السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

اضطراب الأسواق العالمية أعنف من تداعيات العملية العسكرية.. الأزمة «الروسية - الأوكرانية» ضربة شبه قاضية لسلة الغذاء

لم يكن فى تصور أحد حول العالم أن يسبب صراع فى أقصى شمال الكرة الأرضية أزمة غذائية عالمية لأغلب دول العالم، وأن يكون ضربة عنيفة للأسواق، إلا أن تداعيات العملية العسكرية الروسية فى «أوكرانيا» تسببت فى إحداث اضطراب فى الأسواق الزراعية العالمية هى الأسوأ منذ قرن من الزمان. 



فكان القطاع الزراعى جبهة رئيسية فى المواجهات منذ بدء الأزمة فى فبراير 2022، ما أثر بدوره على تفاقم أزمة الأمن الغذائى العالمى، خاصة بعد انخفاض الإنتاج الزراعى، وانخفاض الصادرات والناتج المحلى الإجمالى فى «أوكرانيا» كنتيجة مباشرة، مع حدوث اضطرابات فى أسواق الطاقة والأسمدة العالمية.

 

ففى عام 2022 وحده، عانى 258 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائى الحاد، وهو أعلى مستوى على الإطلاق، وفقًا للتقرير العالمى حول الأزمات الغذائية. 

وفى الوقت نفسه، ارتفعت تكاليف معالجة هذه التحديات إلى عنان السماء، بسبب الصدمات المتزامنة فى أسواق الطاقة والأسمدة العالمية، الناجمة عن الأزمة «الروسية - الأوكرانية» المتواصلة، فيما أصبحت التكلفة المتزايدة للأسمدة عاملاً مقيدًا بالنسبة للبلدان التى تأمل فى معالجة انعدام الأمن الغذائى المحلى من خلال الإنتاج الزراعى المحلى

زراعة «أوكرانيا» تصاب فى مقتل

كانت الاضطرابات العالمية فى السوق الزراعية صارخة، جراء انخفاض الإنتاج والصادرات فى «أوكرانيا»، إذ وصلت أسعار المواد الغذائية العالمية إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق فى مارس 2022، وفقًا لمؤشر أسعار الغذاء التابع لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة. 

كما كان للأزمة المستمرة آثار مباشرة وغير مباشرة على الإنتاج الزراعى فى «أوكرانيا»، حيث تشكل مناطق «دونيتسك، ولوهانسك، وخيرسون، وزابوريجيا» التى ضمتها «روسيا» خلال عمليتها العسكرية نحو %21 من القمح، و%17 من الشعير، و%19 من بذور عباد الشمس المنتجة فى «أوكرانيا» بين عامى 2016 و2020. 

وقدر تحليل اتحاد الأمن الغذائى والزراعة العالمى التابع لناسا (NASA Harvest)، أن كمية الأراضى الزراعية المهجورة فى «أوكرانيا» فى عام 2023، بسبب المواجهات العسكرية بين الجانبين تعادل نحو %7.5 من إجمالى الأراضى الزراعية فى البلاد. بالإضافة إلى ذلك، أدى تواصل الأزمة إلى زيادة تكاليف نقل الحبوب والمنتجات الزراعية الأخرى إلى أسواق التصدير. 

من جانبها، أشارت تقديرات وزارة الزراعة الأمريكية (USDA) إلى أن المساحة المحصودة  للقمح والذرة والشعير لعام 2023 انخفضت بنسبة %32،  و%27، و%37 على التوالى عن مستويات عام 2021؛ كما انخفضت مساحة عباد الشمس بنسبة %15، فى حين زادت المساحة الإجمالية لفول الصويا وبذور اللفت بنسبة %21.

كما انخفضت المساحة الصافية للمحاصيل الستة بنسبة %19.5 خلال العامين الماضيين. 

وبالنسبة لعام 2024، فمن المتوقع أن يقوم المنتجون الأوكرانيون بتقليص المساحات المزروعة بالذرة بشكل أكبر، ولكنهم سيستمرون فى زيادة المساحات المزروعة بالبذور الزيتية، خاصة فول الصويا، وفقًا لنتائج من مسح حديث أجرته وزارة السياسة الزراعية والأغذية فى «أوكرانيا».

الآثار على الصادرات الأوكرانية

لم تكن المحاصيل الزراعية الأوكرانية التى تأثرت طوال العامين الماضيين فحسب، حيث كان تأثير الصراع على الصادرات الأوكرانية فوريًا، وتحديدًا بعد توقف حركة الشحن من الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود فى الأسبوع الذى سبق العملية العسكرية الروسية، حيث تم تلغيم ممرات الشحن، وقيام السفن الروسية بدوريات فى الممرات البحرية. 

ومع توقف الشحن خارج البحر الأسود، تم نقل الصادرات برًا، وبالسكك الحديدية، والشاحنات، عبر كل من دول: «بولندا، والمجر، وسلوفاكيا، ورومانيا» إلى وجهات فى «أوروبا»، وإلى ميناء «كونستانتا» الرومانى.  وصدرت ما يسمى بـ(ممرات التضامن) نحو ثلث الكمية، التى يتم شحنها عادة عبر موانئ البحر الأسود خلال تلك الفترة. 

وأدى انقطاع الشحن فى البحر الأسود إلى زيادة الصادرات الأوكرانية إلى «أوروبا»، وانخفاض التوجه إلى مناطق، مثل: «إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى»، و«آسيا»، وذلك بين يناير 2021 وفبراير 2022. وانخفضت حصة بلدان منطقة «الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا» من %53 إلى %34 خلال هذه الفترات نفسها. 

وكان التأثير الأكبر لصادرات القمح الأوكرانية على منطقة «إفريقيا»، التى انخفضت حصتها من %10 إلى %3، بينما انخفضت حصة جنوب وجنوب شرق «آسيا» من %30 إلى %12.

وفى المقابل، تلقت الأسواق الأوروبية %50 من إجمالى صادرات القمح؛ كما شهدت زيادة كبيرة فى واردات الذرة من «أوكرانيا» بعد فبراير 2022، حيث ذهب أكثر من %64 من إجمالى صادرات الذرة من الأراضى الأوكرانية إلى الأسواق الأوروبية بعد بداية العملية العسكرية الروسية، مقارنة بـ %36 فى فترة الـ 14 شهرًا التى سبقت اندلاع المواجهات.

وانخفضت صادرات الذرة إلى دول «الشرق الأوسط»، و«شمال إفريقيا» من نحو %25 من إجمالى الصادرات إلى %17. كما انخفضت صادرات «أوكرانيا» من الذرة إلى شرق «آسيا» منذ بدء الأزمة إلى أقل من %19 بعد فبراير 2022.

واستمرت الأزمة حتى دخل اتفاق الحبوب الروسى - الأوكرانى، أو ما يعرف بـ«مبادرة حبوب البحر الأسود» التى توسطت فيها «الأمم المتحدة» حيز التنفيذ فى أواخر يوليو 2022، واستأنفت صادرات الحبوب والبذور الزيتية الأوكرانية الشحن من ثلاثة موانئ حول مدينة «أوديسا». 

وبحلول فبراير 2022، كانت مستويات تصدير الحبوب تقترب من مجاميع ما قبل العملية العسكرية الروسية فى «أوكرانيا»، إلا أن «روسيا» علقت الاتفاقية مؤقتًا فى نوفمبر 2022، ثم هددت مرارًا وتكرارًا بالانسحاب فى عام 2023، قبل إنهاء الاتفاقية أخيرًا فى يوليو 2023. وأدى إنهاء اتفاق الحبوب «الروسى - الأوكرانى» إلى انخفاض حاد فى الصادرات فى أواخر صيف، وأوائل خريف عام 2023، حيث سعى المصدرون إلى طرق بديلة.

تداعيات الأزمة على صادرات القمح والأسمدة الروسية

كان الناتج المحلى الإجمالى الزراعى المستنزف فى «أوكرانيا» بمثابة نعمة لروسيا، إذ خلق تقلص الصادرات الأوكرانية فرصًا لموسكو -وهى مصدر زراعى عالمى رئيسى آخر- للتعويض عن خسائر «أوكرانيا». 

فبحلول أغسطس 2023، أعلن الرئيس «فلاديمير بوتين» عن نية بلاده استبدال الحبوب الأوكرانية، بالحبوب الروسية، إذ تعد الأراضى الروسية أكبر مصدر للقمح فى العالم، حيث وصل إنتاج القمح الروسى خلال الموسمين التسويقيين الماضيين إلى مستوى قياسى، بسبب عمليات الزراعة والإنتاج القياسية. 

وقدرت وزارة الزراعة الأمريكية أن صادرات القمح الروسى من المرجح أن تصل إلى مستوى قياسى يبلغ 51 مليون طن للعام التسويقى 2023-2024، وذلك بعد انخفاض صادرات القمح الروسى فى الأشهر القليلة الأولى بعد بدء العملية العسكرية، لكنها تعافت بعد ذلك بحلول منتصف صيف ذلك العام. 

وبلغ إجمالى شحنات القمح خلال الفترة من 1 يوليو 2023 إلى 31 يناير 2024، 22.1 مليون طن، بمتوسط 20.4 مليون طن على مدار ثلاث سنوات.

يأتى هذا بينما تمثل «روسيا» حصة كبيرة من الصادرات العالمية لمكونات الأسمدة: مثل «البوتاس، واليوريا، وفوسفات ثنائى الأمونيوم، والأمونيا اللامائية»، إلا أن أسعار السوق لهذه السلع ارتفعت بعد اندلاع الأزمة، ويرجع ذلك - جزئيًا - إلى الخوف من أن تتأثر الصادرات الروسية سلباً. 

وانخفضت صادرات البوتاس الروسية فى عام 2022، مقارنة بمستويات عامى 2020 و2021، لكنها انتعشت بقوة فى عام 2023؛ كما ارتفعت صادرات اليوريا وثنائى الفوسفات فى عام 2022، وخلال الأحد عشر شهرًا الأولى من عام 2023. 

وعلى النقيض من ذلك انخفضت صادرات الأمونيا اللامائية بأكثر من %70 فى عام 2022، ثم انخفضت أكثر فى عام 2023. ويعكس هذا إلى حد كبير آثار إغلاق خط أنابيب الأمونيا «تولياتي-بيفديني»، والصعوبات التى تواجهها «روسيا» فى نقل الصادرات إلى موانئ أبعد على بحر البلطيق.

ضربة شبه قاضية للأسواق

قدمت البيانات السابقة مدى تأثير الأزمة «الروسية - الأوكرانية» على الإنتاج الزراعى والصادرات وحصص السوق لدولتى الصراع «روسيا»، و«أوكرانيا».

إلا أن الأزمة لم تتوقف عند دولتى النزاع فحسب؛ بل كانت لها تأثيرات سلبية متباينة على دول العالم، ومنها دول «الاتحاد الأوروبى»، إذ أدت الزيادة المفاجئة فى الصادرات الأوكرانية إلى جيرانها الأوروبيين إلى اضطرابات فى الأسواق فى العديد من هذه البلدان، وخاصة دول (المواجهة الخمس)، أى «بولندا، ورومانيا، والمجر، وسلوفاكيا، وبلغاريا». 

فاندلعت النزاعات التجارية بين «أوكرانيا» وهذه البلدان، كما برزت خلافات داخل «الاتحاد الأوروبى» بشأن سبل الحفاظ على الدعم للقطاع الزراعى فى «أوكرانيا»، مع عدم إثقال كاهل الأسواق الزراعية لجيرانها، أو تقليص دخول مزارعيها، ووصل الأمر إلى اندلاع عدة احتاجاجات لمزارعى الدول الأوروبية لتحسين قوانينهم، كما أثرت اضطرابات الأسواق الزراعية على الانتخابات الوطنية فى بعض البلدان، ولا تزال التوترات بين «أوكرانيا» و «الاتحاد الأوروبي» فى هذا الصدد مستمرة.

شكل آخر من الاضطرابات ظهر جليًا فى «الصين»، بعد انخفاض صادرات «أوكرانيا» إلى جميع المناطق الأخرى، وتحديدًا منطقة شرق «آسيا»، حى كانت «الصين» المتضرر الأول من هذا الشأن لأنها كانت تمثل %34 من صادرات الذرة الأوكرانية قبل اندلاع الأزمة، وصارت تمثل أقل من %19 منذ فبراير 2022.

كما انخفضت صادرات «أوكرانيا» من القمح إلى منطقة جنوب الصحراء الكبرى فى «إفريقيا»، إلا أنها أزمة استطاعت «روسيا» استغلالها بنجاح عبر استبدال «أوكرانيا» كمصدر للقمح للقارة الإفريقية. 

فبين العامين التسويقيين 2022-2023 و2023-2024، زادت صادرات «روسيا» من القمح إلى جميع أنحاء القارة الإفريقية.. ففى حديثه فى (القمة الروسية الإفريقية) بمدينة «سان بطرسبرج» فى 27 يوليو 2023، قال الرئيس «بوتين»، إن «روسيا» مستعدة لاستبدال صادرات الحبوب الأوكرانية إلى «إفريقيا»، وعرض تزويد كل من دول: «بوركينا فاسو، وزيمبابوى، ومالى، والصومال، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وإريتريا» بما يتراوح بين 25 ألفًا إلى 50 ألف طن مترى من الحبوب المجانية لكل منها خلال ثلاثة إلى أربعة أشهر. 

وبالفعل، أفادت الدولة الروسية فى 21 فبراير 2024 بأن وزارة الزراعة الروسية أكملت تسليم الحبوب إلى هذه البلدان.

ورغم انخفاض صادرات «روسيا» من القمح إلى شمال إفريقيا خلال الأشهر السبعة الأولى من 2023-2024 مقارنة بالفترة  نفسها من العام الماضى، فإن حصتها فى السوق ظلت كما هى تقريبًا عند %47، ولا تزال شمال «إفريقيا» الوجهة الأولى للقمح الروسى، وهو الوضع نفسه بالنسبة لصادرات القمح الروسى إلى غرب «آسيا» الذى انحفض -أيضًا- خلال الأشهر السبعة الأولى من 2023-2024، لكن حصة روسيا فى السوق زادت فى الواقع من %51 إلى %59.

فى النهاية، أوضحت البيانات السابقة مدى تأثر أسواق الزراعة العالمية -وعلى مدار عامين- بتواصل الأزمة «الروسية - الأوكرانية»، والتى لا تزال تلقى بظلالها على تفاقم أزمة الأمن الغذائى على مستوى العالم وارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق.