السبت 18 يناير 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
دعوة عاجلة من صاحبة الجلالة!

دعوة عاجلة من صاحبة الجلالة!

لم تكن كلمة نقيب الصحفيين خالد البلشى الصادمة فى افتتاح مؤتمر نقابة الصحفيين السادس، ‏ولا سخونة جلسات المؤتمر التى دامت يومين، مجرد «رصد» لأوجاع صاحبة الجلالة، ‏وتوصيف «لحالتها» الصعبة ومأزقها الوجودى، بقدر ما كانت دعوة إلى مجتمعها كله: ‏حكومة وشعبا، سلطة ومؤسسات، أن ينتبه ويدفع عنها الخرس والصمت والذبول، فمن سوء ‏حظ أى مجتمع أن تتصلب شرايين صحافته وتتيبس عضلاتها وتفقد حيويتها، وتعيش على ‏أجهزة التنفس الصناعى، فلا تصبح قادرة أن تموت، ولا قادرة أن تستعيد عافيتها.‏



 

قد يتصور البعض من باب الحسابات الخاطئة أن «دوام» هذه الحالة ليس خطرا على ‏المجتمع، وأنها مجرد مهنة أصابها «التقادم» وضربتها عوامل التعرية، مثل مهن كثيرة كانت ‏ملء الأبصار والآذان والعقول، ثم فقدت أسباب وجودها بحكم التطور فى أساليب الحياة، ولا ‏جدوى من الوقوف فى وجه طوفان الزمن لإنقاذها.

ليست هذه حسابات خاطئة فحسب، بل خطيئة فى حق الوطن، فالصحافة هى مرآة المجتمع ‏وقرون استشعاره وراداره، ترصد ملامح أيامه وتفاصيل معيشته فى كل جنباتها السياسة ‏والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرياضية..إلخ، هى ديوان حياته، فنار يرشد ناسه وأهله ‏من أول مراكز صناعة القرارات فى مختلف مستوياتها إلى أبسط مواطن، ما هى الدروب ‏التى يمكن أن يبحر فيها سالما؟ ما هى المخاطر التى تحيط به؟، ما هى العيوب والمثالب التى ‏تنخر فيه؟، ما هى عناصر قوته التى يجب أن يعظمها ويستثمرها؟ ‏

نعم، ثمة أجهزة خاصة فى أى مجتمع توفر لصناع القرارات ما يحتاجونه من تفاصيل.

لكن الصحافة جهاز معلومات أشمل وأوسع، زاوية رؤية باتساع الوطن، جهاز يتعامل مع ‏دقائق المجتمع وقاعه وقمته مباشرة، مع كل ناسه، يمدهم بمعلومات وأفكار ورؤى تساهم فى ‏بناء الوعى العام، والشخصية العامة والمعرفة العامة، التى تصنع اتجاهات الرأى العام، وأى ‏مجتمع بلا رأى عام أو له رأى عام مرتبك ومضطرب، يشبه صحراء من رمال متحركة لا ‏يمكن زراعتها، صحيح أن المواقع الرقمية وشبكات التواصل الاجتماعى تنشر فيضا من ‏المعلومات والآراء لحظة بلحظة، لكن ثمة فارقا هائلا بين الصحافة وبينها، فارقا فى الدقة ‏والمصداقية، يعادل الفارق بين العلاج عند طبيب متخصص والعلاج عند حلاق صحة، بين ‏مهندس معمارى يخطط عقارا ومقاول معمار يبنى عشوائيات، بين سائق محترف وسائق ‏توكتوك!‏ ماذا يحدث لو تركنا المجتمع للنوع الثانى يشكل وعيه العام؟

لو تتبعنا حجم الأخبار والآراء والمعلومات المغلوطة والمبتسرة المنتشرة على شبكات ‏التواصل الاجتماعى، خاصة فى أيامنا هذه التى تحيطنا الأخطار والقلاقل والحروب من كل ‏جانب، لأدركنا سببا مهما من أسباب شيوع العقل الغوغائى الزاحف على حياتنا، سواء فى ‏الإعلام الفضائى أو الحياة نفسها، والعقل الغوغائى شر متوحش، لا يقل خطورة عن العدو ‏الخارجى الذى يرتكب جرائم ضد الإنسانية، والعدو الداخلى الذى يتقنع بالدين والشريعة ‏وفكك ست دول عربية إلى أشلاء!‏

ومن الأخطاء الشائعة أن الأزمة صراع بين صحافة ورقية وصحافة إلكترونية، فكان طبيعيا ‏أن تخسر الصحافة الورقية وتنحسر وتختفى من الوجود كما يتنبأ البعض، توصيف خاطئ ‏جملة وتفصيلا، فنحن نشترى سلعا من المواقع الإلكترونية، أحذية وملابس وسيارات ‏وأغذية.. إلخ، فهل هذه سلع إلكترونية؟، هل يعقل أن ينسب المنتج إلى أسلوب تسويقه؟، هل ‏لدينا سيارات ركوب إلكترونية لأننا نشتريها من مواقع على الإنترنت أو ملابس إلكترونية ‏لأننا نشتريها من متاجر سبرانية.. إلخ؟، الفضاء الإلكترونى مجرد «وسيلة تسويق» لمنتج ‏الصحافة من أخبار وتقارير وتحقيقات وحوارات وصور ورسوم.. إلخ، وسيلة تمتلك أدوات ‏جديدة ومتغيرة فى التوضيح والتفسير والتواصل، ومختلفة عن وسيلة التسويق القديمة.‏

‏ الصحافة بما فيها من أخبار ومعلومات وأفكار وتحليلات لا يمكن أن تموت أو يضمحل ‏دورها أو تفقد «ثقلها»، أى أن المحتوى هو الفيصل، فالصحيفة سواء ورقية أو إلكترونية هى ‏فى الأصل «سلعة» لها مواصفات خاصة، وعليها أن تقنع جمهورها بالحاجة إليها والإقبال ‏على شرائها، ولن يفعلها إلا إذا صنعت له مصالح مباشرة فيها، أن يعرف ويتعلم ويُخبر ‏ويفهم ويتسلى ويستفيد بخدمات يسعى إليها ويكتسب خبرات جديدة، سواء فى بيئته المباشرة ‏أو فى محيطه المحلى، أو إقليمه المجاور أو عالمه الأوسع.‏

باختصار لن يشترى القراء جريدة سواء كانت ورقية أو إلكترونية إلا إذا أشبعت عقله ونفسه ‏بوجبة جيدة من الأخبار والحكايات والآراء والتفسيرات والتعليقات المقدمة إليه بطريقة تجمع ‏بين الجاذبية والعمق، إلى جانب التعليم والتسلية!‏

فى نفس الوقت غيرت التكنولوجيا الحديثة التى لا تتوقف عن الابتكار والتجديد، من نوعية ‏القارئ ومزاجه ورغباته، وهو يختلف كليا عن القارئ القديم بعاداته وتقاليده ومفاهيمه.‏

وهذا ما لم تدركه الصحافة المصرية منذ سنوات طويلة ولم تعمل به، حتى أصبحت لنا ‏مؤسسات قديمة فى زمن حديث، تنتج لنا مطبوعات لا تتوفر فيها شروط المستهلك الجديد.

لا فرق فى هذه الأزمة بين الصحافة المطبوعة والمواقع الإلكترونية، ولولا إعلانات الأدوية ‏الحسية وعلاجات الصلع ومانشيتات الجرائم الجنسية المثيرة وخناقات الردح الرياضى ‏وفضائح الفن والعلاقات ما استمرت أغلب هذه البوابات الرقمية على شبكة الإنترنت!‏

والسؤال: ما أسباب هذه الفجوة بين صاحبة الجلالة وجمهورها؟.‏

أهمها على الإطلاق هو بيئة العمل، وبيئة عمل الصحافة المصرية صعبة جدا فى أمرين:

‏1- ضيق المساحة التى تتحرك فيها الصحافة، أو الدور المسموح لها أن تلعبه، وضيق ‏المساحة أو هامش الحرية كما يسميها البعض، بالضرورة ينتهى إلى تراجع مساحات النقد ‏والتفسيروالاستقصاء والآراء المخالفة للشائع والمعتاد، فأخرجت جرائد ومجلات بلا روح ‏تشبه المطبوعات الرسمية! 

‏2- نمط علاقات عمل تكاد تتطابق حرفيا مع نمط علاقات العمل فى دواوين الحكومة ‏والهيئات الخاسرة، الصحفيون موظفون، حضور وانصراف دون إنتاج حقيقى أو جيد، ‏استغلها الصحفيون أو تأقلموا عليها، ولِمَ لا وهى بيئة عمل دافعة إلى الكسل واللامبالاة؟

بل إن تقسيم العمل داخل المؤسسات الصحفية مضى على نفس تنظيم العمل فى الدواوين ‏والهيئات الرسمية، وظائف ومسميات بلا مواصفات عملية فى الواقع، مجرد ألقاب لا نظير ‏لها فى أى صحافة فى العالم، فعدد مدراء التحرير ونواب رئيس التحرير ومساعدى رئيس ‏التحرير، ونواب مديرى التحرير ورؤساء الأقسام أضعاف أضعاف عدد المحررين، ‏فأصبحت الجريدة مثل كتيبة أو جيش من الضباط دون جنود، مع أن أهمية الصحفى هو اسمه ‏وليس اسم وظيفته، ما يكتبه وينشره وليس لقبه فى بطاقة تعريف!‏

وبيئة العمل صنعها تاريخ طويل وتراكمات وخبرات منذ تأميم الصحافة المصرية فى ‏الستينيات من القرن العشرين، صبغت الصحافة بهذه المثالب البيروقراطية التى تعادى ‏التفوق والتألق والتميز.

أولا: لم يعد التفوق المهنى عنصرا حاكما فى الصعود إلى المنصب الحلم وهو رئيس ‏التحرير، أو المناصب التالية له، وحل معه أو بديلا له الولاء والشلة والعلاقات العامة ‏والارتباط بسلطة: سلطة اقتصادية أو سلطة سياسية أو هما معا، وبالتدريج تراجعت المعايير ‏المهنية فى صناعة المطبوعة من أداء وتوزيع ومكسب وخسارة، وتحول الصحفيون تدريجيا ‏من نظائر مشعة إلى آلات روتينية، وتقلص دور الموهبة والاجتهاد سنة وراء سنة، وإن لم ‏تعدم الصحف من موهوبين مهرة، قلة تصنع قدرا من الاختلاف والتميز النسبى، وهؤلاء هم ‏الذين منحوا الصحافة المصرية قدرة الصمود لأكثر من أربعين سنة.‏

ثانيا: تراجع دخول الصحفيين بدرجة لم تعد تسد تكاليف حياة جيدة نسبيا، فاضطر عدد كبير ‏منهم إلى عمل إضافى، يستهلك فيه نفسه وإمكاناته ويتضاءل أمامه الوقت الذى يجود فيه من ‏مهاراته وأدواته، والصحفى هو أهم عنصر فى مهنة الصحافة، فإذا كان مشغولا أو مرتبكا ‏فى معيشته، فلا فرصة للإتقان والتجويد والابتكار إلا قليلا، بل لم ير الصحفيون ما فى الحياة ‏من أحداث وحكايات ومواقف وبشر، لا تقل أهمية عن المعارضة السياسية، يمكن أن ‏يصنعوا منها خلطة سحرية، فيها قليل من الهتاف وكثير من واقع الناس، مكتوبة بجمال، ‏لتخرج فى مطبوعة ممتعة مغرية لعدد معقول من المستهلكين فى مجتمع تعداده تجاوز مئة ‏مليون نسمه، أكثر من نصفه متعلم فى الجامعات أو المعاهد أو المدارس الثانوية.‏

باختصار، مجتمعنا يحتاج إلى صحافة جيدة، فيها سوق حرة للأفكار والآراء محكومة بالقانون ‏الحازم، وفيها نظم إدارية عصرية متحررة من «دواوين الحكومة» يقودها الموهوبون ‏والمهرة القادرون على الجمع بين الحرفية وأدوات العصر، هذا هو ملخص مؤتمر نقابة ‏الصحفيين السادس.‏