«موطنى» القصيدة التى أصبحت رمزًا وتحولت لنشيد أوطان «طوقان» شاعر المقاومة الذى دشنها بـ«قلمه»
وفاء وصفى
موطنى.. موطنى..
الجلالُ والجمالُ والسناءُ والبهاءُ
فى رُباكْ.. فى رُباكْ
والحياةُ والنجاةُ والهناءُ والرجاءُ
فى هواك.. فى هواك
هل أراكْ.. هل أراكْ..
سالمًا منعَّمًا وغانمًا مكرَّمًا؟
هل أراكْ... فى علاكْ
تبلغ السِّماكْ؟.. تبلغ السِّماكْ؟
موطنى.. موطنى.. موطنى.. موطنى
الشبابُ لن يكلَّ همُّه أن تستقـلَّ أو يبيدْ
نستقى من الـردى ولن نكون للعدى
كالعبيد... كالعبيد
لا نريدْ... لا نريدْ.. ذلَّنا المؤبَّدا
وعيشَنا المنكَّدا لا نريدْ.. بل نُعيدْ
مجدَنا التليدْ.. مجدَنا التليدْ
موطنى.. موطنى.. موطنى.. موطنى
الحسامُ واليَراعُ لا الكلامُ والنزاعُ
رمزُنا.. رمزُنا..
مجدُنا وعهدُنا وواجبٌ من الوَفا
يهزّنا.. يهزّنا
عزُّنا.. عزُّنا..
غايةٌ تُشرِّفُ ورايةٌ تُرفرفُ
يا هَناكْ فى عُلاكْ
قاهرًا عِداكْ.. قاهرًا عِداكْ
موطنى.. موطنى.
هكذا سطر الشاعر الفلسطينى «إبراهيم طوقان» اسمه فى صفحات التاريخ، فقد أصبحت قصيدته «موطنى» والتى نظمها عام 1934 فى بيروت من أهم القصائد، ليس فى فلسطين فقط، وإنما فى الوطن العربى كله.
لقد أصبحت قصيدته نشيدًا غير رسمى فى فلسطين ونشيدًا رسميًا للعراق فى عام 2003 بعد سقوط نظام الرئيس الراحل صدام حسين.
فقد تحدث فى قصيدته «موطنى» عن الاستعداد للتضحية والفداء من أجل الوطن، وكذلك تضمنت الدعوة إلى السعى المستمرّ لحماية الوطن وإنقاذه من الأعداء والتأكيد على دور الشباب تحديدًا فى حماية مقدرات الوطن، وكيف أن الموت وسفك الدماء هو المقدر لهذا الشعب على أن يكونوا عبيدًا لدى العدو وأنه لا سبيل للحرية إلا بالحرب والقتال.
كذلك كانت الدعوة من خلال قصيدته لأن يكون كل إنسان مخلصًا ووفيًا لوطنه وأن يعتز بترابه وأرضه، ولذلك كانت قصيدته تترنم على ألسنة الجميع خاصة تلك الأوطان التى تعبر بمحن أو صعوبات وهى كثيرة بوطننا العربى مع الأسف الشديد.
لقد كانت رسالة «طوقان» الواضحة فى قصيدته الأشهر «موطنى» أن تكون الغاية الأساسية لكل إنسان رفعة وطنه وعلوّ رايته مشيرًا إلى أنه فى صلاح الوطن صلاح للأمة العربية كلها.
اهتم طوقان بدور شباب وطنه، حيث خصص أبياتًا من قصيدته لهم، وذلك عن طريق مخاطبته لوطنه، حيث يطمئنه بأنّ شبابه لن يتملّكه الملل من الدفاع عنه وحمايته؛ فكلّ همهم أن ينال حريته واستقلاله، وإن كان ثمن ذلك الموت والهلاك.
وذلك لأنهم يأبون أن يبقوا تحت سلطة الأعداء وسطوتهم ورحمتهم، بل إنهم أيضًا يريدون أن يعيدوا مجده القديم وتاريخه العظيم.
لقد كانت القصيدة دليلًا على مقاومة طوقان واعترافه بأن الحرب والمقاومة ليست بالأسلحة فقط، وإنما هناك سبل أخرى أهمها القلم، حيث يؤكّد أنّه لا يوجد بديل عن السيف والقلم فى حماية الوطن ويرى أنهما سبيل النصر والكرامة، وليس النزاع الذى يؤدى إلى التفرقة بين أبناء الوطن الواحد.
ويُنهى طوقان قصيدته بالتأكيد على رغبته بأن تبقى راية الوطن ترفرف عاليًا تقهر كلّ عدو ومحتل يُريد الذلّ لهذا الشعب.
لقد أصبحت قصيدة طوقان والتى لحّنها الموسيقار اللبنانى محمد فليفل عام 1934 نشيدًا وطنيًا حظى بشعبية واسعة، حيث كان بمثابة النشيد الوطنى غير الرسمى لدى الفلسطينيين، حتى اعتُمد نشيد «فدائى» رسميًا فى بداية الثورة الفلسطينية.
واعتُمد نشيدًا وطنيًا فى العراق بعد سقوط نظام صدام حسين فى العام 2003، واستُخدم بدلًا من نشيد أرض الفراتين لشفيق الكمالى.
كذلك أصبحت القصيدة تغنى وتحفظ فى كل المدارس الجزائرية، وتنشد القصيدة فى كل المحافل الثورية والمظاهرات، وذلك لاعتبار كلمات القصيدة رموزًا وطنية تعبر عن الحب الشديد للوطن.
لم يقتصر انتشار القصيدة داخل الأوطان فقط أو لم يقتصر استخدامها كنشيد وطنى فقط، بل ظهرت حديثًا عدة تسجيلات لها، حيث غناها الكثير من النجوم بتوزيعات جديدة، من بينهم متسابق سوبر ستار الموسم الخامس مراد السويطى وأطلقها فى قناته الرسمية فى يوتيوب فى 18 سبتمبر 2013، وأصدرت المغنية والممثلة اللبنانية كريستينا صوايا النشيد فى 20 مايو 2015 فى قناتها على يوتيوب بتوزيع مختلف لهيثم زيّاد وإحسان المنذر.
وأعادت الفنانة فايا يونان غناء هذه القصيدة فى 31 مارس 2017، فى فيديو كليب تناول الحرب الأهلية السورية ونشرته على موقع يوتيوب، والقصيدة من إنتاج الموسيقى حسام عبدالخالق.
لقد قاوم «إبراهيم طوقان» الاحتلال بقلمه فأصبحت بضعة سطور خطها بمشاعره باقية وحية حتى يومنا هذا تتناقلها الأجيال لبث روح المقاومة بين صفوفهم ويتغنون بها لرفعة أوطانهم، وهذا ليس بغريب عن طوقان الذى نشأ فى بيئة تعرف معنى الشعر وأهميته، حيث وُلد إبراهيم عبدالفتاح طوقان سنة 1905م فى مدينة نابلس بفلسطين فى بيت من بيوتها العريقة، حيث كانت عائلته من العائلات الشهيرة فى البلد، وقد عُرفت بالتزامها وحفاظها على العادات والتقاليد الموروثة، وكان والده عبدالفتاح طوقان من رجالات البلد المرموقين ومن النشطاء الوطنيين، أما والدته فوزية العسقلان فكانت امرأة قريبة إلى القلب وملتزمة ببيتها تقوم على رعاية أبنائها شأنها فى ذلك شأن سائر نساء فلسطين آنذاك.
لقى إبراهيم طوقان الدعمٍ من عائلته فى طفولته، حيث ظهرت عليه علامات الموهبة منذ صغره، وكانت عائلته قد لاحظت تلك الموهبة التى كان من مظاهرها إنشاده للأهازيج الشعبية أثناء لهوه ولعبه مع جدته التركية، وحين كان يقص على جده القصص التاريخية كقصة أبى زيد الهلالى وقصة سيف بن ذى يزن، وحين كان يقرأ له قصائد الشعر التى كان يحفظها فى المدرسة.
كذلك لاحظ هذا النبوغ المبكر على إبراهيم أساتذته فى المدرسة، حيث كان يلقى منهم الكثير من التشجيع، كذلك نال دعم أخيه أحمد الذى لم يبخل عليه بخبرته فكان دائم التوجيه له، وقد كان إبراهيم وسط تلك العائلة محاطًا بكثير من الاهتمام والرعاية من قبل أفرادها، فضلًا عن الرعاية المدرسية صاحبة الأثر الكبير فى تنمية موهبته وإبرازها.
تلقى إبراهيم طوقان تعليمه الابتدائى فى المدرسة الرشيدية فى مدينة نابلس، وأمضى فيها أربع سنوات، حيث درس فيها منذ عام 1914م إلى عام 1918م، ثمّ انتقل إلى مدرسة المطران فى الكلية الإنجليزية فى القدس عام 1919م لإتمام تعليمه الثانوى، وفيها تَعرّف على أستاذه نخلة زريق الذى تتلمذ على يديه وتعلم منه حب اللغة العربية والشعر القديم، وقضى فى هذه المدرسة أربع سنوات قبل أن يلتحق بالجامعة الأمريكية فى بيروت فى عام 1923م، حيث مكث فيها ست سنوات درس خلالها الأدب ثمّ تخرج فيها عام 1929م.
ثمّ عاد ليُدرس اللغة العربية فى كلية النجاح فى نابلس لمدة عامٍ قبل أن يرجع إلى بيروت للعمل فى الجامعة الأمريكية فى قسم الأدب العربى لمدة سنتين، وقد كُرم فيها وأطلق عليه لقب «شاعر الجامعة»، ثمّ عاد إلى القدس ليُدرس فى المدرسة الرشيدية فى عام 1932م، غير أنّ المرض اشتد عليه فأجريت له عملية جراحية ناجحة ترك التدريس على أثرها، وعمل بعدها مديرًا فى مصلحة المياه، ثمّ مديرًا لأعمال والده التجارية، ثمّ انقطع فترة عن العمل وتفرغ لكتابة الشعر، ثمّ عمل فى إذاعة فلسطين مديرًا للبرامج العربية عام 1936م ولمدة أربع سنوات، وفى تلك الفترة تزوج من ساميا عبدالهادى فى عام 1937م وأنجبا طفلين هما جعفر وعريب، ثمّ ذهب مع عائلته إلى بغداد بعد انتهاء عمله فى الإذاعة ليعمل معلمًا فى الرستمية، لكن لم يكد يمضى شهران على إقامته فى العراق حتى اشتد عليه المرض مما حمله إلى العودة إلى نابلس.
كان للمرض دور فى حياة إبراهيم طوقان، حيث رافقه منذ ولادته، فقد عانى منه كثيرًا فكان دائم التردد على الأطباء والمستشفيات، اشتدّ المرض على إبراهيم إثر سفره إلى العراق ليعمل مدرسًا هناك، إذ ذهب معتقدًا أنّه سيعمل مدرسًا فى دار المعلمين فى بغداد، لكنّه فوجئ بتعيينه فى منطقة الرستمية وهى منطقة نائية تبعد عن بغداد عدة كيلومترات، وبعد شهرين من بدء عمله لم تحتمل صحته مشقة هذا العمل فتعرض إلى انتكاسة شديدة وتلقى فى بغداد علاجًا مؤقتًا، ثمّ عاد إلى نابلس وأدخل إلى المستشفى، لكنه لم يكد يقيم فيها بضعة أيامٍ حتى فارق الحياة فى الثانى من مايو مساء يوم الجمعة عام 1941م.
وهكذا نجد أن أرض الزيتون والبرتقال، أرض السلام أرض ولاده تطرح أدباء وشعراء لا يبخلون بحياتهم فداءً لها، قد يفارقون الحياة، ولكن تبقى أقلامهم تقاوم وتقاوم لتحقيق الحرية والسلام، فهذه هى فلسطين أرض المقاومة التى لن تمل كما قال «طوقان» سيظل شعبها يقاوم حتى «يرفع رايتها عالية»، وللحديث دائمًا بقية.