الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الست الريسة

من المدهش أن المجلة التى أسستها امرأة، وأنشأتها امرأة، ورسمت سياساتها منذ اللحظة الأولى امرأة، وأصدرت أول أعدادها كمطبوعة لها خط سياسى مستقل واضح امرأة، وما تزال تحمل اسم امرأة، من المدهش أن رئاسة تحريرها لم تؤل لامرأة طوال تاريخها الطويل الذى يقف على بعد أقل من عام من محطته المئوية.



لقد ظلت هذه المسألة لغزًا بالنسبة لى على الأقل، ككاتبة وكصحفية قضيت نحو ربع قرن فى أروقتها الذاخرة بحكايا التاريخ وتفاصيل أسراره سواء على مستوى مهنى بحت، أو حتى على مستوياته الأشمل محليًا وإقليميًا وعالميًا.

لم أفهم أبدًا كيف طوال مئة عام من الإصدارات التى ناقشت وحللت المشهد السياسى والثقافى والفنى، بل أجرؤ أن أقول صاغته فى أغلب الأحيان وأسهمت فى صنعه، كيف خلت الترويسة من اسم امرأة رئيس تحرير!

لا أنتقص بالطبع من قدر «الرجال» الذين شرفوا بالاضطلاع بهذا التكليف وقد بذلوا جهدهم وكان لكل منهم تجربته حتما، لكنى أنتبه للمفارقة وحسب؛ بل إن المفارقة الحقيقية التى أدركتها هى أنه مهما اختلفت الإدارات وتواترت الأسماء الثقال على الترويسة، فقد ظلت روزاليوسف دوما هى «الست الريّسة» الحقيقية. 

روزاليوسف.. المجلة.. المطبوعة.. الكيان.. هذا الزخم الفكرى العصى على الاستيعاب أو التحجيم أو الاحتواء فى شخص أو مكان أو حتى زمن معين مهما بلغت عظمته أو رداءته، هذه القدرة الأسطورية على البقاء والتغلغل فى عمق المجتمع والتفاعل مع قضاياه والسبق إلى كتلته الحرجة وفهم ما ورائية مشاهده.

هذه «الحالة المتفردة» التى أغرمت بها منذ وطأت قدماى درجات السلم الجرانيتى للمبنى القديم بشارع قصر العينى، قبل أن يكتسب هذا اللقب، قبل أن يصبح قديما، حتى طابقه السادس حيث قسم الخارجى والترجمة لأتسلم مهام تدريبى كمحررة صحفية ومترجمة بعد تأشيرة موافقة الأستاذ محمد عبدالمنعم بذلك فى مكتبه بالطابق الخامس، الذى استقبلنى فيه ودودا أبويا لطيفا حازما مشيرا لمساعده لشئون رئاسة التحرير قائلا بالحرف «متخرجة جديد وعايزة تبقى صحفية، شوفوا فترة التدريب، شغلوها بجد، عايزين نعملها صحفية كويسة».

للحق «اتمرمطت شوية حلوين»، بضعة أشهر كافية جدا بالنسبة إلى أسماء كانت «تهتز البلد» لمقالاتها وكتاباتها آنذاك، لأن تفصل فى أمرك، وتفرز الغث من السمين سريعا بشأن القدرة على العمل تحت ضغط، صياغة وكتابة الخبر والتقرير وخلافه، فترة قضيتها على أعصابى كمبتدئة ألا أكون «قد المسئولية» خاصة بعد صدمة وفاة والدى رحمه الله خلالها، وقد اعتدت -أو هكذا لاحظت فيما بعد- أن الأساتذة الزملاء، وقبلهم رئيس التحرير نفسه يتسلمون «الشغل» دون التعليق عليه سلبًا أو إيجابًا، مجرد ملاحظات هنا أو هناك، بضعة أسئلة أو استفسارات إن لزم الأمر، توجيه بتعديل كذا أو حذف هذا أو إضافة ذاك، وهكذا، قبل أن أفهم لاحقا أن هذا فى حد ذاته معيار رضا وقبول لعملك؛ هكذا دون ثرثرة.

فى الطابق السادس، كان مكتب الراحل «أيمن التهامى» مجاورا لمكاتب قسم الترجمة، هو بالأحرى «وحدة كومبيوتر وإنترنت» صغيرة، مهمتها رصد الأخبار العالمية «حاجة كدة بديل متطور للتيكرز إياه» مع كل إمكانات الإنترنت الواعدة قبل خمسة وعشرين عاما، ذلك الخلوق الدمث الذى لم أربط أبدا بسذاجة بينه وبين الكبير رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير «محمود التهامى»؛ ربما لدعته «كشاب صغير زينا»آنذاك، ربما لصمته أغلب الوقت، ربما لذلك الحضور الخاطف السريع الذى لا يستعرض أبدا تلك العلاقة، فقط يظهر لتدريب أحدهم على استخدام جهاز الكومبيوتر، تعريفه ببعض المواقع المفيدة، حل مشكلة ما فى الطباعة وخلافه.

هذا الكتوم الذى نمت سريعًا بيننا ثمة صداقة عميقة حلوة، ضنت الأقدار ببقائها طويلا؛ بعض مناقشات سياسية فى الشأن العام، ثمة آراء هنا أو هناك، وبعض حكايات كفاح الشباب الحلو حين دردشنا حول صدمة أسرتى لإصرارى للخروج للعمل بمجرد حصولى على شهادة الثانوية العامة، وعمل «أيمن» الصيفى أثناء الدراسة أظن فى «رأس البر» إن لم تخنى الذاكرة ومشروع عربة الفيشار الذى كان يقهقه ضاحكًا من قلبه كلما تذكره.

يستطيع  كل من «عبرته» روزاليوسف أن يقص عليك تفاصيل صغيرة كتلك، كل صحفى أو صحفية حملت صفحات المجلة اسمه، تركت أحرفه بعضًا من روحه فيها، وعبرته «روزا» فى طيفية غريبة لن يدركها سواه، حالة من الارتباط والألفة ستدركها مثلا حين تعرف كم عز علينا أن نفارق مكاتبنا فى «المبنى القديم» لننتقل إلى القصر الأثرى المجاور؛ ظل «المبنى القديم» نفسه اصطلاحا يشبه «أسطورة جنيات الحواديت»، المبنى القديم إشارة خفية لتلك العجوز الساحرة «روزا» القابعة هناك، على نفس الرصيف، تختزن ذكرياتنا وتغرينا بها، قبل أن تخدعنا وتسبقنا فى الوقت ذاته إلى القصر لنجدها هناك، تنسج أساطير وعلاقات وتفاصيل كثيرة وتسلبنا أحرف أسمائنا جميعا لصالح «الست الريّسة» وصفحاتها، فتدرك فى لحظة أن الأمر ليس المبنى، وليس القصر، وليس «التهامى»، أو «عبدالمنعم»، أو «عبدالله كمال»؛ ليس سوى «الست الريّسة» روزاليوسف وحسب.

فى «القصر» ولد «الجرنان»، وكان مكتب المبدع الرقيق «محمد هانى» مقر توريطة عشوة كباب بعد خناقة لا أذكر تفاصيلها، لكنى أذكر جيدا أنه «مفيش خناقة تستاهل»، وتحولت عشوة الكباب للمة حلوة لطاقم التحرير كله فرحا بالمولود الجديد، الذى شاهدت بأم عينى «عبدالله كمال» يجرى لاهثا وخلفه صديق عمره «محمد هانى» يركضان حرفيا للحاق بنسخته الأولى لإعلان الخبر فى برنامج «البيت بيتك»، يركضان كطفلين يلحقان بموعد الامتحان الذى نجحا فيه بجدارة، ووقفت «الست الريّسة روزاليوسف» تحتفل معنا بعشوة الكباب لتضيف إلى أساطيرها قصة جديدة.

إن مصطفى أمين بجلالة قدره، لما اصطك «صاحبة الجلالة» كاصطلاح اختزل فيه المنظور الصحفى كله اختزالا بديعا قويا يرسم -أو لعله على الأرجح ينظم- العلاقة المهنية والأدبية بين الصحافة وكتابها، أصبح من المفهوم فى ضوئه - بالنسبة لى على الأقل - إدراك ماهية «رياسة» الست العظيمة وسلطتها. تحية بدموع القلب للست الريّسة ورؤساء تحريرها.