الخميس 2 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

«مولاى إنى ببابك قد بسطت يدى» النقشبندى 48 عاما علـى رحيــل قيثارة الإنشاد الدينى

«مولاى إنى ببابك قد بسطت يدى.. من لى ألوذ به إلاك يا سندى؟، أقوم بالليل والأسحار ساجية، أدعو وهمس دعائى، بالدموع ندى».. من منا لا تسمو مشاعره ويتم طرق أبواب قلبه دون استئذان، بمجرد سماع تلك الكلمات بصوت الشيخ سيد النقشبندى.



 ويحمل شهر فبراير وتحديدا يوم 14 منه (من عام 1976) ذكرى رحيل صاحب الحنجرة العظيمة، الذى رغم مرور تلك السنوات على وفاته فإنه لا يزال حاضرا بل ومتربعا على عرش الإنشاد الدينى، فهو صاحب عدد من الابتهالات الشهيرة مثل: «مولاى إنى ببابك، ورسولك المختار، وأغيب، ويا رب إن عظمت ذنوبى، والنفس تشكو».. وهو ما يتوجب علينا أن نذكر ونتذكر سيرته العطرة.

 

ولد النقشبندى يوم 7 يناير عام 1920 وجاء إلى هذه الدنيا، طفلا صغيرا، لم يكن كأى طفل ولد بتلك القرية من قبل، فكل الشواهد تؤكد أن قرية «دميرة» الصغيرة بمحافظة الدقهلية، سيكون لها صيت عظيم بمولده، لتُصبح موطن شيخ المداحين، وقيثارة الإنشاد الدينى، كما سيُحب أن يلقبه عموم الشارع المصرى، أقباطه قبل مسلميه.

ولأن الإنسان قد يحمل من اسمه نصيبًا، كان للنقشبندى حظٌّ من ذلك اللقب، فكلمة «نقشبندى»، كما فسرها العارفون بأمور اللغة العربية، تتكون من شقين، «نقش» و«بندى»، ومعناها فى اللغة العربية «القلب»، أى «نقش حب الله على القلب»، كما أن «النقش بند» باللغة الفارسية تعنى الرسام أو النقاش، والنقشبندى نسبة إلى فرقة من الصوفية يعرفون بالنقشبندية، ونسبتهم إلى شيخهم بهاء الدين نقشبند الذى توفى عام 791 هجرية.

لم يكن الشيخ سيد محمد النقشبندى مجرد مداح، أو صاحب مجموعة من التواشيح أضحت الأشهر فى تاريخ المدح الدينى، لكنه كان صاحب مدرسة متميزة فى عالم الابتهالات، جعلته أحد أشهر المنشدين والمبتهلين فى تاريخ الإنشاد الدينى، خاصة أنه يمتلك صوتًا رآه أكبر الموسيقيين أحد أقوى بل وأوسع الأصوات مساحة فى تاريخ التسجيلات.

ارتبط النقشبندى كثيرًا بشهر رمضان، على الأخص وقت الإفطار، فكان صوته القوى، والذى كان ينطلق من القلب قبل أن يخرج من الشفاه، يمس القلوب مهما اختلفت لغات المسلمين، لذلك قالوا عنه إنه صوت من السماء، ولكنه تحول إلى علامة رمضانية بارزة، دائمًا ما يقدم وجبة إيمانية رائعة من الابتهالات والتواشيح الدينية، ما جعله يؤسس مدرسة جديدة فى عالم الابتهالات لأول مرة.

كان لحياة النقشبندى المتنقلة دور مهم فى تكوين شخصيته فى عالم المديح والابتهالات، فقبل أن يتخطى الثامنة اضطر للانتقال مع أسرته إلى مدينة طهطا بمحافظة سوهاج، وهناك حفظ القرآن الكريم على يد الشيخ أحمد خليل، وكعادة أطفال ذلك الزمان، كان يتسلل بين الحين والآخر إلى حلقات الذكر والمدح، التى كان يعقدها أنصار ومريدو الطريقة النقشبندية، ولم يكتفْ بذلك، لكنه تردد أيضًا على بعض الموالد للاستماع إلى ابتهالات المشايخ فى موالد أبو الحجاج الأقصرى، وعبدالرحيم القناوى، وجلال الدين السيوطى، ما أهله لحفظ أشعار البوصيرى وابن الفارض وغيرهما من شعراء المتصوفة.

ذاعت شهرة النقشبندى وهو فى الثلاثين من عمره، ما جعله يستقر عام 1955 فى مدينة طنطا بمحافظة الغربية، ومنها انطلق إلى العالمية، فتلقى دعوات لإحياء حفلات الإنشاد الدينى فى المدن السورية، وذلك بدعوة من الرئيس السورى حافظ الأسد، كما زار الأردن وإيران واليمن وإندونيسيا والمغرب العربى ودول الخليج ومعظم الدول الإفريقية والآسيوية.

شكل عام 1966 نقطة فاصلة للشيخ النقشبندى، ففى ذلك العام التقى صدفة بالإذاعى الأشهر أحمد فراج، صاحب البرنامج الإذاعى الشهير «نور على نور»، ليسجل معه بعض الابتهالات الدينية، وذلك لبرنامج «فى رحاب الله»، لتتوالى البرامج الإذاعية فى التسجيل معه، على الأخص البرنامج الإذاعى «دعاء»، الذى كان يذاع عقب أذان المغرب، قبل أن يشترك فى تقديم حلقات برامج تليفزيونية، ليقدم من خلالها ابتهالات من ألحان كبار الموسيقيين، أمثال محمود الشريف وسيد مكاوى وبليغ حمدى وأحمد صدقى وحلمى أمين. «النقشبندى مثل النور الكريم الفريد الذى لم يصل إليه أحد».. بتلك العبارة الفريدة من نوعها وصف الطبيب والفيلسوف الأشهر، وصاحب «العلم والإيمان»، الدكتور مصطفى محمود، الشيخ سيد النقشبندى، فى برنامجه، ما يعنى أنه وبصوته العذب تمكن من أن يأسر العقول والقلوب، فقد كان صوته طبقًا لخبراء الصوتيات ذا ثمانى طبقات، أى أنه يقدم الجواب، وجواب الجواب، وجواب جواب الجواب، وأن صوته يتأرجح ما بين الميترو سوبرانو، والسوبرانو نفسه، ما أهله لدخول الإذاعة المصرية عام 1967، وترك للإذاعة ثروة من الأناشيد والابتهالات، إلى جانب بعض التلاوات القرآنية لدى السميعة.

«أشعر أننى سأموت اليوم، أوصيكم خيرًا بزوجتى وأولادى».. عبارة مثيرة للجدل وجدت فى جيبه عقب سقوطه ليلة 14 فبراير 1976، فعقب عودته من الإذاعة وتسجيله لبعض الابتهالات الدينية، سقط ميتًا، ليجدوا فى جيبه تلك الورقة التى تنبأت بوفاته، كما أنه منذ عشرين عاما قد تنبأ بوفاة والده، وبنفس الطريقة، حينما سقط الميكروفون فجأة من يده فى إحدى ليالى المدح عام 1955، صارخًا بكل الحرقة: آه يا ابوى، وفى الصباح يأتيه نبأ وفاة والده الشيخ محمد النقشبندى.

وبعد رحيله بثلاث سنوات كرمه الرئيس أنور السادات عام 1979، وذلك بمنحه وسام الدولة من الدرجة الأولى، كما كرمه الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك فى الاحتفال بليلة القدر عام 1989، بمنحه وسام الجمهورية من الدرجة الأولى، كما كرمته محافظة الغربية التى عاش فيها ودفن بها، حيث أطلقت اسمه على أكبر شوارع طنطا، والممتد من ميدان المحطة حتى ميدان الساعة.

ولكواليس الابتهال الأشهر «مولاى» قصة تستحق أن تروى فهى نتاج العلاقة بين الموسيقار بليغ حمدى، الذى طالما اعتبر كيوبيد الألحان الرومانسية بفعل أنغامه التى أخرجت أروع ما فى حناجر الفنانة الجزائرية وردة والسورية ميادة الحناوى وغيرهما من الرموز الفنية التى أخصبت وأرهفت المشاعر الجميلة، والشيخ المبتهل سيد النقشبندى الذى وضع الله عز وجل النور المبهر فى صوته أضعاف ما ترك لعينيه.. حيث جمعتهما علاقة مهنية على أروع ما تكون روح التكامل فى خدمة الإنسانية.

دى عام 1972 عندما كان السادات يحتفل بخطبة إحدى بناته فى القناطر الخيرية، وكان النقشبندى موجودًا فى الاحتفال، حيث كان له فقرة رئيسية فى الاحتفال الذى كان يحضره الملحن بليغ حمدى.

ويروى الإذاعى الراحل وجدى الحكيم عن هذه الواقعة قائلًا: إن السادات قال لبليغ حمدى: عاوز أسمعك مع النقشبندى، وكلف الحكيم بفتح استوديو الإذاعة لهما، وعندما سمع النقشبندى ذلك وافق ولكن محرجًا، وتحدث مع الحكيم بعدها قائلًا: ما ينفعش أنشد على ألحان بليغ الراقصة، حيث كان النقشبندى قد تعود على الابتهال بما يعرفه من المقامات الموسيقية دون أن يكون هناك ملحن، وكان فى اعتقاد الشيخ أن اللحن سيفسد حالة الخشوع التى تصاحب الابتهال، ولذلك كان رد الشيخ النقشبندى: على آخر الزمن يا وجدى هاغنى؟؟!!..فى إشارة إلى أن الابتهال الملحن يجعل من الأنشودة الدينية أغنية.

طلب الشيخ الجليل من الحكيم الاعتذار لبليغ، ولكن استطاع الحكيم أن يقنعه بأن يستمع إلى ألحان بليغ أولًا، واصطحبه إلى استوديو الإذاعة واتفق معه على أن يتركه مع بليغ لمدة نصف ساعة، وأن تكون بينهما إشارة يعرف منها الحكيم إن كانت ألحان بليغ أعجبت النقشبندى أم لا.

وأضاف الحكيم: «اتفقنا أن أدخل عليهما بعد نصف ساعة، فإذا وجدت النقشبندى خلع عمامته فإن هذا يعنى أنه أعجب بألحان بليغ وإن وجدته ما زال يرتديها فيعنى ذلك أنها لم تعجبه وأتعلل بأن هناك عطلًا فى الاستوديو لأنهى اللقاء ونفكر بعدها فى كيفية الاعتذار لبليغ، ويضحك وجدى الحكيم قائلًا: دخلت فإذا بالنقشبندى قد خلع العمامة والجبة والقفطان.. وقال لى: يا وجدى بليغ ده جن».

وفى هذا اللقاء، انتهى بليغ من تلحين أنشودة «مولاى إنى ببابك» التى كانت بداية التعاون بين بليغ والنقشبندى، أسفر بعد ذلك عن أعمال وابتهالات عديدة هى: أشرق المعصوم، أقول أمتى، أى سلوى وعزاء، أنغام الروح، رباه يا من أناجى، ربنا إنا جنودك، يارب أنا أمة، يا ليلة فى الدهر، ليلة القدر، دار الأرقم، إخوة الحق، أيها الساهر، ذكرى بدر.

وفى نفس هذا اللقاء الأول الذى نتج عنه تلحين أنشودة «مولاى»  لحن بليغ للنقشبندى 5 ابتهالات أخرى ليكون حصيلة هذا اللقاء 6 ابتهالات، من بين مجموعة الابتهالات التى قدمها للنقشبندى، وكان بليغ هو من اختار كلمات هذه الابتهالات بالاتفاق مع الشاعر عبدالفتاح مصطفى، ولم يتقاضَ بليغ والنقشبندى أجرًا عنها وأصبحت أنشودة «مولاى» علامة من علامات الإذاعة المصرية فى رمضان، وحتى بعد أن تراجع الإقبال على الإذاعة ظلت أنشودة «مولاى» باقية محققة المزيد من الشهرة والمعجبين من كل الأعمار.