راهبة عاشت أهوال الحرب فى القدس
حصلت روزاليوسف على مذكرات راهبة كاثوليكية عاشت الحرب فى القدس والضفة الغربية ساعة بساعة.. وسجلت وقائعها فى يوميات تبدأ ليلة الأحد 4 يونيو وتنتهى يوم الاثنين 3 يوليو.
الراهبة اسمها ماری تيریز، ويومياتها تسجيل أمين للجرائم التى ارتكبتها القوات والسلطات الإسرائيلية ضد سكان الأرض المقدسة الآمنين وهم من العجائز والنساء والأطفال.
من الصور التى سجلتها قصة عربة يد صغيرة بثلاث عجلات وجدتها على الطريق نهار ٨ يونيو وعليها شىء مغطى.. وكانت تحت الغطاء أجساد آدمية غارقة فى دمائها.. أم وخمسة أطفال عادت بالعربة إلى الدير، وفى الصباح سمعت أن قادة إسرائيل قد وصلوا إلى القدس، ودفعت العربة بحمولتها الدامية. وأمام موشی دیان ورابین ولیفی أشكول كشفت الغطاء. ودفع جندی إسرائیلى بفوهة مدفعه الرشاش فى صدرها وصرخ : غطى هذا
وصرخت الراهبة فى وجه ديان ورابين وأشكول:
لن ينسى العالم جريمتكم!
وروزاليوسف.. لأهمية هذه المذكرات.. تفرد لها صفحاتها الأولى.
هكذا تبدأ المذكرات :
ليلة الأحد 4 يونيو
كنت فى بيت لحم، أشجع الأخت برنادت والأخت مونا قبل أن أعبر الحدود إلى إسرائيل لأعود إلى دير الناصرة حيث أقيم وحيث رأيت أن الواجب يقتضى أن أكون هناك فى هذه الظروف. وفى انتظار عبور الحدود، بتنا أنا وبرنادت ومونا والأب جيرار فى دار الإخاء حيث يعيش الأب جيرار مع جيرانه المسلمين فى حب.. ونصحنا الأب تورنای بأن نعبر الحدود غدًا مبكرين حتى ندرك أديرتنا قبل أن يحدث شىء.
الاثنين 5 يونيو
فتحنا أعيننا فى الخامسة صباحًا.. لم يحدث شىء أثناء الليل، أعددت حقيبتى، بينما قبلتنى مونا ورحلت إلى بيت لحم، وصحبتنى برنادت إلى الأب بول الذى سيعبر الحدود أيضًا.
انتظرت أنا وبرنادت فى «سانت اتين»، عودة الأب بول بالتصاريح لكن فجأة لفت نظرنا اضطراب، الراديوهات تذيع الشعارات فى الشوارع، شبان يصفقون حول سيارة. لم تكن نعرف لماذا حتى أتى الأب بول وأخبرنا أن تصاريحنا ألغيت.
فجأة صاح فينا أحدهم.. لقد بدأوا الهجوم منذ ساعة، إنها الحرب، واستطاعت برنادت أن تعثر على مقعد للوصول إلى بيت لحم. واطمأننت على أنها ومونا لن تفترقا، أما نحن فكان ينبغى أن نسرع إلى عمان لنحاول اللحاق بطائرة إلى قبرص ومنها إلى إسرائيل، ركبنا تاكسيًا كان فى طريقه إلى هناك ووصلنا إلى عمان لنعلم أن المطار قد أغلق.
يجب الرحيل على وجه السرعة إلى القدس بأى ثمن، الجميع يقولون أننا مجانين.
ازداد قلقى أكثر فأكثر، أريد العودة إلى القدس لأكون مع الأب بول جیرار، لأن مكاننا هناك. هناك حيث عشنا. أخيرًا عثرنا على من يأخذنا.
مررنا بأريحا ثانية والحرارة خانقة، وظلال المدرعات تخيم على جانبى الطريق، ووصلنا إحدى القرى، كانت السيارات مدفونة تحت الأنقاض. وعندما رأى السائق بقايا القرية رفض أن يتقدم خطوة. بدأ كل شىء يتفجر من كل جانب، تضرعنا له، شجعناه، وأخيرًا سار بنا إلى دير «ليتوستروتوس».
أتى الليل مرة أخرى بطيئًا جدًا - صعدنا إلى الشرفة، الجو رمادى من دخان القذائف. فى ضوضاء الجحيم هذه. خضبت الشمس الحمراء مآذن مسجد عمر وعصافير الجنة تطوف كعادتها بين القباب والمآذن.
كانت المعركة دائرة على سفح جبل الزيتون. على الجانب الآخر طارت فوقنا طائرتان إسرائیليتان متجنبة أضواء الأنوار الكاشفة المتعانقة ثم نزلت رأسيا على بيت لحم وهى تلقى قنابلها. ارتعدت من أجل مونا وبرنادت وعدوت على السلالم من أجل الجرحى.
ستكون الليلة قاسية. اليهود يتقدمون، علمنا من الراديو أنهم يحاصرون القدس، إنهم فى طولكرم ورام الله. بقيت فى حجرتى باستثناء ساعتين من 9 إلى 11 أشرفت فيها على الجرحى. فى هذه المرة لم أنم أبدًا. القصف يدوى كل دقيقة، لكننى لست خائفة.
الصواريخ والدير
الخميس 8 يونيو
جرح فى الطريق مدنى عجوز أشيب الشعر. أرقدناه قرب المدخل وجلست على مقعد صغير بجواره، أعطانى قطعة الحلوى التى أعطيتها له منذ دقائق وهو يقول: هذه لك، ثم نام!
بدأت الطائرات تحوم فوقنا عن قرب وفجأة حدث انفجار مدوٍ قريب. اختلط الأسود بالأحمر فى الجو. قذفنى الانفجار فى الهواء ثم سقطت على الأرض. اهتز الدير كما لو كان سينهار، سقطت قنبلة وقذف الدير بصواريخ. لحسن الحظ وقعت القنبلة فى خزان المياه - أصبح الماء فى كل مكان إلا فى المواسير.
اقتحم اليهود أبواب المدينة، ودارت المعركة فى الشوارع. نزلت لأساعد أختًا تحاول وضع صليب أحمر على علم أبيض، لكن فى نفس اللحظة فتح الباب الذى على الشارع ودخل رجل واهى الجسد يحمل فتاة صغيرة مفتوحة الركبة تمامًا، العظمة البيضاء الدامية خارجة قرابة عشرة سنتيمترات.
عشرات من الناس الذين سقطت منازلهم يفرون صارخين فى الشارع، الأطفال يتبعون على قدر ما يستطيعون لجأ إلينا حوالى مائة، فجلسنا بجوار الباب وانتظرنا أن يمر الإسرائيليون الذين يقاتلون فى الشارع. كان الطبيبان شاحبين من الخوف، ووقفا وراءنا. لأنهما يعرفان أننا نتكلم العبرية.
الرشاشات تدوى بعنف أكبر، قريبًا جدًا منا وراء الباب. هل سيطلقون علينا النار؟ وأخيرًا سمعنا أول كلمة بالعبرية، كلمة السر التى تقول «جیفریت كدیما» أی «تفضلى یا سیدتی».. قلبى يتمزق لست أدرى لماذا.. نظرت من ثقب الباب رأيت جنديين يهوديين بخوذات.. رشاش فى اليد، يتطلعان بحذر يمينًا ويسارًا فتألمت جدًا !
أخيرًا قال الأب بول: «لقد مروا» ففتحنا الباب حتى يستطيع الدخول من هو فى حاجة إلى نجدة، قال الأب المسكين الذى أتى بالصغيرة الجريحة أنه يريد الخروج، لأن زوجته وأولاده الخمسة مازالوا بين الأنقاض وجلست إلى جوار الباب المفتوح، وكنت الوحيدة التى تعرف العبرية وفجأة، فجأة أتت سيارة جيب فيها أربعة جنود إسرائيليين تريد اقتحام الباب، فوقفت فى وجههم وصرخت بالعبرية: هنا مستشفى ودير، هل تفهمون؟! فابتسم أحدهم ابتسامة فاجرة وقال: أین تعلمت العبرية ؟
قلت: «قرب بحيرة طبرية.. فرفع حاجبه بوقار وذهب مع أصحابه».
عاد الأب بول ومعه على المحفة 3 أطفال على شفا الموت. لقد وجدوا فى الحى الإسلامى المسكين. حيث كان يسكن مع جيرار وقد دكته الطائرات الإسرائيلية. إنه لم يستطع مع الأب الذى قاده إلا أن يرى جثمان الأم القتيلة، وخمسة أطفال صغار مزقتهم وسحقتهم قنبلة إسرائيلية. أما الأطفال الثلاثة الذين أتوا معهم فكانوا لعائلة أخرى.. كانوا لا يزالون على قيد الحياة، سرعان ما ماتوا فى المستشفى المجاور. كان المستشفى فى هلع من اليهود الذين وصلوا. أما أنا فكنت فى هلع من ثلاث سيارات مشتعلة على أن أمر بها وأنا عائدة إلى الدير. ومن جثة شرطى أردنى مبقور البطن ملقاة قرب الدير، كنت أراه فى كل مرة وأنا أحمل الجرحى إلى المستشفى كما لو كنت فى كابوس.
كم من الأطفال حملوهم إلينا. كنت لا أكاد أحملهم بين ذراعى حتى يفارقوا الحياة وهم يتطلعون إلى فى براءة. أحدهم بالذات. طفل أشقر، جميل جدًا، لكن العينين زجاجية بلا حياة. وخرم صغير فى البطن. ضربه مجرم برصاصة، قبلته ووضعته على كنبة. بعد ثلاث دقائق مات أخوه الذى فى الثالثة، رائحة فظيعة تأتى لست أدرى من أین. فتحت بابا أمامى ثم تراجعت مذعورة رأيت جبلا من الجثث، أغلقت الباب ووقفت جامدة حتى رأيت ضابطًا إسرائيليًا مقبلا فصرخت:.. «انظر إلى عملك الرائع»! فقال بغلظة: «لقد أرادوا الحرب»، فقلت باكية.. «والأطفال أيضًا»، لكن صیحتى ضاعت بين وقع أقدامه اللامبالية.
قصفت الطائرات الإسرائيلية أفقر الأحياء الإسلامية قرب باب زارة، لقد اهتموا بالأماكن المقدسة أكثر من اهتمامهم بأطفال باب حوتة لكنهم وهم يركزون نيرانهم على الحى ضربوا بشدة كنيسة «سانت آن» امرأة ولدت فى المستشفى بالأمس رجتنى أن آخذها إلى منزلها. أخفت الطفل بينما مسكت الأم بطنها بيدها وسارت بجواری وهى تدعو لى.
سرت معها.. لاحظت أن «دير ليتوستروتوس» كان الموقف الثانى، وأن أمام المستشفى كان الموقف الرابع.. وأنه على مقربة كان الموقف الذى ساعد فيه سيمون المسيح على حمل الصليب. إنه أصدق طريق عذاب عبرته فى حياتى، المسيح يحمل صليبه وأنا أحمل طفلا يحمل عذاب البشر. أوصلت المرأة إلى دارها. أو بقايا دارها. وبينما أنا عائدة رأيت طفلا يعدو، أقدامه عارية مغطاة بالطين والدم، جريت وراءه وصحت من أین تأتى؟
- من أين تأتى؟ أين أمى؟
ثم أخذ يكرر جاحظ العينين أين أمی.. أين أمی؟ لقد جن، فحملته إلى الدير. وعندما اقترب من الباب رأى اليد النحاسية التى يقرعها القادمون فأخذ يصيح: «يد أمى.. يد أمى»، يبدو أن يدها قطعت أمامه قبل أن تموت.
أم وخمسة أطفال
خرجت مع الأب وجيرار إلى الطريق فوجدنا عربة صغيرة بثلاث عجلات وعليها شىء مغطى رفعنا الغطاء فوجدنا امرأة ميتة فى بياض الثلج. فدفعنا العربة إلى المستشفى. وتعجبنا كانت ثقيلة جدًا فعندما وصلنا رفعنا جزءًا من العربة لأعلى لنحمل المرأة عليه إلى داخل المستشفى. وعندما تم هذا رجعت إلى العربة التى كنت أظنها فارغة، لكننى لم أكد أقترب منها حتى صرخت صرخة جمعت كل من كانوا قريبين منى. كان فى جوف العربة خمسة أطفال بينهم رضيع ابن خمسة عشر يومًا مكومين، كلهم بيض كما لو كانوا أطفالا من الصين، لكن ملابسهم غريقة فى الدم. كان شيئًا فظيعًا. أخرجتهم واحدًا إثر الآخر ووضعناهم على اللوح مع أمهم وغطيناهم، كانوا عائلة الرجل الذين تركناهم وسط الأنقاض لإنقاذ الأطفال الثلاثة الجرحى. لقد حملهم الرجل على العربة ليواريهم التراب، لكن اليهود قبضوا عليه وتركوا العربة فى الطريق.. تركوا الجثث، بعد أن حرموها حتى من الدفن المقدس.
عدنا جميعًا إلى الدير لأن الليل أرخى سدوله - الشرطى الأردنى مازال هناك. السيارات احترقت تمامًا وخبت نيرانها، أحيانًا يكون البكاء نعمة. كان الليل هادئًا، بضع طلقات متفرقة تعكر مكنونه، فأسندت رأسى إلى الحائط، نظرت إلى لاجئى الدير الثلاثمائة حتى ناموا فى عينى وسط الدموع.
الجمعة 9 يونيو
لا ماء ولا طعام. ولا نستطيع الخروج لأننا لا نملك تصاريح. بدأ الأطفال يبكون والأمهات تشكو.
عندئذ وصل ضابط إسرائيلى سأل عن الحالة فى الدير. ولما عرضناها عليه. هز رأسه ثم ذهب.
الرائحة فظيعة جدًا فى هذا الحر حتى وضعنا أقنعة على أنوفنا، بدأت الجثث تتعفن تمامًا ومع ذلك رفض الإسرائيليون إرسال أى عربة أو أى شىء لدفن الجثث. لكن فجأة وصل «اجبيلانس» عسكری إسرائیلی وطلبوا ميتًا.. كان إنجليزيًا ثريًا دفعت أسرته ثمن نقل جثته.
لكن الموتى الآخرين من يدفع لهم.. رجونا، استرحمنا، لكن كان جهدًا ضائعًا، وفجأة سمعت أن السلطات الإسرائيلية العليا وصلت، فحملت الأم والجثث الخمس على العربة التى كانوا فيها ودفعتها حتى اقتربت من الركب.
رأيت ديان، ورابين، وعلى رأسهما ليفى أشكول، وعندما اقتربوا منى تمامًا رفعت الغطاء فجأة فصرخت بعض نساء اليهود، وإذا بجندى يندفع نحوى ويقول: «غطى هذا.. غطى هذا»، وفوهة مدفعه الرشاش فى صدرى.. فصرخت: «لن ينسى العالم جريمتكم» وغطيت الجثث.. احتراما للموتى لا لهذا الوجه ولا هذه اللهجة التى تعيد للذاكرة فظائع النازى فى حرب 1940.
الهجرة تحت التهديد
وبينما كنت أسير رأيت فتيات إسرائيليات، المسدسات فى أيديهن، ينفجرن ضاحكات، وقد أسكرهن خمر الانتصار.
أخيرًا استطعنا الحصول على تصريحات تجول، كان أول شىء فكرنا فيه هو أن نذهب إلى بيت لحم للاطمئنان على مونا وبرنادت لكن كيف؟ جاء إلينا فتى مغرور، ابن شخصية إسرائيلية معروفة ولما سمع بمشكلتنا عرض علينا أن ينقلنا فى سيارته، ما أن صعدنا إلى السيارة أنا والأب بول حتى لاحظنا أنها أردنية مسروقة، وفى الطريق وقفنا أمام دكان عربى كان اليهود ينهبونه وعلى جانب الطريق امرأة عربية قتيلة فى حفرة.
قابلنا مونا وكانت جريحة، أما برنادت فكانت مسالمة أما أهالى بيت لحم فلم يكن لهم وجود. لقد وجه إليهم اليهود تعليمات فى مكبرات الصوت بمغادرة المدينة إلى أريحا وعمان وإلا دمرت منازلهم فوق رؤوسهم عندئذ قررنا أن نرفع تقريرًا للسلطات الإسرائيلية عسانا ننقذ ما يمكن إنقاذه من أجل المستقبل. لأن عملية إجلاء العرب هذه خطيرة.
نهب وبؤس ونابالم
الاثنين 12، الثلاثاء 13، الأربعاء 15
ذهبنا إلى الناصية المقابلة مع بعض الأخوة ولاحظنا فى الطريق، فى كل مكان آثار جرحى النابالم مئات من العائلات تحت أشجار الزيتون ينامون فى العراء قالوا لنا إنهم من قلقيلية. وممنوعون من العودة إلى بلدهم ذات الـ 20 ألف مسكن، رحلنا إلى قلقيلية لنرى ماذا يحدث هناك فقد نسفوا البلد بالديناميت، وأتى إسرائيليون للنهب اثنان منهم كانا يسيران فى الطريق وعلى الرأس غطاء رجل الدين وحقيبة فى اليد.
رأيناهم قادمين، تقدموا نحونا وقد وضع أحدهم إصبعه على زناد مدفعه الرشاش، دون أن ألحظ هذه الحركة قلت له بالعبرية وأنا أشير إلى الحقيبة هذه ثقيلة جدا، واجهنا بعضنا بعضًا لحظة. ثم انحرف عنى وذهب.. التقطنا امرأة جريحة من جنين ونقلناها إلى مستشفى الناصرة.
الخميس 15 يونيو.
زرت مرة ثانية مستشفى جنين وكانت خالية تمامًا من المضادات الحيوية ومضادات الغرغرينة. وكان هذا حال معظم مستشفيات الأردن. والصليب الأحمر الدولى لم يسمح له بالمرة بالعمل فى هذه المنطقة المحتلة.
ذهبنا إلى نابلس. ووقفنا للصلاة فى بئر يعقوب الوقت ظهرًا وكنا مكشوفين تمامًا. كانت شوارع المدينة خالية بسبب منع التجول. رجعنا إلى القدس فوجدنا فى بيت الإخاء نافذة جديدة فتحة أحدثتها قذيفة فى جدار المطبخ وشظايا مورتر على الأسرة والمائدة. فى هذه الأثناء شاهدنا عملية طرد الأسر. كتبنا تقريرًا بكل ما شاهدناه ونطقنا به وتأكدنا من أننا لن يكون فى مقدورنا البقاء فى هذه البلاد على الأقل فى الظروف الحالية.
الأربعاء 21 والخميس 22 يونيه
أتانا راعی بروتستانتی زائف ليدلى لنا بموعظة طويلة، صوفية سياسية ليقول لنا إن المسيح سيبعث من جديد لأن اليهود، حسب النبوءة، قد أقاموا من جديد مملكة إسرائيل وأننا سنحاسب جميعًا على سلوكنا إزاء إسرائیل.
أنا لا أفهم شيئًا مما يقول: لكن يبدو لى أن هذا التخريف من التعليق المغلف بهرطقة هو أخطر ما يمكن أن يهدد السلام فى العالم. إن آخر أنبياء اليهود وأكبرهم، قد قال عكس ذلك تمامًا «إنه ليس فى أورتشليم ولا على جبل باريزيم تكون محبة أريد لكم المحبة فى الروح والحقيقة، طوبى للودعاء لأنهم يملكون الأرض.. وأنها ليست أرض إسرائيل الصغيرة، لكن كل الأرض والمسيح علمنا أننا سنحاسب على سلوكنا نحو كل المعذبين، من كل الشعوب، من كل الأجناس، ومن كل الأمم وأن الشعب اليهودى، الذى يحاول بجهد كبير أن يدعى أنه يسعى لخلاص نفسه، يجدر به أن يسعى لخلاص نفسه مع الآخرين.. مع شعب فيتنام الصغير مثلا، وليس وحده كما يبدو أنه يريد أن يعمل.
الجمعة 30 يونيو
الأحوال تتحسن. بدأنا نحس شيئًا فشيئًا بطعم العمل، الطعام. والحياة. قررنا التجول فى المنطقة المحتلة مع عزت جارنا العربى فى الناصرة، فعنده تاكسی وسيتجول بنا، اعتزمنا أن نعود إلى قلقيلية ونابلس وبيت لحم وعبدون وأن نذهب أيضًا إلى طولكارم التى لم نرها حتى الآن.
السبت 1 يوليو
سرنا على الطريق وسط حقول القمح بدأت النساء يعملن مع بعض الشباب. فى الحقول. لكن كل شىء يعملونه بأيديهم، الأطفال يحملون الحشائش على رءوسهم، والكل يعمل فى حزن، عادت الحياة إلى نابلس ببطء. لكن بلا عمل، الصليب الأحمر لم يصل للأن، واحتياطى المواد الغذائية يتلاشى نقل الحاصلات ممنوع، والفلاحون منتظرون لبيع منتجاتهم بأبخس الأثمان، كثير من العائلات التى لها أولاد يعملون فى الكويت اضطرت إلى الرحيل إلى عمان تحت ضغط اليهود، وفى نفس الوقت جعلوهم يوقعون أوراقًا تثبت أنهم رحلوا. لكن بعد الاستفزازات وعمليات الطرد التى شاهدناها بدأ لنا هذا كنوع من الدبلوماسية الزائفة والاحتيال والتضليل.
عذاب أطفال الأرض
الأحد 2 يوليو
استيقظنا مصممين على الصراع من أجل بلوغ طولكارم.. الشمس تضىء ساحة المعبد المواجه لحائط المبكى.. لكن لم يعد حجر فى القدس يثير اهتمامى منذ أن رأيت الأطفال يموتون تحت القنابل ولا ضريح «القديس سبيلكر»، ولا حائط المبكى، ولا كل المساجد فقط عذابات أطفال الأرض سواء كانوا يهودًا أو مسلمين أو مسيحيين بوذيين أو شيوعيين، سودًا أو بيضًا صفرًا أو نحاسيين.. كل هؤلاء الذين معهم ومن أجلهم مات المسيح.
لماذا لانستطيع الوصول إلى طولكارم.. لقد حصلنا على الإذن بالتجول من وزارة الخارجية.. ومكتوب فيه، لكن الطرق وكل النواحى، هل كان يجب أن ينصوا فيه على طولكارم ذهبنا من جديد إلى وزارة الخارجية وجددوا الإذن لنا.. وعدنا للقومندات لكنه أصر معتذرًا بوجود تحركات على الطريق وأن المسير عليه خطر. عندما خرجنا جربنا المسير على الطريق بالتصريح الذى معنا.. لعله ينفع مع الجنود، لعلهم غير من كانوا بالأمس، وفعلاً وبمساعدة الرب مررنا.. وما أن اقتربنا من طولكرم حتى شاهدنا ما أراد أن يخفيه اليهود ثلاث قری دمرت تمامًا بالديناميت وسويت بالبولدوزر.
الاثنين 3 يوليو
الآن لم تعد لى رغبة فى الحركة.. أريد أن أصلى، أن أفكر، وأن أكتب.
يصعد ثلاثة من أساتذة البحوث العلمية التل وطوقوا بنا.. يهودى ومسيحى، الاثنان مؤمنان، والثالث ماركسی.. لقد وصلوا من باريس ويجرون منذ بضعة أيام تحقيقًا فى إسرائيل لحساب اليونسكو.. إنهم يضعون أسئلة ويفكرون فى الإجابة لأنه -كما يقولون- هذه المشكلة كانت صعبة علينا، لم يكن فى مقدورنا أن نرى بوضوح ونحن فى أوروبا... ونحن نعتقد أنه يجب علينا أن نبذل جهدًا لمعرفة الحقيقة فى الصراع الإسرائيلى العربى.
رويت ما شاهدناه فى الأيام الماضية والذى يوضح فى جلاء أبرز الأسباب العميقة للصراع حتى نتوصل لحلول حقيقية حتى يمكن أن يصبح السلام ممكنًا فى النهاية.. سلام منبثق من العدل قلت سبق أن أوضحت الكثير. الاستعمار العالمى الذى ضحيته العرب.. خطر ادعاء شعب بأحقيته فى أرض بناء على وعد إلهى. شىء لا يحتمل!!
لكن أين هم الرجال أصحاب الأفئدة القوية الحرة الذين يحتملون الحقيقة ويتصدون للدفاع عنها؟ ترجم المذكرات
فاروق القاضي