الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
هيا بنا نحلم ونعمل.. ونتألم أيضًا!

هيا بنا نحلم ونعمل.. ونتألم أيضًا!

 لى عادة قديمة، وهى قراءة وشوش البشر وأعمدة الشوارع وإسفلت الطريق، وكان يغمرنى التفاؤل ويشد خطوتى إلى الأمام حين يتحسس نظرى معنى «الحلم» فى الوجوه وهى واقفة على محطات الأتوبيس أو جالسة داخل قطار، أو عابرة إشارة مرور أو منكفئة على مكتب، أو مستغرقة فى عمل، أو لاهية على مقهى، أو مشترية فى سوق أو منهمكة فى بناء، أو منفعلة فى حوار، أو مستمتعة فى رحلة، أو سابحة فى بحر، أو ساهرة فى قعدة سمر!



كان الحلم المنتشى على الوجوه بشكل أو بآخر يتسلل إلى عقلى ويزرع فيه نبوءة بأن غد المصريين سيكون أفضل مائة مرة من حاضرهم، وأن أحفادنا تنتظرهم حياة أكثر أملًا من التى عشناها.. فما هو أجمل من أن نضيف للحياة من عملنا وأحلامنا ما يجعلها أكثر جمالًا وخيرًا وعدلًا؟.

والجمال والخير والعدل كانت وما زالت أهم القيم الدافعة إلى تطور المعارف الإنسانية وأساليب الحياة على كوكب الأرض، وكان الحلم هو جسر البشرية من واقع لا يرضون عنه إلى واقع جديد يسعون أحسن أحوالًا!

ولو راجعنا تاريخ الحضارات الإنسانية من مصر القديمة إلى الصين إلى اليونان إلى روما إلى الجزيرة العربية إلى فارس إلى فلورنسا فلندن فواشنطن.. سنجد أن الشعوب التى لا تحلم تفقد بوصلة الطريق إلى حياة أفضل، وتتخبط فى الدروب والتجارب والمحاولات ولا تعثر على مفتاح التحديث لنفسها، وتظل «أسيرة» لماضيها معلقة فيه بسلاسل ثقافية أشد قسوة وصلابة من قيود الصلب!

الشعوب غير الحالمة يحتل عقلها صغائر الأشياء ويشدها تافه الأمور ويلهيها لغو الثرثرة وتشغلها مواضع أقدامها، وتبدو مثل أى كائنات فى مملكة الحيوان من أول البرغوث إلى الفيل لا تعيش إلا بغريزتها ولا تحركها إلا معدتها.. فهل عرفتم فصيلة من الحيوانات تمكنت من العلو على طباعها المتوارثة واكتسبت طبائع مختلفة وقفزت بنمط حياتها وصنعت تاريخًا مختلفًا عن تاريخ أسلافها؟!

بالطبع العقل بقدراته هو العنصر الفاعل فى التطور.. لكن أيضًا البشر جميعًا يتمتعون بهذا العقل مهما كان نصيبهم منه وافرًا أو شحيحًا.. فكيف صنع بعضهم حضارات عظيمة واستحدث أنماطًا من السلوك والعادات وقيم العمل والعلم، وبقى بعضهم على حاله يجرى فى مكانه أو مس الحضارة مسًا خفيفًا دون استحداث تلك الأنماط؟!

الفارق.. هو الحلم الذى يغير النظم ويطور الأساليب. 

وقد عاش المصريون فترات من الحلم، بددوا خلالها ظلامًا جاثمًا على عقولهم من القرون الوسطى، ليشقوا لأنفسهم طاقة نور إلى مشارف عصرهم الحديث.. لكن دون أن يتخلصوا من كل الظلام أو يكشفوا عن كل النور.. فهم لم يكونوا جميعًا من الحالمين، أقلية منهم فقط هى التى حلمت وعملت على نقل حلمها إلى حاضرها، منهم رفاعة الطهطاوى وعلى مبارك وأحمد لطفى السيد وعبدالله النديم وسلامة موسى ومحمود مختار ومصطفى عبدالرازق ومحمد فريد وطه حسين وعباس العقاد وسيف وانلى ومحمد سعيد وسيد درويش وبيرم التونسى ومحمد كريم وسعيد الصدر ومصطفى مشرفة وهدى شعراوى وتوفيق الحكيم وأم كلثوم وإحسان عبدالقدوس ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وزكى نجيب محمود وجلال أمين ومصطفى سويف..إلخ!

بضعة آلاف استماتوا فى إخراج سفينة الوطن من القاع الذى غرزت فيه، حركوها.. لكنهم لم يستطيعوا أن ينتشلوها تمامًا.. لأن أغلب المصريين كانوا غارقين فى وهم «ليس فى الإمكان أبدع مما كان» تحت وطأة الفقر الجالب للجهل والمرض، ليشكلوا ثالوث التخلف، الذى ترعرع وتوحش فى أحضان نظم سياسية مستبدة لا يعنيها من الوجود إلا الدفاع عن امتيازات أصحاب السلطة والنفوذ والثروة!

حاول هؤلاء الحالمون أن يوسعوا دائرة الحلم أمام الآخرين، وبالفعل جذبوا مئات الآلاف إليهم ثم بضعة ملايين.. وبدأت الوجوه الحالمة تزداد وتنتشر، حتى هزيمة يونيو 1967 لم تقتل الحلم، فاستطاعوا أن ينتفضوا فى نصر معجزة بعد ست سنوات فقط، ثم فجأة توقف المصريون عن الحلم أو تخلوا عنه، لأسباب كثيرة، منها أن كثرة من مثقفيهم ارتموا فى أحضان السلطة ودخلوا حظيرة طاعتها بإغراءات النفوذ والفلوس، ويفترض أن المثقفين هم حملة مشاعل النور فى مجتمعاتهم وكتائب الاستطلاع التى تستكشف الجديد وتفسره وتمضى فيه ليتبعها شعوبهم، لكن حين سقطوا انغمس الجميع فى الواقع وذابوا فى اضطرابه وفوضويته وصراعاته الشخصية الضيقة، وتوارت قيم الوطن وحلت محلها مصالح الأنا!

وفجأة اندفعت الملايين إلى الشارع حالمين بالعيش والعدل والحرية فى 2011، لكن جماعة الإخوان قطعوا الطريق بين الناس وأحلامهم، عملوا على سد منافذ النور والتنوير من أجل أن يحوزوا على السلطة لـ500 سنة كما تمنوا وأعلنوا، تعاونهم جحافل من الإرهابيين فى شبه جزيرة سيناء والصحراء الغربية وبعض المناطق..

لكن الناس لم تيأس، لم تستسلم، وهبوا ثانية يستردون الوطن والحلم فى يونيو 2013، ودفعوا ثمنًا باهظًا للمرة الثانية، دماء وموارد ومؤسسات بدت تتفكك وقيم تتراجع.

طبيعى جدًا أن يكون أمن الوطن له الأولوية، والوطن ليس أرضًا وحدودًا فحسب، بل أهله الذين يعيشون ويعملون ويبنون لأولادهم وأحفادهم، ولا يمكن أن تبنى الأوطان وسط نيران إرهاب تشتعل تحت جلده، وما كادت مصر تطفئ نيرانه وهى تبنى وتعمر، حتى لو وقعت بعض الأخطاء، ولا يوجد مجتمع أو دولة على كوكب الأرض بلا أخطاء، وإلا كانت جنة بلا أزمات مطلقًا، ما كادت حتى هبت عاصفة فيروس كورونا ثم عاصفة الحرب الروسية الأوكرانية، وضربت العاصفتان الاقتصاد العالمى بقسوة، ومصر معه بالطبع.

 ووجدها المُحْبِطون والكارهون فرصة لرسم صور مقلقة عن المستقبل، يريدون قتل الحلم وزرع إحساس بالعجز.

وهؤلاء لا يقلون خطورة عن الإرهابيين، وعلينا جميعًا أن ندافع عن غدنا، أن نتمسك بقدرتنا على النمو والتقدم، أن تتقد أرواحنا بالهمة وتزيح كسلنا، أن نندفع إلى أحلام قومية وشخصية نطاردها ونعمل على الإمساك بها بأيدينا.

لا أظن.. ولا أتصور أن نخرج من مأزقنا دون أن نحلم!

والأحلام الدافعة غير الأوهام المرضية..

وقبل أيام شاهدت فيلمًا أمريكيًا بديعًا من واقع الحياة، فيه الحلم هو وقود التقدم فى المجتمع، ويروى حكاية شاب فقير عبقرى لم يكمل تعليمه الجامعى لكنه عشق المعرفة والقراءة خاصة علم الرياضيات، كانت حياته جرعات من البؤس والمعاناة فى دور أيتام وبيوت أسر بديلة عديمة الرحمة، فترعرع عدوانيًا متمردًا فيه بعض الانحراف، واشتغل عامل نظافة فى إحدى الكليات العملية، كان بالكلية أستاذ رياضيات سأل طلابه أن يحلوا معادلة رياضية معقدة كتبها لهم على السبورة، لعله يعثر من بينهم على عقل لامع مبتكر!

وفي اليوم التالي وجد الحل السحرى على السبورة، وسأل عن صاحبه، فلم يجب أحد من طلابه، فبحث حتى عثر على عامل النظافة، فوجده مطلوبًا على ذمة قضية اعتداء بالضرب محكومًا عليه بالحبس ستة أشهر، فقدم طلبًا إلى القاضى أن يرعاه ويعيده عضوًا نافعًا فى المجتمع ويعالجه نفسيًا من العقد التى ترسبت فى أعماقه منذ طفولته المُعَذبة!

سأله القاضي: لماذا تريد أن تفعل ذلك وأنت لا تعرفه؟!

أجاب الأستاذ: إنه عقل عبقرى ومن الخسارة لأمريكا أن يضيع فى زحمة الحياة دون أن تستفيد منه، مثل هؤلاء يا سيدى هم سر تقدم أمريكا وتفوقها وحلمها الدائم إلى المستقبل الأفضل!

وأخذه الأستاذ إلى طبيب نفسى تعذب مع الشاب العبقرى العنيد الخائف من الحياة..حتى استرد نفسه خالية من العقد.. وشق طريقه عالمًا فى الرياضيات!

أستاذ حالم.. وطبيب نفسى حالم هما اللذان صنعا المعجزة، معجزة تحويل شاب معقد منحرف إلى عالم فذ فى الرياضيات!

وقد كنت شاهدًا على حكاية مشابهة إلى حد ما حدثت فى مصر قبل 30 سنة، صبى نابه فى الصف السادس الابتدائى، انقطع عن مدرسته ثلاثين يومًا، فبحث مدرس الفصل عن بيته حتى عثر على أم الصبى، وسألها عنه، فردت: ظروف صعبة!

فقال لها: حرام أن يضيع مستقبله.. سيكون له شأن لو أكمل تعليمه!

وأعادت الأم ابنها.. الذى رعاه المدرس وتابعه، حتى تخرج فى الجامعة وبنى مستقبلًا لامعًا. فما الذى حرك هذا المدرس الابتدائى؟، إنه الحلم أن يتخرج على يديه «شخصيات» نافعة لمجتمعها.

لا مانع من أن نتألم.. فقد عرفت البشرية دومًا نوعًا من الألم الخلاق مفجر طاقات الإنسان الكامنة وليس الألم العاجز الذى ينشر الخوف ويعوق التغيير والتطور!

لست واهمًا.. ولا غارقًا فى أحلام اليقظة..

هيا بنا نحلم ونعشق ونعمل بإتقان حتى لو كنا نتألم..فلا سبيل آخر أمامنا.