الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

روزاليوسف» تلتقى بصحفية فلسطينية تروى حكايتها الإنسانية» زينب سليمان: فقدت 26 شخصًا من عائلتى تحت القصف فى يوم واحد

«أنتِ  عارفة إن الباقى من كل عيلتى اللى همّا 3 أطفال موجودين تحت الأنقاض بيستنوا دورهم على الدفاع المدنى والجرافات».. بتلك الكلمات بدأت زينب سليمان الصحفية الفلسطينية الشابة التى تُقيم فى القاهرة مع أسرتها بعيدًا عن باقى عائلتها فى قطاع غزة حديثها لـ«روزاليوسف» بوجه صامد وعينين مغمورتين بالدموع وصوت تخنقه الأوجاع لتروى قصتها؛ حيث فقدت 26 شخصًا من عائلتها فى ليلة واحدة فى قصف وحشى على قطاع غزة، لتبدأ صفحة جديدة من حياتها وتتحول من الفتاة الصغيرة لأخرى تحمل قضية وتتوعد بالنصر..  نروى لكم فى حوار مع «زينب» تفاصيل ما حدث لأسرتها فى قطاع غزة فى السطور التالية..



 

جاءت زينب للقاهرة منذ 3 سنوات بعد أن أنهت دراسة اللغة الإنجليزية فى غزة وقررت أن تواصل طريق خالتها الراحلة بامتهان الإعلام فى القاهرة. وانفصلت أسرة زينب عن باقى العائلة فى القطاع، وكانت شبكات الإنترنت هى الوسيلة الأولى للتواصل فيما بينهم حتى بداية الحرب على غزة فى 7 من أكتوبر. 

ووفقًا لجهاز الإحصاء الفلسطينى تبلغ أعداد الفلسطينيين فى جميع أماكن تواجدهم حول العالم نحو 14.3 مليون نسمة.

يعيش فى الداخل نحو 5.4 مليون شخص، يقيم أكثر من ثلثهم فى قطاع غزة بينما لا يزال هناك نحو 7 ملايين فلسطينى يعيشون حول العالم، ويحلمون بالعودة إلى وطنهم. منهم ما يقارب 6.4 مليون فلسطينى فى الدول العربية ونحو 761 ألفًا فى الدول الأجنبية.

وخلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة وما فرضته من حِصار على أهالى القطاع بعد قطع المرافق الحيوية عنهم من كهرباء وإنترنت أصبحت هناك صعوبة فى التواصل مع مَن هم بالداخل، وفقَد الكثير من الأهالى وسيلة التواصل مع أقاربهم داخل القطاع لا يعلمون هل هم أحياء أَمْ شهداء.

وتستطرد «زينب» حديثها لـ«روزاليوسف» قائلة: «انقطع اتصالنا بالعائلة فى غزة منذ يوم 7 أكتوبر بسبب انقطاع شبكات الإنترنت حتى مساء يوم 21 أكتوبر، وقبل القصف ببضع ساعات عاد الاتصال مرّة أخرى واستطعنا التواصل مع العائلة هناك والاطمئنان عليهم وقضينا بعض الوقت فى اللعب والتقاط الصور. وفى صباح يوم 22 من أكتوبر علمنا بقصف بيت العائلة فى تمام الساعة الثالثة والنصف صباحًا، وقضاء جميع أفراد العائلة بينما هم نيام. وكأن إشارات الإنترنت عادت للحظات فقط لنقوم بتوديع أحدنا للآخر. 

 قصف بيت العائلة

واصلت «زينب» حديثها بأنفاس متقطعة وعيون حزينة: «عرفت بخبر استشهاد عائلتى من التلفاز. فبينما كنت أستعد للذهاب للعمل وأثناء مرورنا أمام التلفاز الذى كان مفتوحًا على إحدى القنوات الإخبارية قرأت خبر قصف منزل فى منطقة الزوايدة. لم أتوقع أن يكون بيت عائلتى. ثم قِيل أنه تم قصف بيت «آل العاروقى»، عندها ألمّت بنا صدمة كبيرة متسائلين «إيه ده.. دول خوالى!؟» ولكن لم نصدّق آذاننا حتى بدأنا بالبحث فى صور الأكفان ودققنا أعيننا فيها وعرفنا من الأسماء المدونة عليها أنهم عائلتنا. كنا نركز أعيننا فى شاشة التلفاز لكى نعرف كم شهيدًا سقط من أفراد العائلة قائلين: «لعل وعسى يكون هناك ناجون»، فهناك 30 شخصًا فى البيت. وظلت أعيننا مُعَلقة بشاشات التلفاز والهواتف حتى رأينا فيديو يظهر فيه ابن خالى وهو فى حالة صدمة وعرفنا أنه على قيد الحياة؛ لكن بالنظر لعدم وجود اتصال على غزة لم يكن فى إمكاننا أن نعرف مَن لا يزال على قيد الحياة من العائلة».

وختمت «زينب» حديثها قائلة: «يوم القصف كان من المفترض أن أتحدّث فى إحدى القنوات الإخبارية عمّا يحدث فى أطفال غزة، وفى غمضة عين أصبحت أنا أيقونة الحدث».

 صاروخان على قِسْم الأطفال

علمت أنه تم استهداف بيت عيلتنا بصاروخين سقطا على القِسْم الأيمن من البيت، وهو القِسْم الخاص بالأطفال؛ حيث كان بالبيت فى ذلك الوقت 30 شخصًا بينهم 20 طفلاً و6 نساء و4 رجال أحدهم لا يرى والآخر لديه إعاقة. عندما تم القصف كان الجميع فى أسرتهم يغطون فى النوم حتى سقطت الصواريخ وهدمت معها أسقف المنزل الثلاثة على مَن بالداخل ليتم تدميرها تمامًا ويصبح الجميع تحت الأرض ومَن كان بعيدًا عن القِسْم الأيمن ألقاه الانفجار بعيدًا فى بيوت الجيران. ولم ينجُ من القصف سوى 3 أطفال وأمّهم. 

 عائلة من الشهداء

لم نعلم من البداية مَن لا يزال على قيد الحياة ومَن فارقناه؛ وإنما كان يأتينا الخبر على دفعات، فلم يكن هناك قوات دفاع مدنى قادرة على الدخول نظرًا لقصف الحى بأكمله؛ وإنما تحوّل كل مَن خرج من القصف على قيد الحياة إلى قوات دفاع مدنى، وبدأوا يستخرجون بأيديهم من تحت الأنقاض جثث الضحايا ويبحثون عمّن لا يزال على قيد الحياة. كانوا يستخرجون يوميًا 5 جثث، وكانوا يتعرّفون على الشخص من لون شعره نظرًا لتفحمه أو تحوله لأشلاء. وبالنظر لصعوبة الإمساك بالجثث التى كانت تذوب بالأيدى كان يتم نقلهم فى بطاطين النوم. كان أول مَن قاموا بإخراجه خالى عيسى الذى انشطر جسمه لنصفين من الصاروخ. كنا نتواصل يوميًا مع أحد الأطباء فى المشفى ونرسل رسالة عبر واتساب فى انتظار الرد لأجد بعد بضعة أيام رسالة واحدة أمامى فلان استشهد. تصاعد العدد يوميًا حتى وصل إلى 26 شخصًا من بينهم 4 أشخاص لا يزالون مفقودين تحت الأنقاض لا نعلم هل هم على قيد الحياة أَمْ ماتوا، ورغم أننا اعتبرناهم فى عداد الشهداء؛ فإنه لا يزال لدينا أمل أن يكون هناك أحياء بينهم لأن هناك طفلة أخرجوها بعد أسبوع على قيد الحياة.

وتُشير «زينب» إلى أنهم أصبحوا عائلة من الشهداء قائلة: «جدّى لأمّى أيضًا شهيد، استشهد فى لبنان قبل عام 1948 وكان اسمه هو آخر ما تبقى من بيت العيلة فى اللوحة المعلقة على الدار من الخارج مكتوب عليها «أبناء الشهيد حماد العاروقى». وبحسب وزارة الصحة بقطاع غزة مُحيت عشرات العائلات بالكامل من السجل المدنى جراء القصف الإسرائيلى.

 «اسمها مِسك»

وتستطرد «زينب» فى حديثها عن أصغر شهيدة فى العائلة قالت: «كان من بين الشهداء طفلة رضيعة تبلغ من العمر 7 أشهر وتدعى مِسك، اندهش لوفاتها الجميع، فمن المفترض أن تكون فى حضن والدتها؛ إلا أنها تم العثور عليها فوق الركام بالأعلى فيما كانت والدتها تحت الأنقاض. عندما تم العثور عليها كانت مِسك نظيفة تمامًا لا يوجد بها أى خدش ظاهر، لكن بالنظر لعدم وجود تجهيزات طبية لم يكتشف أحد وجود نزيف داخلى لديها، وماتت مِسك بعد ساعتين من إنقاذها. وكأن لها نصيبًا من اسمها».

 استهداف المدنيين والأطفال

وفى إشارة إلى القصف الإسرائيلى الغاشم على الشعب الفلسطينى والتطرف فى إبادة المدنيين العُزّل تقول زينب: «بيت عيلتنا يقع فى حى الزوايدة فى المنطقة الوسطى بفلسطين، وهى كما هو معروف عنها أنها منطقة آمنة لا يطالها طنين الحرب؛ إلا أن القصف الإسرائيلى طالها وسالت الدماء وانمحت عائلات برمتها من على ظهر البسيطة.. كانت عائلتى منغلقة على ذاتها ومُسالمة ولم يكن لها أى نشاط يتعلق بالمقاومة، ولم تكن تنخرط فى المشاكل الخارجية، كنا نفعل كل شىء بداخل البيت فلم نكن نُشكل خطرًا ولو 1 % ولم يكن فى عائلتى أى عناصر مقاومة، فبأى سبب تم القصف؟! بعد ضرب بيت عيلتنا اقتنع الجميع أن اليهود يضربون المدنيين لأنهم يعرفون بيت العروقى جيدًا وكيف أن عائلتنا مسالمة. وعندئذٍ بدأ الجميع حولنا فى إخلاء منازلهم والهرب خوفًا من القصف والإبادة، فعائلتنا معروفة أن جميع أفرادها أطفال. ولم يتوقف الحزن عند هذا الحد فبَعد يومين من استشهاد عائلة أمّى كاملة استشهد ابن عمتى وزوجته وأبناؤه فى قصف آخر فى منطقة جباليا».

وتؤكد «زينب» على استهداف الأطفال قائلة: «أخبرتنى صديقتى أن أسرتها كانت قد جمعت أطفال العائلة فى غرفة بمفردهم ليلعبوا فيها ليفصلوهم عن الجو الخارجى فيما جلست النساء بالخارج، تم قصف الغرفة بمن فيها 15 طفلاً قضوا جميعًا وظلت النساء فقط على قيد الحياة».

 الاتصالات تقتل

توضح «زينب» أن الاتصالات الخارجية تمثل خطرًا على الأهالى بالداخل؛ حيث يتم التقاط الإشارات واستهدافهم قائلة: «أى مكان فيه اتصالات مكثفة يعرف الإسرائيليون أن به أشخاصًا ويقومون بضربه؛ ولذلك يقوم الأشخاص بإغلاق الهواتف».

وتابعت قائلة: ناس عندنا فى المنطقة الوسطى أبلغونا من فضلكم لا تتصلوا بنا كثيرًا لأن الإسرائيليين يلتقطون الإشارات ويضربوننا، وتمّت الإشارة إليها فى الأخبار.

وعلى هذا الوضع نحن لا نستطيع الاطمئنان على مَن هم هناك ولا نستطيع التواصل، يقتصر الأمر على «ماسدج» يقولون فيها :«احنا عايشين» فقط.

 وسيلة التواصل الوحيدة

وفى إشارة إلى وسيلة التواصل الوحيدة لديهم علقت زينب قائلة: «بعد القصف وجدوا هاتف خالى رحمه الله سليمًا تمامًا وهو الهاتف الذى نتواصل عن طريقه، وهو ما تلقينا عليه الاتصالات بعد القصف وبسببه اعتقدنا أن خالى لا يزال على قيد الحياة، وعندما رن الهاتف وظهر اسمه على الشاشة «أحمد زايد» أصابتنا الدهشة والصدمة، فلقد تم إخبارنا أنه استشهد، وبعد الاتصال الخامس جريت على أمّى لأخبرها: «الحقى خالو أحمد بيرن عليّا» لأجده ابن خالى شكرى. شعرت عندها أننى وصلت حد السماء وسقطت على الأرض فجأة».

 قسوة الحرب

وعبّرت «زينب» عن مدى قسوة الحرب هذه المرّة قائلة: «عشت أربع حروب طويلة فى غزة كانت تستمر لمدة أسبوع أو أسبوعين ولم أكن خائفة ولا قلقة، وكنا نجلس تحت السلم عندها لكى نتفادى الضرب يسمونها المنطقة الأمان، فلو تم قصفنا إمّا نخرج نجرى سويًا أو نستشهد جميعنا سويًا، لكن هذه المرّة الوضع صعب جدًا عليّ، فأنا هنا بعيدة لا أعرف ما يدور أرى فقط شهداء».

الموقف الأكثر تأثيرًا

أكثر ما كان مؤثرًا لى هو موت أخوالى وتحديدًا خالى عيسى. فقبل الحرب بشهر ذهبت أمّى وأخوتى للقطاع، لكننى لم أذهب معهم وقبل بداية الحرب بـ3 أيام جاء خالى عيسى لزيارتى وهى المرّة الأولى له خارج القطاع. وقضى معنا ثلاثة أيام والتقط معى الصور. وبدأت الحرب فى اليوم الرابع ويومها قرر خالى العودة لغزة قائلًا: «سأذهب لكى أستشهد مع عائلتى»، ورغم أننا نستغرق 3 أيام على الطريق فإن رحلته لم تستغرق سوى يوم واحد، وهو الوحيد الذى أخذ المصاب الكبير.

 لن نشعر بالصدمة حتى انتهاء الحرب

وتواصل زينب حديثها قائلة: «نحن حتى الآن لا نشعر بذهابهم ولن نشعر بذلك حتى تنتهى الحرب؛ لأنه كما تعلمون ليس هناك اتصالات لانقطاع الإنترنت ونحن كنا معتادين على التواصل معهم عبر «الفيديو كول» 24 ساعة، وكنا نقوم بتصوير تفاصيل يومنا العادية فى فيديوهات أصبحت الآن ذكرى تشاهدها أمّى على الهاتف بعد أن يذهب المُعزّون من بيتنا مساءً وتغرق فى البكاء».

 حتمًا سنعود

«أنا كزينب قبل ما يحدث كنت شخصية مسالمة جدًا؛ لكن ما حدث قام بتغييرى فى غمضة عين. فأنا سأكمل مسيرة خالتى فى الإعلام أولاد خالاتى وأخوالى ذهبوا دون أدنى حق ولن أصمت عن القاتل. أنا سجلت 30 حلقة عن القضية الفلسطينية قمت بتصويرها قبل الأحداث معى على الهاتف، وسأقوم بنشرها ليعرف العالم حقيقة قضيتنا». 

واستطردت زينب حديثها قائلة: «أنا قلتلهم على الفيس ديروا بالكم من الجيل اللى جاى، بيكون أصعب من اللى راح، حتى لو قتلوهم كلهم وتركوا واحد. هذا الواحد والله ليدافع لآخر نفس. شوفى نظرات الأطفال وهم يودّعون أمهاتهم ستعرفين أنهم لن يتركوا أرضهم». وختمت زينب حديثها قائلة: «بس تنتهى الحرب أنا كده كده هروح على غزة مع أخويا وأمّى، هروح أساند ولاد خالى وأعيدلهم الحياة من أول وجديد».

 أطالب بهدنة

أريد أن أوصّل للناس أن حياتنا فى فلسطين طوال الوقت معرضّة للخطر، وأى شخص منا يمكن أن يستشهد بمجرد خروجه من البيت. وفى الوقت الحالى أرى أن شعبى يحتاج لهدنة ووقف لإطلاق النار على الأقل لكى يقوم كل شخص بدفن أحبّته. ومصر كان لها دور دائمًا فى الهدنة فى الحروب بفلسطين.

 

 شتاء فلسطين وعمليات التهجير

وختمت زينب حديثها قائلة: «فلسطين فى ذلك الوقت من السَّنة شديدة البرودة؛ لأن الشتاء يبدأ هناك من شهر سبتمبر، وهو ما جعل أمّى تفتح بيتنا للأغراب ليسكنوا فيه، فما قيمة الأشياء مقابل حياة إنسان. أصبح يسكن فى كل بيت هناك الآن ما يزيد على 150 شخصًا لا نعرفهم. بعد تهدُّم البيوت وبعد عمليات التهجير التى تحدث لأهل الشمال أصبحنا فى حالة يُرثى لها خوفًا على ما تبقى من أقاربنا، فلا وسيلة اتصال ولا اطمئنان على الأرواح.