الخميس 2 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
نبتــدى منين الحكايـة

نبتــدى منين الحكايـة

أتذكر هذا اليوم جيدا. كأنه كان بالأمس. أرانى أجلس أمام أستاذ محمد بغدادى المشرف الفنى لمجلة روز اليوسف. وهو يتصفح الرسومات التى أتيت بها قابضا يدى عليها. بل متأبطا لها وكأنها طفلى الصغير. قلبى تتسارع دقاته كلما انتقلت أصابعه برشاقة من رسمة لأخرى.. تتنقل عيناى بين ملامحه الجامدة مترقبا أى رد فعل، ولو بسيط، أستشف منه قرار هيئة المحكمة. 



انتهى أستاذ بغدادى من تصفح الرسومات جميعها. وبعد أن انتهى من الرسمة الأخيرة رجع بظهره للوراء ببطء ليلامس مسند الكرسى. تنهد تنهيدة عميقة. ثم ساد صمت لدقائق حسبتها سنوات.

 

كان أبى قد أخبرنى أن المشرف الفنى لمجلة روز اليوسف سيكون فى مكتبه الساعة الحادية عشرة صباحا لرؤية أعمالى.. من المؤكد أنه سيحتفى بموهبتى. وربما ستأخذه الفرحة ليطير من روعة الرسومات. ربما يتحلق حولى صحفيو المجلة هاتفين مهللين للملك الجديد القادم من بعيد على حصان أبيض. وتزغرد الصحفيات.. و..و..

أفقت من خيالاتى كلها على صوت أستاذ بغدادى. شوف يا عمرو، أنا ممكن حالا أرفع سماعة التليفون وأتصل بوالدك الأستاذ جمال سليم. أقول له يا أستاذ جمال ابنك عبقرى وما حصلش. وأفتح درج المكتب وأحط رسوماتك فى الدرج ويبقى الموضوع انتهى. وده حل بسيط جدا.

لكن لو عايز تبقى رسام كاريكاتير بحق وحقيقى وكتفك بكتف الرسامين الكبار الموجودين فى المجلة لازم تشوف شغل الناس اللى قبلك عملوا إيه ورسموا إزاى.. لازم تطلع الأرشيف وتتفرج. قصادك الحلين.. وفكر. ... وساد الصمت مرة أخرى.

لا أتذكر أن كنت أخذت الرسومات من أمامه أم تركتها له.. إلا أننى خرجت من الجريدة وفى رأسى عنوان عريض يعبر الشاشة من أقصى اليمين لأقصى اليسار لمقطع من أغنية لعبدالحليم حافظ.. «وسرت وحدى شريدا. محطم الخطوات..».

أتذكر جيدا أننى قبل أن أنام تسارعت فى ذهنى لقطات لأحداث اليوم جميعها.. ذهابى للمجلة. مقابلتى مع أستاذ بغدادى ثم.. ثم غفوت ورحت فى سابع نومة.

الغريب أننى استيقظت فى الصباح وقد قررت الذهاب فعلا إلى الأرشيف. ربما كان الدافع وقتها التحدى. أو العند أو ربما الفضول. لا أعرف.

والدى اسمه جمال سليم. صحفى ناصرى. بدأ حياته فى صحيفة الجمهورية ثم انتقل بعدها لروز اليوسف. حقق خبطات صحفية مهمة تبوأ على أثرها مناصب عدة فى المجلة ما أتذكره منها أنه كان فى وقت من الأوقات رئيسا للقسم السياسى والتحقيقات الصحفية. دفع والدى ثمنا باهظا لمواقفه السياسية التى كانت دائما على يسار الحكومات المتعاقبة فى ذلك الوقت كالتضييق عليه فى فرص النشر وأحيانا بمنعه من الكتابة فى وقت لم تكن قد ظهرت فيه بعد الصحف الخاصة. ولكن ظل الود دائما هو ما يغلف علاقاته بزملائه فى المجلة. الأمر الذى جعله بشىء من العشم يصرح بأن لديه ابنا يمتلك بعضا من الموهبة ربما تؤهله فيما بعد أن يصبح جزءا من المكان. فقط أريد منكم رؤية ما يرسمه وتقييمه. 

كنت قد انتهيت توى من أداء الخدمة العسكرية بعد أن تخرجت من المعهد العالى للسينما قسم الرسوم المتحركة. ثم مثلت مصر بفيلمى «الدار» وحصلت به على الجائزة الأولى كأحسن فيلم من مهرجان القاهرة الدولى السينمائى التسجيلى الثانى عام 1986.

هل لهذا السبب تشجع والدى وجمد قلبه وقرر طرح موهبة ابنه على القائمين بالعمل فى مجلة روز اليوسف؟ ربك كريم.

فى صباح اليوم التالى. كنت أول من يدخل مبنى روز اليوسف متجها إلى الأرشيف فى الدور السابع مباشرة.. أتذكر الحاجة عواطف رحمها الله رئيسة قسم الأرشيف التى قابلتنى بوجه بشوش بعد أن عرفتها بنفسى وأننى جئت من طرف الأستاذ بغدادى وبناء على نصيحته لتصفح بعضا من مجلدات روز اليوسف وصباح الخير.

وضعت لنفسى نظاما صارما من الساعة الثامنة صباحا حتى الثانية ظهرا فى الأرشيف. ثم أهبط للطابق الرابع حيث مكتب الإشراف الفنى لرؤية الأستاذ بغدادى. ومين عارف.. ربما يحن على بموضوع يحتاج رسما كاريكاتيرا مصاحبا له.

ودارت وتيرة الحياة ربما لأسبوع أو اثنين على نفس المنوال والجدول الصارم الذى ألزمت نفسى به. من تمانية لإتنين فى الأرشيف ومن إتنين فى القسم الفنى أعرض على أستاذ بغدادى بعض الرسومات التى أقوم برسمها ربما يلحظ ملمحا لتطور ما فى رسوماتى أو فكرة تستحق أن يبنى عليها.

فى البداية كان وجودى فى الأرشيف شيئا غريبا على. أنا الذى كنت على وشك الهجرة وترك البلد تماما من شهر واحد فقط.

الآن أجدنى محاطا بمئات المجلدات التى يعلو بعضها الأتربة متحصنا كل حين وآخر بكوب من الشاى. إلا أننى وبعد يوم واحد فقط من بداية تصفحى للمجلدات بدأت أستمتع تماما بالمهمة الشاقة وأتحين مجىء اليوم التالى لرؤية المزيد من الكاريكاتير الرائع والأفكار المدهشة.

بدأت بالمجلد الأول لمجلة صباح الخير. كنت أعرف بالطبع أسماء رسامى الكاريكاتير بحكم عمل والدى ودخوله أسبوعيا بعددى روزاليوسف وصباح الخير، لكننى صراحة فوجئت بحلاوة الأفكار التى دائما ما كانت تنتزع دهشتى فى كل مرة من الجرأة والشطارة والفهم العميق لمعنى السخرية.. طالما كنت أقارن ما أراه وقتها فى الأرشيف وبين الكاريكاتير الذى كان ينشر فى المجلة وقتها.. وأتحسر على تقليص مساحات الكاريكاتير واختفاء الدهشة والجرأة و.. نهايته.. أكون ظالما تماما ومجحفا للحق عندما أحاول المقارنة بين صحافة الستينيات وصحافة عام 1987.

كانت رسومات كاريكاتير جيل الستينيات العظيم ممتلئة بالحياة، تتحرك وترقص وتغنى فى كل صفحة من الأعداد القديمة تماما كالبنوتة الشقية التى تعبر الشارع ذهابا وإيابا فرحة بنفسها مستعرضة جمال مفاتنها أمام الجالسين على أجدعها قهوة.

صلاح جاهين، جورج البهجورى، حجازى، بهجت، صلاح الليثى، اللباد، إيهاب شاكر، رجائى، ونيس. كل هؤلاء سحرونى وكأنهم فريق البرازيل العظيم.

هذه الحقيقة اسمها «الضمير».هذه الكلمة السحرية هى ما كانت تجعلنى فى بعض الأحيان أصب لعناتى على رسام لم يراع ضميره فى الرسمة أو «عفق» الفكرة بشكل محكم. أو بالأصح «كروت» فى عملها ورسمها على عجالة.

حسنا. لقد جئت بعد خمسين عاما لأشاهد هؤلاء الرسامين وماذا فعلوا وكيف اجتهدوا وأيضا كيف «تسربعوا» وكيف تحايلوا على الرقابة وتسللوا من خلال مقص الرقيب لتوصيل رأيهم الصادق الجرىء والشجاع الذى ربما قد نالوا جزاءهم عليه فى تلك الأيام.

«مسئولية الإمضاء». لا عذر لك – يا من تفكر فى أن تصبح رساما للكاريكاتير – لن يرحمك القادمون من بعدك وهم يشاهدون أعمالك التى تركتها لهم. قد يكون معك العذر وأنت تحاول أن تقنعهم بأنك اضطررت لـ«كروتة» هذا الكاريكاتير لأنه كان لازم أودى مراتى للدكتور أو كنت متضايق وقتها ومش فى مود الشغل ولكنهم لن يغفروا لك.. أيضا ستسقط من نظرهم تماما لو كان عذرك هو «على قد فلوسهم».

لسنا محاسبين فى شركة لنقوم فى كل عام بإعداد الأوراق فى نهاية السنة المالية. نحن من نصنع التاريخ. ستظل رسوماتنا حاضرة ونحن من سنحاسب فى النهاية شئنا أم أبينا على المشاريب.

تقمصت دور الراحل العظيم «فؤاد المهندس» فى فيلم «عائلة زيزى».. ودخلت من باب المنزل حاملا عدد روز اليوسف وقائلا بأعلى صوتى «المكنة طلعت قماش». كان عدد رأس السنة فى بداية عام 1988. لمحت وقتها عينى والدى وقد اغرورقت بدموع فرحة حاول أن يخفيها عنى.

كرسام مبتدئ طلب منى الزميل العزيز «محمد راشد» فى القسم الفنى عمل كاريكاتيرات على عمود واحد ربما يحتاجون لها مصاحبة لمواضيع رأس السنة المتعددة التى ستنشر فى المجلة.

وقتها كان يوجد إعلان شهير مكسر الدنيا عن نوع جديد من الأثاث وفتاة الإعلان تقول جملتها التى أصبحت مشهورة فيما بعد «محمود إيه ده يا محمود؟».

لا أعرف كيف جاءتنى هذه الفكرة التى ربما قد أكون قد تقمصت فيها شقاوة كاريكاتير الستينيات التى كنت لا أزال أطالعه فى الأرشيف.

رسمت كادر أسود تماما وكتبت فوقه الساعة 12 بالليل وبداخله كانت بالونة التعليق مكتوبا بداخلها «محمود إيه ده يا محمود؟».. وبالتالى أصبح المعنى مختلفا تماما عن إعلان للأثاث.

وبدأ زملاء داخل المجلة يبحثون عنى ليتعرفوا على. فى هذا الوقت كنت قد نجحت فى «حشر» مكتب صغير وراء باب قسم الإشراف الفنى. وبالتالى كنت أشاهد أحدهم يدخل لأستاذ بغدادى ممتدحا رسما لى. على سبيل المثال كان هذا بداية تعارفنا أنا والصديق العزيز «إبراهيم عيسى» الغنى الآن بالطبع عن التعريف. 

وتفتحت أبواب الأسرار وبدأت الحياة وأصبح لى فى كل عدد موضوع أو اثنان أقوم برسم الكاريكاتير المصاحب لهما وأحيانا أكثر.

أخيرا ضحك الأستاذ محمد بغدادى. فى يوم لن أنساه أبدا وبعد أن سلمت الكاريكاتير لأستاذ بغدادى وجدته يقول لى مبتسما: «الناس كانوا بيسألونى دايما ليه ما بيطلعش عندكم رسامين كاريكاتير جداد؟. دلوقتى بس أقدر أرد عليهم وأقول لهم عندنا رسام كاريكاتير جديد اسمه «عمرو سليم».

ملحوظة: قفزت فى ذهنى فجأة بعد كتابتى المقال أغنية عمرو دياب «حلوة البدايات»... وفجأة وجدت من يأتى من بعيد جدا «لو حكينا يا حبيبى نبتدى منين الحكاية» للعندليب الأسمر عبدالحليم حافظ. يبدو أننى سأظل دائما منحازا لجيل الستينيات