الجمعة 24 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
حين قال لى عسكرى المرور:  طيب وأنا أعمل إيه؟

حين قال لى عسكرى المرور: طيب وأنا أعمل إيه؟

قبل أيام وبينما أعبر إشارة مرور تقاطع شارع امتداد ولى العهد مع سكة الوايلى ظهرا، على بعد 500 متر من قصر القبة ربما أزيد قليلا، فوجئت بـ«توكتوك» أمامى عكس الاتجاه، دست على الفرامل بأقصى طاقة، كان عسكرى المرور على بعد مترين، نظرت إليه متسائلا: ما هذا؟، رد بكل بساطة: طيب وأنا أعمل إيه؟ أسرع التوكتوك دون أن يلتفت سائقه إلى عسكرى المرور أو يهدئ قليلا، كأن شيئا لم يحدث.



لا تهم تصرفات صبى التوكتوك ورعونته وعدم مبالاته، فهو تصرف بغريزته حسب الرسالة التى فهمها من الواقع السائد، أن الشارع ملكه، وهو حر يفعل ما يشاء وقتما يشاء، ألا يقود توكتوك غير مرخص مروريا دون أى مساءلة؟، وإذا كان هو نفسه بلا رخصة قيادة، فلماذا يلتزم بإشارات وتعليمات وقواعد يراها سخيفة ومعطلة له؟!

باختصار تصرف التوكتوك كما اعتاد.. 

لكن ما يستوقفنا هو رد فعل عسكرى المرور، الذى لا يختلف عن رد فعل صبى التوكتوك، مع أن المخالفة كان يمكن أن تتسبب فى حادث مؤلم؟ هل رد فعل العسكرى راجع إلى فهم خاص وإهمال أم راجع إلى مناخ سائد وشواهد بالتكرار صارت تعليمات غير مكتوبة؟ فى الحالتين العسكرى مظلوم، فهو يبدو مجندا غير متعلم، خبراته محدودة عن الطرق والمرور والإشارات والإجراءات، وأعرف تمام المعرفة أن إدارة مرور مصر تعانى عجزا بشريا كبيرا، سواء فى عدد الكوادر ضباطا وصف ضباط وجنودا، فى الوقت الذى تضاعف فيه عدد المركبات بكل أنوعها عدة مرات، سواء داخل المدن والمراكز والقرى أو على الطرق الرئيسية بين المحافظات، وأعلم تماما حجم الجهد الذى يبذله رجال المرور، مع «قلة عددهم» فى ضبط منظومة صعبة، السائقون وأصحاب المركبات فيها، لهم تاريخ وتراث كبير فى الاستخفاف بالطرق وارتكاب «المخالفات» المرورية!

نعم نعرف هذه البيئة وكل ظروفها المتشابكة، لكن هذا لا يعنى أن نقبل بالأمر الواقع، فالمصريون يؤمنون بمثل عظيم «الجواب يبان من عنوانه»، وعنوان الدولة هو شوارعها وطرقها ونظام التعامل معهما، وأتصور أن ضبط حياة المصريين عملا ولعبا وثقافةً وفنا وإنتاجا واستهلاكا وتصديرا واستيرادا يبدأ من «الشارع»، نعم ومن أصغر شارع، خاصة بعد النهضة غير المسبوقة فى الطرق المصرية حاليا، فنحن تنقصنا الجدية فى حياتنا إلى حد ما، نعم نعمل ونتحرك وندرس ونسافر..الخ لكن بقدر من الجدية ليس كافيا لانتشالنا من حال لا يعجبنا ويتعبنا منذ زمن بعيد إلى حال أفضل نحلم أن نصل إليه ويليق بمصر، التى تستحق أن ندفع بها إلى الأمام اقتصاديا وسياسيا وثقافيا واجتماعيا ورياضيا وفنيا ملايين الخطوات، نعم نحن نستطيع، لكن لم نملك الرغبة والإرادة التى تحول الحلم إلى واقع، رغبة شاملة جامعة وليست رغبة البعض منا، فالتقدم «تيار عام نشيط» تقوده إرادة فولاذية، وليس حركة أفراد مهما كان عددهم!

نعم تنقصنا موارد ولا أتصورها «جوهر» الأزمة، فالموارد جانب من الأزمة، لكن الجانب الأكبر هو «نحن»، الطريقة التى ندير بها حياتنا.

وإذا أعدنا للشارع انضباطه بشرا وحركة، ونجحنا إلى حد كبير، إذ لا يوجد نجاح مئة فى المئة مع البشر الخطاءين، فهذا بمثابة «شهادة صلاحية» لنا جميعا، شهادة صلاحية بقدرتنا على تحقيق المعجزة، المعجزة التى فعلناها ببساطة ومهارة وثقة فى حرب أكتوبر 1973 بإمكانات تقل كثيرا عن إمكانات العدو الذى كان متفوقا فى العتاد والسلاح تفوقا جعل كل خبراء العسكرية شرقا وغربا يستبعدون تماما عبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف، ويعتبرون حدوثهما مستحيلا علينا، غافلين العنصر الأهم وهو «الإنسان المصرى وجيناته الحضارية»، وهى جينات مطمورة تحت طبقة سميكة من صدأ الأزمات والمشكلات المادية والثقافية، لا يزيلها المصريون إلا عندما تكون مصر فى خطر داهم عاصف، فيشع معدنهم الحضارى الحقيقى، ليبدد الخطر، ثم يعيدون بعدها طبقة الصدأ إلى ما كانت عليه، ربما لعدم توافر شروط دوام هذا الوهج!

الفارق هنا أننا لو صنعنا معجزة الانضباط فى الشارع مرورا وحركة، سنفعلها فى «حالة عادية»، وليس دفاعا عن مصر فى «حالة خطر داهم» كما اعتدنا من قبل، أى ننقل الإحساس بالجدية والضبط والربط والتنظيم الجيد والعمل المتواصل إلى عموم المصريين فى الحياة اليومية التى تغشاها عشوائية وتسيب أحيانا كثيرة، بالطبع هى عملية صعبة جدا وتحتاج إلى وقت طويل نسبيا، لكنها عملية ضرورية، مثل وقود سيارة لكى تدور وتعمل، الوقود ليس أغلى ما فى السيارة، لكن السيارة دون وقود مجرد «حديد وصفيح» ولا تتميز عن أى خردة.

وضبط الشارع أى الطريق هو وقود الحياة اليومية المصرية فى زمننا هذا، ويبدو أن مصريين كثيرين يتمنون هذا الضبط والربط منهم الدكتور أحمد راغب، الذى أخذ خطوة إلى الأمام ولم يقف سلبيا، وكتب توصياته وأفكاره فى كتاب مهم، أظنه نشره على حسابه الشخصى بعنوان «الطريق هو الطريق»، ربما هو الأول من نوعه الذى يتناول «طرق مصر ومرورها» وكيفية إصلاح المنظومة.. المدهش أنه ليس متخصصا فى المرور، هو مستشار دولى حر فى شئون التدريب والتطوير الإدارى وتنمية الموارد البشرية، وزار 56 دولة فى العالم شرقا وغربا، تابع طرقها ونظم المرور فيها، وقرر أن يقدم خبراته وتجاربه لتطوير وتحسين إدارة الطرق، باعتبارها «وسيلة التنمية والنهوض» بمصر!

بالطبع يستعرض الكاتب كل أشكال المخالفات، السرعة والسير عكس الاتجاه، الانتظار فى الممنوع، البيع فى نهر الطريق أو السطو على جزء منه، العربات الكارو، التوكتوك، فوضى الميكروباص، المطبات الصناعية، غياب الجراجات، المركبات الملوثة للبيئة، السيارات المهملة والخردة ومخلفات البناء الملقاة فى الشوارع، إشغالات الأرصفة، عبور المشاه..الخ، وكلها جرائم مرورية نراها جميعا أو نرتكبها، ولا يوجد مصرى لا يعرفها..لكن الدكتور أحمد راغب يفصلها ويشرحها بطريقة علمية مبتكرة، ويكشف أسبابها ودوافعها، وأتصور أنه محق فى تفسيراته، لأننا طول الوقت نعالج «الأعراض المرضية» فى أزمة الطرق والمرور ولا نقترب من أسبابها، نخفف منها، فتظل بعضا من أوجاعها تطاردنا ثم تزيد حتما بالتدريج.

قطعا سوف يظهر بيننا من يرفض ويعترض ويشير إليه: هو أنت فاكر نفسك أبو العريف، المسألة مسألة إمكانات وقلتها هو «مصدر الخلل»؟

هنا ينهبنا الدكتور إلى أمر فى غاية الأهمية يجب أن نعتاده فى التعامل مع التحديات الكثيرة التى تحيط بنا، وهو «التفكير الجماعى»، أى قبول أى فكرة ودراستها بصبر وعناية وتمعن قبل أن نصدر فيها حكما قاطعًا بالرفض، ويتصور الرافضون أن الفكرة القادمة من «خارج» المسئولين عنها، فيها اعتداء عليهم أو تشكيك فى قدراتهم لا سمح الله، مع أن التعاون والتكاتف والعمل الجماعى مهم للخروج من أى أزمة عامة.

وفى توصيف العلاج هو يتبع منطق «لى كوان يو» رئيس وزراء سنغافورة الأسبق، الذى حكم سنغافورة 31 سنة ونقلها إلى مصاف الدول المزدهرة، ولى كوان قال إن «إصلاح البشر يبدأ من أعلى»، أى أن الحكومة هى المعلم والقدوة والمثل.. مثلا فى حالة الطرق إذا وضعت الحكومة حواجز لمنع الانتظار فى منطقة حيوية، فهى استقطعت بعضا من الطريق وضيقته، مع أن الغرض هو علاج الانتظار فى الممنوع، وهنا الناس تقلد فكرة الحواجز على مزاجها وفى الشوارع العادية، فتضع أحجارا وصناديق وبراميل بها أسمنت وإطارات سيارات مستهلكة، أى ضيقوا مساحات الطرق فى المدن بنسبة معطلة للمرور، والبديل أن تعلق الحكومة لافتات بدلا من الحواجز بعقوبة رادعة جدا وكاميرات ترصدها..وهكذا، ويقول الدكتور أحمد إن تطبيق القوانين المنظمة بصرامة هو مركز الانضباط على جميع المستويات وليس فى الطريق فقط، وطبعا دون استثناءات أو امتيازات إلا لسيارات المطافئ وعربات الأسعاف والطوارئ وأوناش نقل المركبات المتعطلة.

وأول خطوة فى الضبط والربط والنظام هى استعادة هيبة الدولة وسيطرتها التامة على كل طريق، وأن تكون فلسفة العلاج نابعة من رؤية شاملة متكاملة. طبعا هو يقدم حلولا، والكتاب يصلح مرجعا علميا لمن يهتم، وقد نختلف معه فى بعض الأمور بسبب ضعف الموارد، فالسيطرة على الطرق مكلفة وتحتاج إلى «أعداد ضخمة» من رجال المرور، هذا لو اتبعنا التفكير التقليدى، لكن لو خرجنا من الصندوق، وفكرنا فى التكنوجيا الحديثة، وكاميرات تغطى كل شوارعنا ودوريات متنقلة وسلالم كهربائية تعمل بالطاقة الشمسية فى كبارى المشاة، قد نصل إلى المعجزة بالتدريج!