الأحد 13 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الدولة دينية أسلوب حياة  وليست سلطة سياسية فقط!

الدولة دينية أسلوب حياة وليست سلطة سياسية فقط!

ثمة عبارتان شائعتان عن الدولة الدينية فى الضمير الشعبى، عبارة صحيحة تجزم أن الإسلام لا يدعو ولا يعرف الدولة الدينية على الطريقة التى عرفتها أوروبا فى القرون الوسطى، ولم يكن حكم الخلفاء الراشدين أو الأمويين أو العباسيين أو ملوك الطوائف فى الأندلس حكما دينيا، وإن لعب الدين دورا بارزا فى السيطرة السياسية، وعبارة خاطئة أقرب إلى الكذب تزعم أن الدولة الدينية هى فقط التى يشغل رجال الدين مناصبها الرفيعة، من أول كرسى العرش إلى كراسى الولاة التابعين والوزراء، ويسيرون أمور الحياة اليومية للناس.



والصحيح أن تاريخ البشرية عرف نوعا من الدول الدينية، المفاهيم الدينية فقط هى «معيار» الحكم على الناس، أى يقاس نشاط الناس فى كل جنبات الحياة على «مرجعية» يحددها رجال الدين، سواء كان هذا النشاط مع بعضهم بعضا أو مع الآخر الأجنبى، دون أن يتولى الكهنة مقاليد القيادة المباشرة، كما حدث أحيانا فى مصر القديمة، وفى حكم أسبانيا زمن الملك فيليب الثانى، وكان ملكا كاثوليكيا، وحرضه رجال الدين الكاثوليك على إرسال «الأرمادا» أعظم الأساطيل البحرية فى القرن السادس عشر، لغزو بريطانيا التى تحكمها الملكة إليزابيث الأولى البروتستانتية، وأقنعوا الملك بأن السماء هى التى طلبت منهم ذلك فى خلواتهم، وبشروه بأن النصر قادم لا محالة ومقدر بمباركة الرب، لكن الأرمادا لم يجلب نصرا، وغرق أكثر من نصف سفنه فى بحر الشمال وانتهت أسطورته إلى الأبد.

باختصار تكتسب الدولة الدينية هذه الصفة من المعايير التى تعمل بها، وهى معايير مطلقة ينفذها بشر، يتصورون فى أنفسهم أنهم «وكلاء» عن السماء، فى إلزام البشر باتباع تعاليمها، سواء أرتدوا ثياب رجال دين أو لا، أو اطلقوا ذقونها وحفوا شواربهم أو ولم يفعلوا.

وحتى لا يفهم ما نقوله خطأ، وأن المقصود هو إبعاد الدين عن حياة الناس وحبسه فى الشعائر، نقول إن الدين لا يقود بنفسه، وإنما ببشر لهم نزعات شخصية ونقاط ضعف ومصالح خاصة وتمثيل طبقى، ومنوط منهم أن يسيروا أمور العباد وفق فهمهم للدين، وقد يفهمونه كما فهمه عمر بن الخطاب أو على بن ابى طالب أو عمر بن عبدالعزيز أو ابو حنيفة النعمان أو الليث بن سعد أو رابعة العدوية، وقد يفهمونه كما فهمه الخوارج أو يزيد بن معاوية أو الحجاج الثقفى أو القرامطة أو الحشاشون أو الحاكم بأمر الله أو أمير تنظيم داعش أو أنصار بيت المقدس أو أسامة بن لادن أو سيد قطب.

ويقول لنا التاريخ إن الدولة الدينية هى «حالة» من تديين مظاهر حياة الناس بغض النظر عن جوهر تصرفاتهم وسلوكياتهم ومعاملاتهم اليومية، والتديين غير التدين، التديين حالة عصبية، فيها انفعال وانغلاق وانطباعات وغضب وتربص وعنصرية وإذكاء للنفس على الآخرين ويحكمها منطق وحيد هو «الأفضلية» المطلقة، التدين حالة عقلية فيها تأمل وتدبر ومودة ورحمة وعطاء وعمل طيب وتسامح وتحكمها مبادئ مثالية فى التعاملات، الحق والخير والمصالح المرسلة التى تتلخص فى كلمة فى غاية الجمال وهى «التقوى».

وللأسف حالة التديين أكثر انتشارا، وراحت تضرب الناس من منتصف السبعينيات من القرن الماضى، وازكتها الجماعات الدينية فى الجامعات والمدارس والأحياء والمراكز والقرى، حتى تضفى على تصرفات أعضائها مكانة دينية، تفتح لهم الطريق إلى السلطة حين تتهيأ الظروف المناسبة، بينما الإسلام دين نقى من المطامع السياسية والاستغلال الاقتصادى والاجتماعى.

وعمل شيوخ كثرٌ على تديين حياة الناس، التديين الذى ينشغل بـ«المظاهر»، فى الشكل واللبس، وإعادة المرأة إلى عصر الحريم وتصنيف البشر دينيا وتقدير أعمالهم الإيمانية والحكم عليها، وتوسيع أبواب التحريم والمنع لتشمل الفنون ولعب الشطرنج والطاولة والسلام على الأجنبى وتهنئته بأعياده..الخ، وهى الأبواب التى تتيح لهم المزيد من النفوذ والسيطرة، ثم طارد عدد منهم كتابا ومفكرين وأدباء وفنانين بقضايا حسبة وأحكام بالحبس، ولم يسلم منهم أساتذة دارسين حاولوا تجديد الفكر الدينى وتخليصه من أفكار واردة فى كتب التراث يستحيل صحتها.. إلخ.

بالطبع كان سهلا عليهم أن يأخذوا مكانتهم القوية عند بسطاء الناس ومتوسطى التعليم الذين يتعرفون على دينهم أو يعرفون أصوله «بالسمع» والنقل، وليس بالتعليم والقراءة المتعمقة، ناهيك عن الأميين الذين لا سبيل أمامهم للمعرفة إلا شفاهةً، وتتوقف شعبية الشيخ أو الداعية على قدرته فى جذب الانتباه وإثارة المشاعر المهيأة للتعصب الدينى دون إعمال العقل.

والبسطاء لقمة سائغة دوما فى أيدى رجال الدين عبر التاريخ وفى مختلف ثقافات الأمم..وسأقص عليكم حكاية فى غاية الغرابة حدثت فى مصر قبل قدوم الحملة الفرنسية بسنوات.. حكاية صنعها كبير خدام مسجد السيدة نفيسة «الشيخ عبداللطيف»، إذ جلب عنزة، وزعم أن السيدة نفيسة تكلمت عنها من داخل القبر وأوصت بها، وأنه سمع بنفسه كلامها، ويقال إن العنزة جاءت مع بعض الجند المصريين، الذين قضوا ليلتهم بجوار ضريح السيدة نفيسة، وفى الصباح وجدوا العنزة وقد اعتلت المنبر لتكلم الناس.

أتصور أن هذا ما أشاعه الشيخ عبداللطيف بين الناس، وقال إن العنزة لا تأكل إلا قلب اللوز والفستق، ولا تشرب إلا ماء الورد والسكر المكرر! وانتشرت الخرافة بين الناس العاديين، ووصلت إلى مسامع الأميرات وزوجات الكبار، فتوافدوا على المسجد حاملين إليه قناطير منها، وتفننت النساء فى إرضاء العنزة بالقلائد الذهبية والحليّ، وافتتن الجميع بها.

سمع «عبدالرحمن كتُخدا» كبير البكوات المماليك بالخرافة، فاحتال على شيخ المسجد، ودعاه إلى زيارة قصره مع العنزة، وسط موكب مهيب من أرباب الطرق الصوفية، واستأذن منه أن تمضى إلى جناح الحريم، فحملها الخدم إلى المطبخ، وذبحها وقدمها مشويّة للشيخ عبداللطيف، فأكلها الشيخ مستطيبًا لحمها، فعنفه كتُخدا على دجله وشعوذته، وأمر بوضع جلدها على عمامته، وأن يمشى بها فى أسواق القاهرة وشوارعها بين الطبل والزمر.

وهذه الحكاية رواها الأستاذ جمال بدوى فى كتابه «كان وأخواتها.. مشاهد حيّة من تاريخ مصر»، وأسندها إلى «المؤرخ المصرى الشهير «الجبرتي».

هذه عقلية التديين الشائعة التى لا تحسن التدبر ولا علاقة لها بعقلية التدين الواعية المتأملة فى الكون، وقد ينتفض البعض صارخا: كان زمن تخلف وجهل ويستحيل أن تتكرر مثل هذه الحكاية الغبية فى زمننا هذا، ولا حتى أخف منها.

لا أريد أن أروى حكايات وقعت قبل سنوات ليست بعيدة عن «مشايخ» اكتسبوا قداسة بين المصريين، وكونوا أتباع بعشرات الألاف منهم متعلمون وكبار موظفين ووزراء أحيانا، وكان هؤلاء التابعون يزورون شيخهم فى مقره بإحدى محافظات مصر مثقلين بما يحملونه، يقبلون يده ويجلسون تحت قدميه ويخدمونه، ويستفتونه عما يخص حياتهم وأعمالهم.

ويمكن أن أذكركم بعدد الفتاوى التى صدمت عقولنا الصادراة عن بعضهم، مثل فتوى العلاج بـ«بول الإبل»، أو إرضاع الكبير، أو جماع الوداع مع الزوجة الميتة أو حرمانية حلاقة الذقن أو الجلوس بجوار أجنبية فى الطائرة.

بل أن شيخا من مشايخ الطرق الصوفية المعروفة ويقال إن اتباعه يقدرون بثلاثة ملايين مريد، خرج على الناس ذات يوم متحديا أن يأكل سبع تمرات، ويشرب سما بعدها، ولن يحدث له شىء، كى يثبت صحة حديث نبوى نصه: «من تصبح كل يوم بسبع تمرات عجوة لم يضره فى ذلك اليوم سم ولا سحر». ولم يسأل نفسه: هل التحدى على حياة مسلم يدخل فى ثوابت الدين أو فروعه؟

نعم هذا «عقل» تديين لا عقل تدين.

هذا العقل الذى يخاصم العصر هو صانع الدولة الدينية، العقل الذى يعرقل الانتقال إلى ضفاف التحديث والنهضة، والدولة الدينية فكرة وأسلوب حياة قبل أن تكون سلطة سياسية.