الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
السر الأعظم فى روزاليوسف من واحد إلى مليـون!

السر الأعظم فى روزاليوسف من واحد إلى مليـون!

«لا يحصل على «بنت السلطان» إلا من يقدر على دفع مهرها.. لكن مهرها يكلف الكثير»



«ربما ثروة من العرق إذا لم يكن سنوات فى معتقل»

«ليس هناك امرأة جميلة أو مجلة جريئة بغير معركة مثيرة نخوضها لنصل إليها»

هكذا تحدث صاحب السمو الصحفى «محمد التابعى» عن «روزاليوسف» ذات يوم حار فى «يوليو» عام 1971.

 

لم أصدق أننى أجلس إلى جانبه وأشم رائحة عطره  المختلط بتبغه وأجمع عقود اللؤلؤ من كلماته وكأنها وصايا عاشق يقامر بحياته وحريته وكيانه وماله فى مقابل قبلة واحدة من «بنت السلطان» أو كتابة مقالة واحدة تضغط على موهبته ينشرها فى «روزاليوسف».

كأن الكتابة خنجر فى اللحم لا يخرج إلا بالدم.

كأنها حتمية.

حتمية كالتى يفيض بها النهر أو كالتى تنضج بها السنبلة أو كالتى يولد بها الأطفال.

إنه المعلم الأول الذى تمرد على صرامة كتابات «عباس العقاد» وصعوبة تحليلات «طه حسين» والثرثرة الرومانسية التى فاضت فى مقالات «مصطفى لطفى المنفلوطى».

حرر «محمد التابعى» الكتابة الصحفية من اللغة الثقيلة الغليظة التى يخطئ فى نطقها نصف القراء وربما لا يفهمها النصف الآخر.

هو أيضًا أول من فرض على المقالة السياسية تحديد موقفها فلا يمكن أن تكون فى الماء والنار معًا، ولا يمكن أن تبدأ من خط الاستواء وتنتهى فى القطب الشمالى.

وهو كذلك أول من حرص على ألا يتناقض الكاتب بين حروفه وسلوكه فلا يدعو إلى الطهارة وهو غارق فى الدعارة ولا ينتمى إلى الصحافة وعينه على الصرافة.

ولم يكن ليكف عن ترديد: «لنجعل مساحة الفرح أكبر ومساحة الحزن أقل».

بدأ «محمد التابعى» هذه الثورة فى «روزاليوسف» ووضع قواعدها المهنية والسياسية التى حافظت عليها منذ شارك فى أول عدد وحتى وصلت إلى العدد رقم «5000» دون أن تخل بها إلا قليلاً.

إن تعاليمه التى سمعناها من الكبار الذين سمعوها منه أو عنه لا تزال ترن فى دماغى:

«نحن لسنا أفيالًا ترقص ثم تمد خراطيمها إلى المقصورة الرئيسية ليضع من فيها موزة أو تفاحة أو رغيف خبز مغموسًا فى الذل».

«نحن لن نستمر بالحيوية ذاتها ما لم نضخ فى شرايين «روزاليوسف» دماء شابة موهوبة ساخنة تولد بغريزة التمرد وتتجرأ على مخالفة أنظمة المرور».

بالطبع نجح «محمد التابعى» فى زيادة توزيع وتأثير وتسعير «روزاليوسف».

وفى الوقت الذى أسقط قلمه حكومات متعددة سقطت فى قلبه نجمات شهيرات أيضًا ولأنه عاش مثل الملوك استحق لقب «أمير الصحافة».

كانت هذه هى المرة الأولى والأخيرة التى أراه فيها.

وكان وجودى معه وأنا محرر صغير تحت التمرين وسط نجوم «روزاليوسف» مثل «صلاح حافظ» و«أحمد حمروش» و«جمال كامل» و«حسن فؤاد» دليلاً على أن وصاياه الذهبية تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل.

كان وراء الدعوة التى توجه لنا نحن جيل البراعم «حسن فؤاد» الذى كان يسمى مثل هذا اللقاء بـ«سهرة الضهر» أو سهرة «العصر»، حيث يلتقى الكبار فى فندق «شبرد» ما بين الثالثة والخامسة بعد منتصف نهار يوم ما من أيام الأسبوع بنجوم مشاهير فى الفنون والسياسة والبرلمان والدبلوماسية يتحاورون معهم ويحصلون منهم على الأخبار.

و«حسن فؤاد» صحفى ورسام تشيكى وكاتب سيناريو وصانع أفلام تسجيلية. لكن موهبته الأكبر هى اكتشاف المواهب.

إن عدد المواهب التى أشار إليها فى كل مؤسسة ثقافية أو فنية عمل فيها يصعب حصرها فعلاً. 

كل ما حدث معى أننى كتبت تحقيقًا صحفيًا عن مجلات الحائط فى الجامعة والتقيت به صدفة أمام مصعد «روزاليوسف» فهز رأسه استحسانًا وسحب نفسًا من الهواء يعينه على احتمال «الربو» الذى يعانى منه، ثم كانت الدعوة لسهر «الضهر». 

وفى كل سهرة من هذه السهرات النهارية كان لنا نحن الصغار نصيب منها.

والحقيقة أن الفكرة اقتبست من «كامل الشناوى» الذى كان يجمع الأطياف الصحفية والفنية والثقافية حوله فى صالونه النهارى اليومى فى «نايت أند داى» أشهر مكان عرفه فندق «سمير أميس» القديم قبل هدمه.

فى ذلك المكان اعتمد موهبة «عبدالحليم حافظ» الذى أحضره إليه الصحفى «فوميل لبيب» واختار اسم «أرخص ليال» للمجموعة القصصية الأولى للدكتور «يوسف إدريس» وهناك أيضًا التقت «سعاد حسنى» صدفة بمتعدد مواهب سيؤثر فيها ويغير مصيرها هو «صلاح جاهين» وإن تأخر تعاونهما معًا عدة سنوات.

بدا واضحًا أن رحيل «كامل الشناوى» وإظلام صالونه وتشرد رواده وراء فكرة «سهرة الضهر» حتى لا تحرم القاهرة من مدرسة المواهب الجديدة فى زمن ظهر فيها عشرات الشعراء وكتاب القصة وجاء أغلبهم من الريف سيرًا على الأقدام بحثًا عن فرصة. 

كنا نجلس صامتين مبهورين ونحن نجد أنفسنا بالقرب من «سعاد حسنى» أو «عبدالرحمن الشرقاوى» أو «يوسف شاهين» أو «لطفى الخولى» أو «إحسان عبدالقدوس» أو «فؤاد المهندس» أو الروائى السودانى «الطيب صالح» أو الدبلوماسى الجزائرى «الأخضر الإبراهيمى» أو صانع الثورات العربية «فتحى الديب».

يكفى أن نسمع الكبار وهم يسألون ويتحاورون ويناورون حتى ينسى الضيف حذره ويبدأ فى الكلام على سجيته.

كانت حصصًا مهنية تعليمية ممتعة مبتكرة لن تجد مثيلاً لها فى قاعات كليات الإعلام.

تعلمنا أسلوب الحوار ونحن نشرب ما يقدم إلينا وتعرفنا على طريقة إقناع المصادر بكشف ما تخفيه من معلومات ونحن نأكل ما يوضع أمامنا فهل هناك مدرسة بهذه الروعة؟

بالقطع تعرفنا فيما بعد على كثير ممن شاركونا سهرة «الضهر» بعد أن كبرنا.

خلقت «سهرة الضهر» شعور التواصل بين الأجيال دون صراع أو تجاوز، مما أضفى على مجتمع «روزاليوسف» سكينة توفر جهد الطاقة لمزيد من النجاح.

جمعينا يمتلك الوقت كله للعزف على قيثارته فليس مضطرًا لتبديد الوقت دفاعًا عنها.

لا أحد يريد انتزاعها من يد غيره فهو مشغول بأنغام آلته الخاصة.

على أن هذه السلوكيات التى لا نجدها إلا فى «المدن الفاضلة» لم تكن لتفرض نفسها إلا فى وجود قيادات صحفية موهوبة لا تخاف من المنافسة، بل تشجعها.

قيادات تثق فى نفسها فلا تبدد وقتها فى الحفاظ على مناصبها، بل تنشغل بالتطوير والتغيير وهما على رأس قائمة الفضائل الصحفية.

بل أكثر من ذلك تحررت من قيود المميزات فلا مكاتب فاخرة، بل لا مكاتب أحيانًا ولا سيارات رسمية بسائق ينحنى عند فتح الباب إلا نادرًا ولا مكافآت سرية يمكن إخفاؤها.

كانوا يدخلون بحقيبة يدهم ويخرجون بحقيبة يدهم دون أن يشعروا أنهم فقدوا شيئًا عندما تركوا مناصبهم.  أما السنوات الطوال التى وضعت فيها «روزاليوسف» تحت إقامة جبرية فرضتها قيادات فاشية فكانت سنوات سوداء نفش كل محرر فيها ريشه وغلظ صوته وتصارع مع نفسه إذا لم يجد أحدًا يتصارع معه ودفعت «روزاليوسف» الثمن.

فى تلك السنوات الصعبة لم تكن قوة المحرر فى موهبته وإنما فى واسطته.

كلما كبر المسئول الذى يعرفه المحرر كلما حصل المحرر على صفحات أكثر ولو لم يستحق ما كتب النشر أصلا ولو أقيل المسئول خرج المحرر ولم يعد.

كانت خريطة النشر تعكس خريطة القوى السياسية، لذلك لم يكن غريبًا أن ينهار توزيع «روزاليوسف» ويتبخر تأثيرها.

لكن «روزاليوسف» مثل طائر النورس الذى يهب من التراب متجدد الحياة بمجرد أن يسمع كلمة حب صادقة أو يتلقى لمسة حانية صافية.

إنه السر الأعظم فى مجلة لا تشبه غيرها تسترد أنفاسها الغائبة بقبلة الحياة. 

سر توارثه من آمن به.

توارثه كل من رفض تحويل «روزاليوسف» إلى طروادة لتعيش فى حصار تاريخى مع نفسها.

هناك من يرى أننى ورثت السر عن «صلاح حافظ» وهو ورثه عن «إحسان عبدالقدوس» الذى ورثه عن «محمد التابعى».

هم مجموعة من الأنهار لكل منهم ينابيعه وتدفقه وحركته وموجاته وشواطئه، لكنها تصب فى بحر واحد هو بحر «روزاليوسف».

إنهم على تباين أصواتهم وأيديولوجيته ومواهبهم ومصادر ثقافاتهم يؤلفون مجتمعين سيمفونية واحدة تصغى إليها الميديا فى كل العصور.

لكنها سيمفونية يجدد عزفها جيل جديد موهوب حان الوقت ليرث السر الذى تلقيته ذات مساء فى يوم من أيام رمضان عام 1991.

فى مغرب ذلك اليوم انتهينا من دعوة إفطار «صلاح حافظ» وأنا ووقفنا نتحدث فى أحد شوارع «الزمالك» كما اعتدنا فى كثير من الأحيان.

لكن فجأة سحب «صلاح حافظ» نفسا من سيجارته المفضلة (سيلك كت) وقال:

ـ أمس أظهرت تحاليلى الطبية أننى مصاب بسرطان فى الحنجرة.

قاطعته مفزوعًا، لكنه أصر على مواصلة حديثه بهدوء وكأنه يتحدث عن شخص آخر مصاب بالسرطان.

ـ   سآخذ  بنصيحة «موسى صبرى» وأسافر إلى السويد المشهورة بجراحات هذا النوع من السرطان لكن ما أطلبه منك الآن هو أن تتولى مسئولية تحرير «روزاليوسف» بعد أن فقدت سمعتها قبل أن تفقد توزيعها.

رفضت ما طلب وقدمت مبررات لم ترضه فلم يتردد فى أن يعاتبنى بشدة وقسوة غير متوقعة منه:

ـ إننا لم ندخر وسعًا معك أخذناك من يدك وعلمناك كيف تكتشف نفسك وتعرفت معنا على أصول الصنعة، ثم وعندما نطالبك برد الجميل لروزاليوسف تكشف عن خوف من الفشل يصل إلى مستوى الأنانية.

أشعل سيجارة ثانية وثالثة وخامسة وهو مستمر فى الحديث:

ـ لو تصورت النجاح فى زيادة التوزيع فأنت ستنحى من أول عدد تتولى تحريره، لكن النجاح الذى نريده منك مختلف تمامًا وهو النجاح الأصعب.

توقف عدة ثوانٍ ليدخن ثم استطرد:

ـ لقد فقدت روزاليوسف خصوبتها ولم تعد تنجب ما يكفى من محررين موهوبين يواصلون حمايتها ورعايتها هذه هى فى الحقيقة مهمتك الأساسية والسر الأعظم الذى أبقى على روزاليوسف وحان الوقت أن تحمله عنا.

لم أتمالك دموعى.

لكن لم أعرف سببها.

هل كانت حزنًا على ما أصاب أستاذى الذى علمنى ملايين الحروف ولم أصر له عبدًا وإنما صرت صديقًا؟ أم كانت وجعًا من قسوة كلماته؟ أم كانت تطهرًا لنفسى بعد أن أثرت لأول مرة منذ عشرين سنة أثير غضبه؟ بالقطع نفذت نصيحته بالحرف.

فتحت أبواب المدرسة لكل من تصور فى نفسه موهبة.

وظللت أتابع كل منهم حتى يتعرف على نفسه ويعرف طبيعة موهبته. 

ولست فى حاجة لذكر كم كاتب وكم رئيس تحرير وكم ناقد سينمائى ومسرحى تخرجوا فى مدرسة «روزاليوسف» تنفيذًا للسر الأعظم.

الكل يعرف حتى وإن كان هناك من لا يريد أن يشهد.

الكل يعرف أن السر الأعظم انتقل الآن إلى من سيعمل به ويحافظ عليه قبل أن يوصله إلى من يستحق من بعده فى مارثون من التميز حتى العدد المليون.

وتابع «صلاح حافظ» التجربة وهو فى أيامه الأخيرة تحت العلاج فى مستشفى «القوات المسلحة» المطلة على نيل المعادى.

ازدادت شراسة السرطان فراح يضرب فى أكثر من مكان ولم يحتمل الجسم النحيل، وما أن وصل إلى المخ حتى حرمه من الكلام وإن ترك له النظر لبعض الوقت.

حملت له أول عدد أشرفت على تحريره فكور أصابعه الأربعة ورفع إبهامه علامة على الاستحسان.

ولم أتمالك دموعى.