الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
البلطجى الأمريكى تائه بين حرب غزة ونيران تكساس!

البلطجى الأمريكى تائه بين حرب غزة ونيران تكساس!

تبدو الإدارة الأمريكية سواء ديمقراطيين أو جمهوريين مثل بلطجى معتوه يعيش فى قصر فخم، لكن بعض جدرانه ضعفت، وبعض أعمدته تآكلت، وبدلًا من أن يعمل على صيانة القصر وتجديد هذه الجدران والأعمدة، ينزل إلى الميدان الواسع بالحى الذى يقع فيه القصر، يقطع الطريق ويشهر عضلاته ويدخل فى معارك واشتباكات للسيطرة على أهل الميدان، وأحيانا يشعل النيران فى بيوت بعيدة عن قصره، لأنها ترفض سطوته ولا تخضع لمطالبه!



هذا هو حال أمريكا منذ فترة ليست قصيرة، سواء فى حروبها الكثيرة خارج القارة الأمريكية ولن تكون غزة واليمن آخرها، أو فى التعامل مع مشكلات حادة داخل ولاياتها، ولن يكون رفض ولاية تكساس تنفيذ حكم المحكمة العليا وتهديها بالانفصال إلا عمودًا جديدا يتآكل ويكاد يسبب انهيار بعض جوانب القصر، خاصة أن 25 ولاية أخرى أعطت ظهرها للحكومة الفيدرالية، واصطفت إلى جوار تكساس، فى دهس قرار المحكمة ودفنه حيًا!

وقرار المحكمة العليا يأمر بأن تسمح سلطات الولاية لرجال الحكومة الفيدرالية بإزالة الأسلاك الشائكة التى نصبتها حكومة تكساس فى منتزه شيلبى بمدينة إيجل باس.

كان الحرس الوطنى بالولاية بأوامر من المحافظ جريج أبوت قد صادر المنتزه، البالغ مساحته 47.4 فدان على ضفاف نهر ريو جراندى الفاصل بين تكساس والمكسيك، وطَرَدَ حرس الحدود الفيدراليين، ومد على حدها النهرى هذه الأسلاك والحواجز، عائقا أمام تدفقات الهجرة غير الشرعية إلى الولاية، التى ترى حكومتها أن الحرس الفيدرالى غير قادر على منعها، بدليل أن أعداد هؤلاء المهاجرين زادت فى السنوات الأخيرة، وسقط منهم المئات قتلى فى رحلات التسلل الليلية!

باختصار أكثر من نصف أمريكا منقسم على النصف الآخر، بينما واشنطن مشغولة حتى النخاع بدعم إسرائيل فى حربها الإجرامية على غزة وتدبر لها الأسلحة والتمويل، وتشعل النيران فى روسيا وأوكرانيا وسوريا والعراق، وتدخل فى خلافات مع الصين وكوريا الشمالية وإيران وكوبا والإكوادور وبوليفيا والبرازيل وهندوراس.. إلخ.

 منتهى الانفصام السياسى فى الإدارة الأمريكية..

وكما لا تجد سبيلا مريحا إلى حل معضلة الحرب على غزة، لن يسهل عليها حل أزمتها أو حتى عبورها بأقل الخسائر، ويبدو أنها لم تنتبه بعد إلى مخاطرها وتداعياتها على الداخل، وتستعد للرد على مقتل وإصابة جنودها بطائرة مسيرة فى موقع على حدود الأردن، فالقانون هو «العمود الفقرى» لأى دولة سواء دولة موحدة أو دولة اتحادية، هو «اللحمة» التى تربط بين مفاصل وأجهزة الدولة لتتماسك معا بصلابة، وهو المعيار لضبط العلاقات مع مواطنيها وبين بعضهم بعضا، فإذا تفككت هذه اللحمة وتخلخل هذا العمود وضعف ذلك المعيار، فالبنيان مهدد بالانهيار الفورى، أو بعد سنوات قد تطول أو تقصر، حسب رد فعل المفاصل والأجهزة التى يربطها القانون ببعضها، ومدى تحمل الجدران التى تستند إلى العمود، وقدر الانفلات فى تصرفات الناس المرهونة بالمعيار، يعنى مسألة وقت، حتى إن الكتابات داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها تتحدث وتتساءل: هل أمريكا على أبواب حرب أهلية؟

ومع أن السؤال ليس جديدا ويحلق فوق رؤوس مفكرين وسياسيين وصحفيين منذ فترة طويلة، إلا أن هذه الأزمة دفعت به على خشبة المسرح العام وألقت كل الأضواء عليه، لأن الحكومة الفيدرالية أمام اختيارين أحلاهما شديد المرارة.

الأول: أن تنفذ قرار المحكمة بالقوة، كما ينص الدستور فى حالة رفض المدعى عليه التنفيذ، والحكومة الفيدرالية مسلحة وحكومة ولاية تكساس مسلحة أيضا وخلفها 25 ولاية فى ظهرها ومنها ولاية أوهايو التى أعلن حاكمها بأنه على استعداد أن يرسل الحرس الوطنى لأوهايو إلى ولاية إلى تكساس لمنع تنفيذ قرار المحكمة بالقوة!

وتحدى كبار رجال ولاية تكساس البيت الأبيض: نحن مستعدون للدفاع عن مصلحة مواطنينا، فإذا كانوا مسلحين فنحن أيضا مسلحون.

> باختصار.. هذه أجواء حرب أهلية..

الثانى: أن تتفاوض الحكومة الفيدرالية مع جريج أبوت حاكم تكساس، وتصل معه إلى حل وسط يرضى جميع الأطراف، فتهدأ نيران الأزمة لكنها تظل جمرة تحت الرماد، فهذا النوع من الأزمات فى «العمود الفقرى» لا تموت بالسكتة القلبية وتتواصل أعراضها المؤلمة عشرات السنين.

أو لا يصل الجانبان إلى الحل الوسط وتستوعب الإدارة الأمريكية مخاطر التنفيذ بالقوة المسلحة وتتباطأ فى تنفيذ الحكم بحجج ومبررات تبدو لها حجية، حتى تهرب من المواجهة المباشرة مع تكساس وحلفائها، فيصبح هذا الحكم المعلق على جدران البيت الأبيض «سابقة قانونية» قابلة للتكرار من سكان القصر الفخم، أقصد من ولايات أخرى حسب مصالحها التى يحددها أهلها وحكامها، ولتخبط الحكومة الفيدرالية رأسها فى أكبر صخرة فى جبال سييرا نيفادا، وهى الصخور الجبلية الأشد قسوة فى القارة الأمريكية كلها!

على درب موازٍ ترتفع أصوات عالية تطالب بانفصال تكساس عن الحكومة الفيدرالية وتريح نفسها من هذه المتاعب، فالولاية مؤهلة أن تؤسس جمهورية مستقلة، فعدد سكانها يتجاوز 30 مليون نسمة، ويعد اقتصادها التاسع على مستوى العالم، وقد سبق لها أن أسست هذه الجمهورية فى القرن التاسع عشر، تحديدا فى سنة 1836 خروجا من قبضة المكسيك، ثم انضمت إلى الولايات المتحدة الأمريكية فى 1845، لكنها انفصلت مدة لم تطل سوى بضعة أسابيع فى أوائل عام 1861.

ليست تكساس فقط هى التى تعلو فيها نغمة الانفصال والاستقلال، فأكثر من ولاية تعزف على نفس الأوتار، أهمها ولاية كليفورنيا، بتحريض من جماعة «دعاة استقلال كاليفورنيا»، وكتبوا فعلا وثيقة مشروع الاستقلال، وبرروا دعوتهم فى منشور وزعوه بين الناس قبل سبع سنوات، بأن الولاية هى سادس اقتصاد فى العالم، وأقوى من اقتصاد فرنسا، وعدد سكانها يقترب من 40 مليون نسمة، ويمكن أن تُقَارَن بدول مهمة وتنافسها، لا أن تكون مجرد ولاية مع 49 ولاية أخرى تتشكل منها أمريكا، (أن استمرارنا مجرد ولاية ويعنى أن كاليفورنيا تقدم دعما لبقية الولايات، مما يسبب ضررًا لنا ولأطفالنا)، وقالوا: «بالرغم من أن عمل الخير جزء من ثقافتنا، لكن البنية التحتية لكاليفورنيا متهالكة، ومدارسنا تقبع فى المراكز الأسوأ مقارنة بولايات أخرى، ولدينا أكبر عدد من المشردين بلا مأوى، أو ضرورات الحياة، ومازال معدل الفقر مرتفعا، وعدم المساوة الاقتصادية يتسع، الآن ليس وقت عمل الخير، أن استفتاء الاستقلال هدفه أن تأخذ كاليفورنيا مكانتها بين دول العالم، أن بقاء كاليفورنيا مجرد ولاية لن يكون فى صالحنا أبدا سياسيا وأمنيا واقتصاديا»، وذكروا تسعة أسباب، أهمها أن الحكومة الفيدرالية تنفق على ترسانتها الحربية أكثر من مجموع الدول التالية لها فى الترتيب، وتقاتل أيضا فى حروب تعمل على إدامة الإرهاب وليس على تقليصه، وأن كاليفورنيا تدعم الولايات الأخرى بعشرات المليارات من الدولارات كل سنة مالية، فيضطرون إلى رفع الرسوم والضرائب.. إلخ.

وفعلا حاولوا دعاة الاستقلال إجبار حكومة الولاية على إجراء استفتاء شعبى على الوثيقة ولم ينجحوا!

لكن كاليفورنيا الرسمية لم تدعم موقف تكساس.

عموما مخاوف الانفصالات محلقة فوق الرؤوس منذ زمن طويل، مثلا فى سنة 1981، أصدر الصحفى جويل جارو، رئيس تحرير واشنطن جلوب السابق كتابه «الأمم التسع لأمريكا الشمالية»، قال فيه إن أمريكا يمكن أن تنقسم إلى تسع أمم منفصلة بسبب اختلافات كبيرة بين ولاياتها فى الاقتصاد والثقافة، وحين صدر الكتاب اعتبره البعض نوعا من الشطط السياسى، الذى أصاب الكاتب، فلم يفرق بين الخيال والواقع: هل يعقل لمجتمع بهذه الوفرة المادية والقوة العسكرية والاقتصادية أن ينقسم؟

لكن كولن وودارد أعاد الكرة فى عام 2011 بكتاب جديد: «الأمم الأمريكية..تاريخ الأقاليم الثقافية الإحدى عشر المتنافسة فى أمريكا الشمالية»، وقال فى مقدمته إن الاختلافات الاجتماعية الحادة متجذرة فى الواقع الأمريكى إلى درجة أن الولايات المتحدة هى بالفعل 11 أمة متوافقة من ثقافات متباينة جدا، كل منها لها قيم ووجهات نظر مختلفة، نعم توجد ثقافات متعددة، لا تشكل مؤسسة واحدة، وظلت مجموعات منفصلة أشبه بمستعمرات لها أهداف ومثل عليا مختلفة، وأحفاد مؤسسى هذه المستعمرات لا يستوعبون ثقافة أمريكية واحدة، وهم امتداد لأجدادهم، وضرب وودارد مثلا بالجزء الجنوبى من الولايات المتحدة، الجزء الذى تشكل فى نيران العبودية ومعاركها، «مازال يقاوم إلى اليوم أى جهود لزيادة السطوة الفيدرالية»..

وهذا يفسر لنا أسباب تأييد ولايات غالبية ولايات الجنوب الأمريكى لموقف تكساس ضد الحكومة الفيدرالية الآن.

فعلا إدارة مصابة بالشيزوفرانيا، تشعل النار فى العالم ولا تطفئ النار فى قصرها!