الثلاثاء 17 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

محكمــة العـدل الدولية رأيها استشـارى رغم أهميتـه واعتراف الأمم المتحدة به فإنه سيظل حبرا على ورق

75 عاما على اتفاقيات چنيڤ وغياب المساءلة والإرادة السياسية

من بين ألسنة النيران الإسرائيلية المتصاعدة بمدرسة التابعين وخيام النازحين برفح جنوب قطاع غزة وهى تحصد أرواح الفلسطينيين تتصاعد الأسئلة حول مستقبل القانون الدولى الإنسانى وإرادة المجتمع الدولى وقدرته على إنفاذ المساءلة؛ فالعالم كما يبدو عاجز عن إلزام دولة الاحتلال بوقف الأعمال العدائية أو فى الحد الأدنى الالتزام بالمبادئ القانونية الملزمة فى أوقات النزاعات المسلحة، وهى مبدأ التمييز بين المدنيين والعسكريين ومبدأ التناسب ومبدأ الضرورة العسكرية التى تقتضى اتخاذ جميع التدابير والاحتياطات اللازمة لتجنب إهدار حق المدنيين فى الحياة.



ففى هذه الأيام يحيى العالم الذكرى الـ75 لاتفاقيات چنيڤ الأربعة التى شكلت حجر الأساس للقانون الدولى الإنسانى بتقنينها القواعد التى تحد من همجية النزاعات المسلحة، وتلزم أطرافها باحترامها وتطبيقها فى كل مكان وزمان. 75 عاما بالتمام والكمال مرت على اعتماد اتفاقيات چنيڤ الأربعة فى مثل هذه الأيام من شهر أغسطس 1949، ودخلت حيز التنفيذ فى أكتوبر 1950، وصدقت عليها حتى الآن 194 دولة، فهى أكثر الاتفاقيات الدولية مصادقة مما يجعل تطبيقها واجبا حول العالم.

هذه الاتفاقيات الأربعة تعتبر أحد أهم مصادر القانون الدولى الإنسانى الذى ليس من غاياته تحديد مشروعية الحرب من عدمها، بل يسعى إلى تقنين الحماية للأشخاص المدنيين الذين لا يشاركون فى الأعمال العدائية أو الذين كفوا عن المشاركة فى الأعمال العدائية طوعا أو بسبب تعرضهم للأسر أو الاحتجاز أو تعرضهم للإصابة أو المرض. كما يحمى هذا القانون الأعيان المدنية والممتلكات الثقافية، ويقيد أساليب ووسائل القتال وذلك شأن قانون لاهاى المقابل لقانون چنيڤ. وقواعد القانون الدولى الإنسانى ملزمة لجميع الأطراف المشتركة فى النزاع المسلح، بغض النظر عن طبيعة الصراع المسلح ومشروعيته، وبغض النظر عن شرعية أطرافه.

وقانون چنيڤ هو مجموعة الاتفاقيات الأربعة والبروتوكولات الإضافية الملحقة بها والتى تنبع فى جوهرها من القيم الإنسانية والدينية والممارسة العرفية الطويلة التى عرفتها البشرية منذ الأزل، وقد حظيت هذه الاتفاقيات بالرعاية والاهتمام والتقنين منذ منتصف القرن الـ19، وهو بالحساب أمد قريب. وقد سبقته شريعة الإسلام التى بينت قواعد الحروب جميع، وألزمت الجيوش باحترامها وعدم مخالفتها وانتهاكها الذى يستوجب العقوبة فى الدنيا والآخرة، لكنها لم تجد من يحولها إلى معاهدات دولية مماثلة وسامية. فاتفاقية چنيڤ الأولى تتعلق بتحسين حالة الجرحى والمرضى من القوات المسلحة فى الميدان (الحروب البرية)، واتفاقية چنيڤ الثانية تتعلق بتحسين حال جرحى ومرضى القوات المسلحة فى البحار. ثم اتفاقية چنيڤ الثالثة التى تتعلق بحماية الأسرى، أما اتفاقية چنيڤ الرابعة فتتعلق بحماية الأشخاص المدنيين. ويعتبر رجل الأعمال السويسرى هنرى دونان رائد فكرة أنسنة الحرب فى منتصف القرن الـ19 من خلال كتابة «تذكار سولڤرينو»، الذى أعده ونشره فى بلده سويسرا فى 1862، وصور فيه للناس تلك المشاهد المروعة لضحايا معركة سولڤرينو التى وقعت بشمال إيطاليا فى يونيو 1859، والتى انتصر فيها الجيش الفرنسى بقيادة نابليون على الجيش النمساوى بقيادة الإمبراطور فرانز جوزيف، وشارك فى معركة دامية انتشرت فيها جثث مئات القتلى وشقت الآفاق منها أنات وصرخات آلام آلاف الجرحى والمرضى الذين كانوا فى حاجة لمن يضمد جراحهم ويداويهم ويحترم كرامة جثث قتلاهم.

وقد ضمن دونان فى كتابه فكرتين هما ضرورة وضع معاهدة تلزم الجيوش بتوفير الرعاية لجميع الجنود، وإنشاء جمعية وطنية تقدم المساعدة للخدمات الطبية العسكرية. وقد انبثق عنهما لاحقا فكرتا اللجنة الدولية للصليب الأحمر، واتفاقيات چنيڤ الأربعة. ففى فبراير 1863 انعقد أول مؤتمر دولى حول فكرة الجمعيات الوطنية إلى واقع، واتفق المشاركون فيه على شارة مميزة لحماية أفراد الوحدات أو الخدمات الطبية للقوات المسلحة والعاملين فى مجال الإغاثة والتعرف عليهم، وقد اختير مقلوب العلم السويسرى (صليب أحمر على خلفية بيضاء) كأول شارة تبعته بعد ذلك شارة الهلال الأحمر الذى اعتمدته الإمبراطورية العثمانية فى سبعينيات القرن الماضى ثم شارة البلورة الحمراء التى تم اعتمادها فى 2005 لتستخدمها الدول التى لا ترغب فى شعارات ذات مدلول أو تصورات دينية.

 كيف تمنع اتفاقيات چنيف الأربع الانتهاكات الجسيمة؟

- شكلت اتفاقيات چنيڤ الأربعة الأساس لحماية الحقوق الأساسية لضحايا النزاعات المسلحة من المخالفات الجسيمة، والتى تضمنتهما المادة (50) من اتفاقية چنيڤ الأولى والمادة (51) من اتفاقية چنيڤ الثانية، بأنها أحد الأفعال التالية التى إذا اقترفت ضد أشخاص محميين أو ممتلكات محمية بالاتفاقية: «القتل العمد، والتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية، بما فى ذلك التجارب الخاصة بعلم الحياة، وتعمد آلام شديدة أو الإضرار الخطير بالسلامة البدنية أو بالصحة، وتدمير الممتلكات أو الاستيلاء عليها على نطاق واسع لا تبرره الضرورات الحربية، وبطريقة غير مشروعة وتعسفية». وأضافت المادة (130) أفعالا أخرى للمخالفات الجسيمة المذكورة أعلاه وهى «إرغام أسير الحرب على الخدمة فى القوات المسلحة بالدولة المعادية، أو حرمانه من حقه فى أن يحاكم بصورة قانونية وبدون تحيز وفقا للتعليمات الواردة فى هذه الاتفاقية». كما نصت المادة (49) على أن تفرض الدول الأطراف عقوبات جنائية على من يقترفون أو يأمرون باقتراف المخالفات الجسيمة الواردة فى الاتفاقية الأولى، وتقديمهم للمحاكمة أيا كانت جنسيتهم. وتعتبر الانتهاكات الجسيمة للاتفاقية والبروتوكول الإضافى الأول بمثابة جريمة حرب.

 

 

 

ونص البروتوكول الإضافى الأول الملحق باتفاقية چنيڤ الأربعة صراحة على مفهوم الانتهاكات الجسيمة فى المادة (85/1) منه، وعددها فى الفقرة الثانية بأنها الأعمال التى ترتكب ضد أشخاص هم فى قبضة الخصم وتشملهم حماية المواد (44) و(45) و(73) من البروتوكول نفسه، أو اقترفت ضد الجرحى أو المرضى أو المنكوبين فى البحار الذين ينتمون للخصم، أو أفراد الخدمات الطبية أو الهيئات الدينية، أو ضد الوحدات الطبية أو وسائل النقل الطبى التى يسيطر عليها الخصم. كما نصت الفقرة 3 من المادة (85) على أن اقتراف أى فعل من الأفعال أدناه عن عمد وسبب وفاة أو أذى بالجسد أو بالصحة يعتبر بمثابة انتهاكات جسيمة، ومنها: جعل السكان المدنيين أو الأفراد هدفا لهجوم عشوائى قد يصيب المدنيين أو الأملاك المدنية، رغم معرفة بأن هذا الهجوم يسبب خسائر بالغة فى الأرواح أو إصابات للأشخاص المدنيين أو أضرارا للأملاك المدنية كما جاء فى الفقرة 1/3 من المادة (57)؛ اتخاذ المواقع المجردة من وسائل الدفاع أو المناطق المنزوعة السلاح هدفا للهجوم وهو مايحدث فى خيام النازحين يوميا فى غزة؛ ولكن لماذا لا يتم تطبيق تلك الاتفاقيات وموادها فى فلسطين ضد إسرائيل؟ ولماذا هذا التخاذل الدولى من جميع المنظمات والمحاكم الدولية والصمت التام على ما تفعله إسرائيل ضد المدنيين العزل؟

كذلك نصت الفقرة الرابعة من المادة (85) من البروتوكول الأول نفسه على أن الأفعال التالية تشكل انتهاكا جسيما: قيام دولة الاحتلال بنقل بعض سكانها المدنيين إلى الأراضى التى تحتلها وهو ما يحدث فى غزة، أو ترحيل أو نقل كل أو بعض سكان الأراضى المحتلة داخل نطاق تلك الأراضى أو خارجها، مخالف للمادة (49) من اتفاقية چنيڤ لحماية الأشخاص المدنيين؛ ممارسة التفرقة العنصرية وغيرها من الأساليب المبنية على التمييز العنصرى والمنافية للإنسانية والمهنية، والتى من شأنها النيل من الكرامة الشخصية؛ وشن حملات على الآثار التاريخية وأماكن العبادة والأعمال الفنية التى يمكن التعرف عليها بوضوح. فما الذى يجعل الانتهاكات الجسيمة مستمرة، رغم أن كل دول العالم صدقت على اتفاقيات چنيڤ الأربعة والبروتوكولات الإضافية الملحقة بها؟

وقد أنشأت اتفاقيات چنيڤ الأربعة والبروتوكولات الملحقة بها آليات لضمان تنفيذ قواعد القانون الدولى الإنسانى وعلى رأسها الحركة الدولية للصليب الأحمر والهلال الأحمر وتتكون من: اللجنة الدولية للصليب الأحمر «آى سى آر سى» (ICRC)، ومقرها چنيڤ وهى المعنية بالاضطلاع بالمهام الإنسانية التى تخفف معاناة ضحايا النزاعات المسلحة والكوارث الطبيعية والإضرابات والتوترات الداخلية، وتسهم فى حماية حياتهم وكرامتهم وتزويدهم بالمساعدات الغذائية والمياه النظيفة والمأوى والرعاية الصحية، وتعزيز الروابط العائلية وزيارات السجون والبحث عن المفقودين؛ إلى جانب دور رئيسى تقوم به اللجنة وهو تعزيز وتطوير القانون الدولى الإنسانى ومساعدة الحكومات على إدماجها فى السياسات والممارسات. كما أن اللجنة الدولية لتقصى الحقائق التى نصت عليها المادة (90) من البروتوكول الإضافى الأول تختص بالتحقيق فى الوقائع المتعلقة فى ادعاء وقوع انتهاكات جسيمة لاتفاقيات چنيڤ والبروتوكولات الملحقة بها، وقد تشكلت هذه اللجنة فى عام 1990، لكنها لا تستطيع التحرك أو نشر استنتاجاتها التى تبقى قيد السرية إلا بعد موافقة جميع الأطراف المعنية على النشر.

أما الدولة الحامية وهى الدولة المحايدة التى تتكفل برعاية مصالح أطراف النزاع، وتبذل المساعى الحميدة من أجل تسوية الخلافات التى ترى فيها مصلحة الأشخاص المحميين، كما يمكنها تقديم اقتراحات بعقد اجتماعات ممثليها مع أطراف النزاع فى حالة عدم اتفاقهم على تطبيق أو تفسير أحكام اتفاقية چنيڤ الرابعة.كما تم تأسيس اللجان الوطنية للقانون الدولى الإنسانى فى أكثر من 100 دولة بمساعدة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بهدف العمل على تنفيذ قواعد القانون الدولى الإنسانى ونشر ثقافته على المستوى الوطنى وتقديم المشورة للحكومة.

 ماذا بعد 75 عاما على اعتماد اتفاقيات چنيف الأربعة؟

تعتبر حادثة قصف مدرسة التابعين مثالا صارخا على الانتهاك الجسيم لقواعد القانون الدولى الإنسانى الراسخة فى اتفاقيات چنيڤ الأربعة والبروتوكولات الملحقة بها؛ كما أن غياب المساءلة والإرادة السياسية يضع النظام الدولى أمام المحك، وذلك لأن تحقيق العدالة يرتبط ارتباطا وثيقا بعنصرين أساسيين، هما القدرة والرغبة. والقدرة هى أن تتوافر التشريعات والنصوص القانونية التى تجرم فعل الانتهاك الجسيم وتتحدد بوضوح العقوبات الرادعة للمتهمين بارتكاب الجرائم. أما الرغبة فتتمثل فى الإرادة السياسية الدولية التى ينبغى أن تنعقد لملاحقة مرتكبى الجرائم وضمان جلبهم أمام القضاء وتنفيذ الأحكام الصادرة بحقهم فى حال إدانتهم. ويشاهد العالم كيف أن محكمة العدل الدولية، الجهاز الأعلى فى الأمم المتحدة، قد بدأت النظر فى مدى انتهاك إسرائيل اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية، وتحدثت المحكمة بوضوح فى رأيها الاستشارى عن أن احتلال إسرائيل الأرض الفلسطينية المحتلة - قطاع غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية- غير مشروع مثل نظام الاستيطان المرتبط به وضم الأراضى واستغلال الموارد الطبيعية. وألزمت المحكمة إسرائيل بإنهاء احتلالها، وتفكيك مستوطناتها وتقديم التعويضات للضحايا الفلسطينيين وتسهيل عودة النازحين. وقد وصف خبراء أمميون ذلك بالإنجاز التاريخى بالنسبة للقانون الدولى وللفلسطينيين أصحاب المصلحة وضحايا الاحتلال وجرائمه. لكن هذا الرأى الاستشارى رغم أهميته واعتراف الأمم المتحدة به فإنه سيظل حبرا على ورق ما لم تتبن الدول الأطراف مواقف قانونية تدعم الامتثال الفورى لمقتضيات القرار. إذن، تطبيق القواعد الدولية الأمر يتطلب إرادة سياسية دولية، وقد وجهت رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر بمناسبة مرور 75 عاما على اعتماد اتفاقيات چنيڤ الأربعة نداء لجعل تلك الاتفاقيات أولوية سياسية.

ووفقا لما تقدم، فقد أثبتت الممارسة أن أبرز التحديات المعاصرة التى تعترض تطبيق قواعد القانون الدولى الإنسانى تتمثل فى ضرورة أن تلتزم أطراف النزاع المسلح التزاما تاما باتفاقيات چنيڤ والبروتوكولات الإضافية والتقيد التام بها، والحد من مخاطر استخدام منظومات الأسلحة الذاتية التشغيل، وضمان وصول المساعدات الإنسانية للضحايا وتجنيبهم التعرض لمخاطر التجويع ونهب وسلب ممتلكاتهم، وكذلك ازدراء العديد من أطراف الصراع لواجباتهم الناشئة بموجب مصادقتها على اتفاقيات چنيڤ الأربعة. وهذه التحديات تكررت الإشارة إليها فى المؤتمر العالمى للصليب الأحمر والهلال الأحمر الذى انعقد فى چنيڤ من 26 إلى 30 نوڤمبر 2007، بوصفها السبب الرئيسى وراء المعاناة أثناء النزاعات المسلحة. وهذه الانتهاكات للقانون الدولى الإنسانى لا تعود إلى الإخفاق فى تنفيذ القواعد القانونية القائمة، بل إلى عدم وجود إرادة سياسية. والسؤال يظل كما هو: ما الفائدة التى يجنيها ضحايا النزاعات المسلحة فى قطاع غزة وغيره من إحكام صيغة القواعد وملاءمتها إن لم تكن هناك إرادة سياسية موجودة وفاعلة لتطبيقها؟