الثلاثاء 5 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

يكتب عام 1996: سرى جدًا.. وهام: السينما المصرية والأمن القومى

فى حوارى الذى أدرته مع الفنان عادل إمام منذ أسبوعين وتطرقت فيه إلى طبيعة الصراع المصرى - الإسرائيلى فى المستقبل واعتقادى بأنه سيكون صراع إرادة وبقاء بين قوتين إقليميتين لابد لإحداهما أن تخضع الأخرى لتستطيع الانفراد بمجالها الحيوى.



ذكرت أن إسرائيل وإن تميزت بالتقدم التكنولوجى والعملى بالإضافة إلى تفوقها النوعى والكمى فى الكوادر والأطر البشرية إلا أن هذا لا يجعلها مطلقة اليد، قادرة على السيطرة بلا منافس.. فمصر -القوة الأخرى الموازية- تتميز بالعمق البشرى الاستراتيجى الذى يحوى فضلًا عن التفوق الكمى ثراءً ملحوظًا فى تنوع الخبرات الفنيةوتراكم الأجيال المتعلمة.

ومراكز التخطيط والتفكير الاستراتيجى فى إسرائيل -وهى مراكز نشطة للغاية - تدرك أنهم هناك سيرتكبون خطأهم التراجيدى القاتل إذا تصوروا أن تقدمهم العلمى والتكنولوجى (وهو تقدم لا فضل لهم فيه باعتبارهم.. الأشكناز بالذات، نتاج مجتمعات غربية أوروبية وأمريكية مكتملة النمو حضاريًا.. أى أن هذا التقدم ليس ثمرة لجهدهم فى هذا المكان بالذات، ولكنه جاء معهم فى هجرتهم كسائر المتاع) أقول إن هذا التصور سيكون خطأ قاتلًا لأنهم يعلمون أن لدى القوة الأخرى - مصر - ما يكافئ هذا التفوق ويوازنه، بل ويمكن أن يكون هو العامل الحاسم فى إنهاء الصراع لصالح المصريين.. وهنا يفرض السؤال نفسه: أين هو ما يكافئ التفوق الإسرائيلى ويوازنه ويقضى عليه؟

وكيف يحدث هذا ومصر الآن تعانى من أزمة مركبة خانقة تكبل كل إمكاناتها وقدراتها؟

ولن يكلفنا الجواب أكثر من الرجوع إلى الحقائق الجوهرية التى تحكم حركة التفاعل السياسى فى منطقتنا.. وأولى تلك الحقائق هى طبيعة الكيان الإسرائيلى وعلاقته بالمجال الحيوى المتنازع عليه..

ومن تحصيل الحاصل أن نشير إلى طبيعة «الدولة الإسرائيلية» فالثابت يقينا أنها أشبه بالجيتو.. أو حارة اليهود وسط أحياء مخالفة ومختلفة.. وتحقيق السلام مع الشعوب المحيطة والوصول إلى ما يسمى بعلاقات التطبيع هو الأمل الوحيد لكى يكسر الإسرائيليون طوق العزلة ويتخطون جدران الجيتو.. والأمر هنا ليس حصارًا عسكريًا أو شبه عسكرى تشكله القوى المجاورة ولكنه تباعد كامل فى الثقافة والتراث واللغة والعادات والتقاليد والفولكور والميثولوجيا وكل مفردات المكون الحضارى والاجتماعى.. وهنا تنافر حتمى فى موجات التفكير ونغمات الاتصال.

وبديهى أن السيطرة على المجال الحيوى تستلزم بالضرورة القدرة على التأثير وإتمام الحد الأدنى من التفاعل «الاجتماعي» بين شعب القوة الهادفة إلى السيطرة، وبين شعوب منطقة المجال الحيوى.. أى أن إسرائيل فى حاجة ماسة إلى أن تؤثر «إنسانيًا» وتتفاعل اجتماعيًا مع الشعوب العربية المحيطة.. ليس هذا فقط.. ولكن هذا التأثير وذلك التفاعل يجب أن يكون أقوى من تأثير وتفاعل شعب القوة المنافسة - المصريون - فى نفس هذه الشعوب العربية.. وهذا ما دونه خرط القتاد كما يقال..

فالمصريون هم المؤهلون طبيعيًا للتأثير والتفاعل.. والمؤهلات هي:

التاريخ الواحد واللغة الواحدة والثقافة الواحدة، بل والتطابق فى الظروف الاجتماعية.. ولكى يثبت المصريون هذه الحقيقة عليهم أن يستخدموا طاقاتهم المعتادة والموجودة لديهم فعلًا.. وعبر أكثر من سبعة عقود امتلك المصريون أسلحتهم الثقافية واستخدموها وحققت نجاحًا غير مسبوق.

ولنستعرض هذه الأسلحة بشيء من التفاصيل..

فالكتاب والمطبوعات الصحافية وأجهزة الإعلام من إذاعة وتليفزيون والفنون الدرامية المرئية كالمسرح والسينما.. وحتى الأغنية.. كلها أسلحة التأثير الثقافى المصرى فى أقاليم المجال الحيوى.. وهى أسلحة أمسكت بها مجموعة ضخمة من الكتاب والفنانين ورواد الثقافة، كانت مصر هى منبتهم ومصدر إنتاجهم الأول بحكم قاعدتها البشرية العريضة وريادتها الأدبية والثقافية لشعوب المنطقة.

مصر استطاعت أن تقود وأن تؤثر وأن تصبح المركز «الأم» لكل الأنشطة البشرية على الأرض العربية (الأرض التى تشكل المجال الحيوى والتى ستكون ساحة الصراع القادم) إذن فهى تملك الأوراق الرابحة.

وإسرائيل تقف أمامها مجردة.. شبه عاجزة.. ولعلنا نلفت الأنظار هنا لما حدث مباشرة بعد إتمام الزفاف الإسرائيلى.. الأردنى.. ففى يوم «الصباحية» انفجرت زغاريد تبشر بأولى علامات الحمل! مشروع فنى إعلامى مشترك بين تل أبيب وعمان وهوليوود بإقامة مدينة للفنون فى جنوب النقب على أحدث وسائل التكنولوجيا فى مجال السينما والتليفزيون.

الإخوة الأردنيون جاهزون طبعًا لأى مشروع مشترك يجعل لهم ثقلًا ومكانًا فى إطار المعادلات الجديدة.. والأصدقاء الأمريكان مستعدون دائمًا بالتمويل والخبرة وتجهيز التقنيات.. والإسرائيليون يعتبرون المشروع حصان طروادة لاختراق الساحة التى تفخر مصر بأنها صاحبتها.. وياحبذا لو استطاع المشروع أن يجتذب المصريين.. فجاء الكتاب.. وتبعهم المخرجون.. ثم توالت بعدهم قوافل الممثلين.. إلى حيث تسيل الدولارات كالأنهار وتزدهر سينما جديدة.. ودراما تليفزيونية جديدة.. ويفتح «الأورنس» فى إيلات والعقبة كما فتح من قبل فى أثينا ودبى وتونس..

ولكنه هذه المرة «أورنس» أمريكو - إسرا - عربى.. موجه يحقق لإسرائيل التغلغل الإعلامى والفنى داخل بيوت العرب لتسرق كل الأوراق الرابحة فى أيدى المصريين وتكسب بدلًا عنهم معركة التأثير والتفاعل مع الشعوب المجال الحيوى.. ألا يكفى هذا ليجعلنا نكف عن التثاؤب ونهب حماية أسلحتنا الوحيدة وأوراقنا الرابحة؟ ألا يجعلنا ننتبه لقيمة ما نملكه ويرجح كفتنا؟

ألا يجعلنا ندرك مدى الخطأ - الجريمة - الذى نرتكبه حين نترك  السينما المصرية تحتضر بهذا الشكل المأساوى وكأنها كائن مصاب بالجرب ينفر منه الجميع.

ألا ندرك الآن أن السينما ليست مجرد أداة للتسلية.. لا.. ولا هى أداة تثقيف، بل هى أكبر حتى من صناعة وطنية يمكن إذا حظيت بعين الرعاية أن تكون من أكبر مصادر الدخل الاقتصادى.. إن السينما فى ضوء ما تعرضه الآن ليست أقل من أن تكون سلاحاً من أسلحة الأمن القومى.

أجل.. يجب أن نغير «الكادر» الذى وضعنا فيه السينما المصرية وأن ننقلها من خانة «المشكلة الفنية أو الثقافية» إلى خانة «أمن قومى - سرى جدًا وهام»!! وليس عيبًا ولا عارًا يا أيها السادة أن نقلد الإسرائيليين فيما يفعلون من أجل أمنهم القومى.

لم تكن ترجمة الأعمال الأدبية المصرية للعبرية ولا محاولات التطبيع الثقافى والفنى.. ولا جهود المركز الأكاديمى الإسرائيلى فى القاهرة إلا هجومًَا من أجل الانتصار فى المعركة القادمة بين القوتين المتنازعتين على التأثير والسيطرة.

إن ما أعنيه بالتأثير ليس إلا النفاذ إلى أعماق الخصم عن طريق الالتفاف حوله.. وأنا لا أستبعد مطلقًا أن تكون القوى التى حاولت سحب البساط من تحت أقدام السينمائيين فى مصر على علاقة ما بمراكز التخطيط الإسرائيلية.. لأن إسرائيل هى المستفيد الأول من انهيار صناعة السينما فى مصر. ولا أستبعد مطلقا أن تتكرر المحاولات بالنسبة لدراما التليفزيون.. ودراما المسرح.. ثم الأغنية.. وعلينا منذ الآن أن نعيد النظر فى موقف الدولة من مشكلات الفن المصرى.. وعلى الدولة أن تدرك جيدًا خطر هذه المشكلات.. وهى تعيد تقييم أولوياتها.. عليها أن تؤمن بأن قضية السينما هى قضية «أمن قومي» فعلًا.. كذلك كل القضايا المتعلقة بالفنون والأدب.. لأن الناتج الثقافى المصرى هو التيار الذى سيحمل وجودنا المؤثر إلى شعوب المنطقة.

فما ينتجه العقل المصرى.. وما يبدعه الفن المصرى.. هى أوراقنا الرابحة فى معركة قادمة لا ريب فيها.. معركة إرادة.. لا بديل عن الانتصار فيها.. لأن محصلتها النهائية هى أن نكون أو لا نكون.

أن نؤثر ونتفاعل مع مجالنا الحيوى الممتد من الخليج إلى المحيط.. فنكون أو نخلى الساحة للقوة الأخرى لتملأ الفراغ وتهيمن.. فلا نكون.. تلك هى المسألة باختصار.. وعلينا أن نختار.