الأربعاء 23 أكتوبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الدولة البستان والدولة الغفير!‏

الدولة البستان والدولة الغفير!‏

لى صديق أعرفه من كذا وثلاثين سنة، تخرج من كلية الإعلام، عمل صحفيا بضع ‏سنوات فى مجلة لها تاريخ مهنى مرموق، وفى الوقت نفسه نشر تحقيقات بارعة فى صحيفة ‏حزبية، حين كانت تلك الصحف ملء الأسماع والأبصار، ثم هجر إلى الخليج، تحت ظروف ‏عائلية ضاغطة، واستقر هناك أكثر من عشرين سنة، ثم عاد قبل عام، مدخراته لم تسمح له ‏بالشكوى، من موجات الغلاء التى تشبه أمواج بحر صاخب غاضب، اتصل بى داعيا إلى لقاء ‏مع مجموعة من الأصدقاء خارج مهنة الكتابة والصحافة، فى مكان اعتدنا أن نسهر فيه قبل ‏هجرته، وما كدنا نجلس وقبل أن نرتاح فى قعدتنا ونطلب مشروبا شعبيا ساخنا، سأل جادا: ‏هل هناك مخرج من أزمتنا الحالية؟



نظر إلى كأنه ينتطر منى إجابة، قلت ضاحكا: لا يا حبيبى.. قليل من الفرفشة يصلح العقل، ‏وأى كلام فى السياسة والاقتصاد يوجع القلب، ممكن أحكى لك بضع نكات سخيفة ولا تطلب ‏منى أكثر من ذلك!‏

أطلق شرارا من عينيه، وسألنى ساخرا: أنت خائف.. هل تعلمت الجبن فى غيابي؟

قلت: لا جبن ولا شجاعة..إراحة الدماغ واجب إنسانى، وأحس أن الكلام لم يعد مفيدا! ‏

سأله صديق أستاذ فى كلية الحقوق: هل تقصد بأزمتنا مشكلات حياتنا اليومية، سكن وكهرباء ‏وطعام وشارع وسوء أداء أم تقصد أصل «الموضوع»، أى الجذور التى تنتج لنا هذه ‏المشكلات؟

تساءل صديقى الصحفى: وما الفرق بين أصل الأزمة والمشكلات الناتجة عنها؟‏

لأكثر من ساعة دار الحوار بينهما كأنهما فى مناظرة أو مساجلة خاصة، ورحنا نتابعهما ‏دون تعليق، لكن أحيانا يهمس أحدنا فى أذن آخر ثم يضحكان، دون أن يتوقف الحوار.‏

أجاب أستاذ الحقوق: أولا نصف الأحوال..نحن شعب فيه كثير من التخلف قليل من التحديث، ‏تعليم مأزوم، نسبة غير قليلة من تلاميذه تصل إلى المرحلة الإعدادية أو تتجاوزها وهم لا ‏يحسنون القراءة والكتابة وأشياء أخرى، وأحوال الجامعات لا تختلف كثيرا، أعداد طلابها فى ‏الكليات النظرية أضعاف أضعاف أعدادهم فى كليات العلوم والهندسة والمعلومات والحاسبات ‏والتكنولوجيا وهى معارف العصر الحديث، والمدهش أن نظام القبول هو الذى فرض هذا ‏الحال المعوج وليس رغبة الطلاب وأولياء الأمور، وأيضا هناك معامل بالجامعات تفتقر إلى ‏أدوات ومواد وأجهزة البحث العلمى، التى لاغنى عنها فى أى نشاط بحثى متقدم.‏

هذا راجع إلى «منهج» سائد فى التفكير منذ زمن، بأن تشييد المبانى أهم من بناء الإنسان، ‏نحن ننفق على الأشياء أكثير كثيرا مما ننفق على تعليم الإنسان وإعادة تدريبه وتنمية ‏مهاراته، كما لو أن الطوب والأسمنت والزلط والسيراميك والزجاج والرخام والتكيف ‏والمكاتب أهم من البشر الذين يستخدمونها، مع أن المبانى مهما علت أو تكاثرت لن تكفل ‏إحداث نهضة أو تضمن طفرة تنموية أو تصلح عقلا معطوبا.‏

الإنسان المؤهل علميا وعقليا هو أساس العمل الفعال وصانع الحركة الدائبة والتحديث ‏المستدام.‏

من هنا يمكن أن نفهم أسباب أزمات الزيت والسكر ورغيف العيش وتضخم فاتورة الاستيراد ‏وانخفاض قيمة الجنيه، وسوء أحوال مؤسسات وشركات عامة.. إلخ.‏

باختصار دون صناعة عقل سليم قادر على التفكير العلمى المنظم، لا تستند قراراته إلى ‏الانطباعات والمظاهر والأفكار القديمة والإيحاء والإحساس والتصورات التقليدية، لن يستطع ‏المصريون أن يصنعوا الأشياء بطريقة صحيحة، هنا اتحدث عن التيار العام فى المجتمع ‏وليس عن «أفراد» فى مجالات متنوعة: «مؤهلين وقادرين وبارعين، أفراد هم الذين يحافظون ‏لمصر على «الوجود الملموس لكن دون خروجها من المازق، فالعقل الجمعى المعطوب هو ‏الذى سمح بانتشار العشوائيات فى كل جنبات حياتنا، ليس فقط فى المدن والشوارع وإنما فى ‏الحياة الاجتماعية أيضا، وهو الذى مكن أصحاب الأداء المتوسط من الصعود إلى مناصب ‏ومراكز لا يستحقونها مؤثرة فى «المناخ العام».‏

وكما قلت لا يخلو المصريون من صفات ايجابية، بعضها موروث من حضاراتهم القديمة ‏وبعضها مكتسب من العصر، لكن هذه الصفات الايجابية لا تقلل من معاناتهم ولا تحل ‏مشكلاتهم، لأنها كما قلت فردية خارج النظام العام الممتلئ بالثغرات»، وهذه الإيجابيات لا ‏تعمل إلا فى حالات مؤقتة أو طارئة تجبرهم على أداء رفيع المستوى، مثل عملهم فى ‏مشروعات كبرى كالسد العالى ومجمع الألومنيوم، نصر أكتوبر العظيم، أنفاق قناة السويس ‏الجديدة.. وهكذا!‏

سأل الصديق: ولماذا حال المصريين على هذا النحو؟!.. وما هى الأسباب التى عاقت ‏خروجهم من كهف التخلف إلى ضفاف التحديث؟!‏

أجاب أستاذ الحقوق: لأننا فشلنا فى «تحديث مصر» ونقلها إلى العصر الحديث، بمعارفه ‏ونظم حكمه ووسائل إنتاجه وثقافته وأساليب إدارته.. فأصبح الزيت والفول والشاى والطماطم ‏ورغيف الخبز أهم اهتمامات الناس، وليس جودة الحياة فى كل جوانبها.‏

قال: كلامنا عن تحديث مصر.. وليس عن اهتمامات الناس وشكل حياتهم.‏

رد استاذ القانون: كثير من الكتب بحثت هذه المسالة بتعمق، وقارنت بين «التحديث» الذى ‏جرى فى الغرب وشروط نجاحه، وبين «التحديث» الذى حاولناه مرارا وفشلنا فيه لاننا لم ‏نوفر له شروطه..

سأله: كيف ذلك؟‏

قال: أهم عنصر فى تحديث المجتمعات هو الدولة، سلطة وشعب مع اختلاف دور كل منهما، ‏وبالطبع السلطة الحاكمة هى رأس الحربة، على أن تكون مهتمة بتطوير وتنمية القوة ‏العسكرية والإنتاجية والمكانة الدولية لمجتمعها، وأن تؤسس دولة منفصلة عن الحكومة ولا ‏تندمج فيها، أهم قواعدها السيادة المطلقة لقانون موحد يخضع له جميع سكانها من أكبر رأس ‏فيها إلى أبسط مواطن، وتوفر تكافوء الفرص أمام الجميع، وتصنع نظاما اجتماعيا وتصونه ‏بتدابير هادفة وخطط واعية وإدارة يومية لكل شئون مجتمعها، وتدير عملية تعليم عام موحد ‏يرسخ معانى العلم الحديث ويؤكد على أولوية الوطن وحرية المواطن، وتنهمك فى بناء الأمة ‏وغير مشغولة على الإطلاق بحراسة الامتيازات الموروثة، ومراقبة الإلتزام بالتقاليد.‏

هنا تكون الدولة بستانًا لجميع مواطنيها.. وهذا ما حدث فى الغرب

والعكس صحيح.. تنعدم فرص التحديث أو تتضاءل حين تندمج السلطة الحاكمة فى الدولة ‏وتتصور أنها الدولة وليست مجرد جهاز إدارى سياسى ينوب عن الناس، وتكون حارسة ‏لأوضاع قائمة بالفعل أو أوضاع استحدثتها، ونتج عنها امتيازات يصبح الحفاظ عليها هو جل ‏أهدافها، وتسمح بأن يكون القانون فيها سيدا أحيانا أو غالبا أو حسب الحاجة، لكن فى أحيان ‏أخرى مجرد مطية لمن شاء حظه أو نفوذه أو سلطانه أن يركبه ويسير به فى الطريق الذى ‏يريد، وأن تكافؤ الفرص دخان فى الهواء لا يصمك أمام رياح الواسطة والمحسوبية والنفوذ.‏

هنا الدولة خفير.. يصون امتيازات لفئات وجماعات على حساب بقية مواطنيه.. وهو ما تعانى ‏منه دول كثيرة سواء كان نظامها المعلن ديمقراطيا أو غير ذلك.‏

سكت أستاذ القانون برهة قبل أن يستكمل كلامه المدهش: لم يحدث منذ تجربة محمد على باشا ‏أن عرفت مصرالفرق بين الدولة البستان والدولة الغفير، فلم تجرب الدولة البستان، لا مع ‏الباشا الكبير ولا حفيده الخديوى إسماعيل ولا فى الفترة شبه الليبرالية قبل الثورة ولا بعدها، ‏كل هذه التجارب لجأت إلى العلاج الجزئى للتخلف قد تكون هناك فروق فى التفاصيل ‏والدقائق، لكن «جوهر» الدولة لم يتغير.. كما يستطيع أى مراقب أن يرصد.‏

قال صديقى:  محمد على كاد يغزو الإمبراطورية العثمانية؟ 

رد أستاذ القانون: لكن جوهر المشروع السياسى كان مستمدا من قوانين القرون الوسطى فى ‏تأكيد سلطة الدولة المركزية، بينما التحديث الصحيح يقوم على مبدأ حكم القانون (حقوق ‏واحدة وواجبات متساوية وفرص متكافئة للجميع)!‏

وفى التنمية الاقتصادية أقام منظومة مستوردة حديثة، لكنها أديرت بأساليب القرون الوسطى، ‏أى كان بها متعلمون تعليما حديثا، ومع ذلك عملوا بصفات ومواصفات الحرفيين والصناعية ‏الذين لم يتعلموا!، لأن غالبية الذين تعلموا ظلوا أسرى ثقافة قائمة على النقل والتكرار ‏والاستظهار والخرافة والقدرية والتواكل وكراهية الغرباء والخوف من الجديد باعتباره بدعة، ‏والتصنيف الطائفى والبعد عن التجريب والنقد والمقارنة، أما القليل الذى فهم طبيعة العصر ‏فكان محدود الأثر فى المجتمع.‏

وسأل صديقى: وماذا يحتاج مشروع التحديث الحقيقي؟‏

أجاب أستاذ القانون: توفير شروط التحديث، وأولها الدولة «البستانى» التى ترعى وتحمى ‏وتوزع وتوفر للكل فرصة الوصول إلى الشمس والهواء حسب القدرة والحاجة وينمو بين ‏يديها المجتمع بشكل يحدده قانون واحد!‏

ثم قال: كفى.. دماغى وجعنى وقام مودعا!