مصر أولا.. تأخر كثيرًا.. تكريم فنى مستحق فاروق فلوكس.. 60 سنة من الفن والإبداع!

دائمًا، ما أجد صعوبة وحذرًا شديدًا فى الكتابة عن الفن والإبداع، ليس فقط لأنى لا أصنف ضمن جماعة النقاد، بل لأنى أعتقد أن الفن والإبداع حالة شخصية جدًا.. لا يمكن الحكم عليها ببساطة وسهولة من وجهة نظر محدودة أو بمجرد النقد سواء كان سلبيًا أو إيجابيًا، فالإبداع الحقيقى لا يمكن التعامل معه بالاستخفاف أو التهاون والاستهتار الذى ألحظه هذه الأيام من نقاد يعتمدون منهج اختزال الأعمال الإبداعية، ويستهينون بها، وينتقدونها بقسوة لدرجة أنهم ينفون عنها صفة الإبداع. ومع تجاهل أن المبدعين فى النهاية أقلية حالمة للإنسانية والمستقبل.

اسمه الحقيقى غير المعروف هو «فاروق توفيق صالح»، واسمه الفنى «فاروق فلوكس». ويعود هذا الاسم حسبما صرح لأحد البرامج إلى موقف حدث له بأحد معسكرات جامعة القاهرة حيث أطلق عليه أحد زملائه بهزار «فلوكس».. فاشتهر بها إلى يومنا هذا. وهى تعنى النبات الذى يحيا فى المياه الراكدة حسب شرح الشاعر أحمد رامي.

بدايات..

60 سنة من الفن والإبداع.. جعلته صاحب بصمة فنية مميزة لمئات من الأدوار والشخصيات على شاشة السينما والتليفزيون وعلى خشبة المسرح. ولد أمام القصر الملكى بحى عابدين فى 10 فبراير 1937 لأب تعود جذوره إلى محافظة المنيا بصعيد مصر، كما تعود جذور والدته إلى تركيا.

كانت أولى محاولات التحاقه بفرقة التمثيل فى مدرسة الإبراهيمية، والتى باءت بالفشل بسبب قصر طوله ونحافة جسمه. ولكن الحلم يراوده، والذى تحقق بعد التحاقه بكلية الهندسة سنة 1956، حيث استطاع الانضمام لفرقة التمثيل بالكلية. كما قام بدور وطنى مبكر حينما التحق بالفدائيين بسبب العدوان الثلاثى على مصر. 

شهدت حياته زخمًا كبيرًا بداية من اهتمامه بهندسة الميكانيكا. ثم دراسته المحاماة، وحصوله على ليسانس حقوق بجانب بكالوريوس الهندسة. وشارك بتكليف من الرئيس جمال عبدالناصر للعمل فى بناء السد العالي.

حكاية الفن..

تاريخ اكتشافه الفنى يحمل العديد من المفاجآت ومن الشخصيات الشهيرة. اكتشفه الفنان أبوبكر عزت، واختاره لفقرة التمثيل الصامت لطالب يذاكر ليلة الامتحان، والتى نجح فيها ببراعة، وكانت بداية انطلاقه الفنى. ونجاحه جعل أبوبكر عزت يوجهه إلى رعاية الشباب بجامعة القاهرة التى كان يشرف عليها الفنان فؤاد المهندس. وفى طريقه الجامعى اقترب من العديد من الشخصيات، منهم: د.عبدالعزيز حجازى ورجائى عطية ويوسف الشريف.

من أهم المفارقات فى بداية مسيرته الفنية أن ذهب إليه الفنان سمير غانم والفنان جورج سيدهم ليكون العضو الثالث معهما فى ثلاثى أضواء المسرح، ولكنه اعتذر ليستكمل دراسته بعد رسوبه قبل ضياع فرصته الأخيرة للنجاح، ورشح بدلاً منه الفنان الضيف أحمد حيث حققوا واحدة من أكبر نجاحات الفرق الفنية.   

إسهامات فكرية أيضًا..

فاروق فلوكس ليس مجرد فنان متميز لا نحتاج إلى سرد الأفلام أو المسلسلات أو المسرحيات التى شارك فيها لأنها متعددة، ويتذكر غالبيتنا أدوارًا كثيرة منها، ولكن أيضًا له إسهامات فى الترجمة والتأليف. وعلى سبيل المثال لا الحصر: ترجم مسرحية «وعود ووعود» للكاتب المسرحى الأمريكى نيل سيمون، ومسرحية «منحنى خطر» للكاتب المسرحى الإنجليزى جون بوينتون بريستلى، ومسرحية «ليه مش الليلة ديه» لستانفورد ديكنز. كما قام بتأليف مسلسل «نورا وهزاز فى بلاد الإزاز» للأطفال. وكتب العديد من السهرات البوليسية التليفزيونية على غرار: «الرنين»، و«الورطة»، و«الزيارة». وكتب مسرحية «الخلبوص»، ومسرحية «عيد ميلاد عمو فؤاد». وكتب مسلسلًا إذاعيًا «حتى اللحظة الأخيرة». ورغم كل ما سبق من إبداع.. ظل يعتز بالمسرح أولًا وأخيرًا، وكان يرى فيه معنى الحياة.

حياته ببساطة..

أسعدنى كثيرًا صدور كتاب «الزمن وأنا.. مذكرات فاروق فلوكس بين الهندسة والفن والحياة»، والذى يرويها حسن الزوام.. لما تتضمنه من رصد لملامح حياة الفنان القدير فاروق فلوكس. وإذا كان العنوان الرئيسى يمثل بعدًا فلسفيًا لحياة فاروق فلوكس الذى عاصر نهايات النظام الملكى والتحول إلى النظام الجمهورى بأزمنته المتعددة سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًًا وفنيًا، فهو يمثل أيضًا العديد من الحكايات التى ربطته بجيل عمالقة الفن المصرى، والذى جاء ذكر أغلبيتهم فى سياق حكاياته.

يمثل الكتاب العديد من الحكايات المشوقة واللطيفة لتسجيل ما يقرب من 50 ساعة كاملة مع فاروق فلوكس، منها ما يحمل جوانب شخصية لحياته وتكوينه الأسرى، وجوانب فنية لبداياته وعلاقة الزمالة مع فنانين ومخرجين متميزين، وجوانب إبداعية كمهندس ومؤلف لأول وأجمل قاموس متخصص مصور بالألوان لتعليم الحروف الإنجليزية للأطفال. والذى ظل يجمع كلماته وصوره لمدة 8 سنوات، ثم نشرته له المؤسسة العربية الحديثة التى تنشر سلاح التلميذ.

أشيد هنا بحرص الفنان القدير فاروق فلوكس على الحديث عن نشأته باعتبارها أحد المداخل للوصول إلى مسيرته كفنان. وفى الوقت نفسه، حافظ تمامًا على أسرته الصغيرة سواء زوجته أو أبناؤه وأحفاده من إقحامهم فى حكايات الكتاب، بل لم يتضمن ألبوم الصور النادرة بالكتاب سوى صورة واحدة لهم قديمة وهم أطفال. وهو ما يعنى حرصه على خصوصية أسرته رغم أن ابنته «يسر» مخرجة معروفة، وابنه «أحمد» ممثل مشهور.

لا أتفق مع مقولة أن المذكرات الشخصية والسير الذاتية هى علم من فروع علم التأريخ وكتابة التاريخ.. حتى لا نضع على كاهل كتابها ما لا يحتمل من قواعد كتابة التاريخ بأحداثه وشخصياته، ولا نضعهم تحت تقييم المؤرخين حسب مبادئهم العلمية والمنهجية.

يكفى أن تكون هذه المذكرات الشخصية والسير الذاتية مكتوبة من وجهة نظر أصحابها حسبما كان دورهم فى سياق سياسى وتاريخى واجتماعى ومجتمعى محدد دون تشويه طالما استندت لحقائق ووثائق دقيقة. ويكفى أن نتعامل معها باعتبارها إبداع أصحابها فى رد الجميل للمجتمع الذى سمح بتميزهم بكتابة الحكايات والتفاصيل التى غالبًا ما يهملها التاريخ وكاتبيه. 

كلمات من نور..

من أكثر الأفكار التى توقفت عندها فى هذا الكتاب القيم الذى يستحق الاقتناء والقراءة.. ما ذكره فاروق فلوكس من كلمات قيمة تعبر عن القيم التى حكمت مسيرة هذا الفنان القدير. مثل:

- عشت زمنًا.. كان الفن موهبة فقط.

- كنت الهاوى الذى حولته هوايته التى عشقها إلى شخص مشهور.

- عشت مع الفن ستين عامًا.. حب وشقاء وعذاب وفرحة ونجاح وخيبة أمل وصدمات.

- ماذا كنت أريد أكثر من ذلك؟

وقال عنه المخرج إسماعيل عبدالحافظ: فلوكس يؤدى الشخصية ويضيف لها. 

نقطة ومن أول السطر..

لا يحمل كتاب «الزمن وأنا.. مذكرات فاروق فلوكس بين الهندسة والفن والحياة» مجرد ملامح فاروق فلوكس الفنية والإبداعية، ولكنه أيضاً يحمل سيرة وطنية من خلال خلفية السياق السياسى والاجتماعى لمصر، والذى أسهم فى تشكيل صورة فاروق فلوكس الفنية. وهو يمثل رصدًا لمسيرة فنية وإنسانية من طراز استثنائى.. للصراع بين الزمن والحياة.

مسيرة حياة فاروق فلوكس تجاوزت 87 عامًا.. منها 60 سنة تقريبًا فنًا وإبداعًا. وربما يكون آن الأوان لتكريمه الذى هو فى الحقيقة تكريم للفن المصرى العظيم. 

تكريم فاروق فلوكس وطنيًا هو أمر مستحق.. أتمنى تداركه من الدولة المصرية.