عن المجاعة التى تسبب فيها رئيس ‏الوزراء البريطانى ونستون تشرشل فى عام 1943، ومات فيها ثلاثة ملايين هندى جوعا، ‏ليوفر الطعام لإمبراطوريته وجنوده فى الحرب العالمية الثانية على حساب الهنود.‏

قالوا: إذن مأساة الفلسطينيين مستمرة!‏

قلت: نعم، طالما ظلوا متمسكين بأرضهم ووطنهم واستقلاله، ولا يتحولون إلى مشردين فى ‏البلاد الأخرى.‏

قالوا: إذًا علينا أن نتعايش مع تلك الخسائر الرهيبة ونعتبرها «مهرا» فى عملية التحرير ‏المستمرة!‏

قلت: من فضلكم هذا كلام جاد، لا يجب أن نستخدم فيها كلمات قد يساء فهمها، ومأساة ‏الفلسطينيين ليست فقط فى «الدعم الكامل غير المشروط» من الغرب الاستعمارى للعدو ‏الإسرائيلى، ولكن فى ضعف نظام «الجماعة العربية»، الناتج عن «التحالف غير المشروط» ‏لعدد مهم من دول هذه الجماعة مع الولايات المتحدة.‏

لكن على الجانب الآخر.. صارت قضية فلسطين «شأنا» معلوما لسكان كوكب الأرض، بعد أن ‏قاربت على الموت البطىء، وقد استمعت إلى ثلاثة من كبار مغنى الأوبرا فى العالم وهم ‏ينشدون معا على أنغام أوركسترا عالمية «تحيا فلسطين»، وهذا حدث فريد، بعد 77 عاما من ‏إعلان دولة إسرائيل وحكايات الهولوكست، والبقية تأتى، والأهم أن أجيال الفلسطينيين التى ‏ستطلب الثأر قادمة لا محالة!‏

أحسست بوجع فى دماغى، قمت منتفضا، اعتذرت لهم وغادرت المكان!‏