الأربعاء 16 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
معركة الأكاذيب حول قناة السويس!

معركة الأكاذيب حول قناة السويس!

ثمة مثل مصرى قديم يقول: «إذا كان المتكلم مجنون فالمستمع عاقل»، ومع أن المتكلم لم يكن مجنونا فحسب، بل كان غارقا فى الهلوسة وفقدان القدرة على الإدراك التام، مثل «مجذوب ريفى»، لكن البعض صدقه ونشر ما قاله، وقد عرفت الأرياف المصرية قديما مجاذيب، يمشون عراه صيفًا وشتاًء بين الزراعات والطريق وهم فى غاية القذارة، شعورهم ملبدة وذقونهم طويلة، وكان الريفيون يطلقون عليهم «أحباب الله»، حتى لا يؤذيهم الأطفال رشقا بالحجارة.



 

قال المجاذيب إن مصر وقعت مذكرة تفاهم مع شركة إسرائيلية لمنحها امتياز إدارة خدمات قناة السويس 99 عاما، والتوقيع لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء.

حين سمعت الخبر أول مرة ضحكت وأهملته ولم ألتفت إليه، واضح أنه محاولة لاستغلال مساحة قلق ومخاوف تسللت إلى المناخ العام، ناتجة عن الأزمة الاقتصادية وارتفاع الأسعار، كما حدث فى دول كثيرة من العالم، وإن كان إحساس المصريين بها أعلى من غيرهم.

ومع إصرار المواقع الإخوانية بالدرجة الأولى ومعهم أصوات مصرية مهاجرة مشبوهة على العجن واللت فى الخبر، ومع كسل عقلى أصاب البعض ونقلوا عنهم، رحت أقرأ مذكرة التفاهم، ليس من باب استكشاف بنودها أو فك طلاسمها، وإنما لأعرف كيف تفننوا فى تزيفها إلى هذه الدرجة التى خدعت البعض.

ولم أستطع أن أهضم كيف فات على هؤلاء البعض «سذاجة» التزوير المتقن، طبعا سوف تسألني: كيف جمعت بين النقيضين السذاجة والإتقان فى وصف الوثيقة المزورة؟

الإتقان انصب على الصياغة القانونية، التى يبدو أن رجال قانون عكفوا عليها لتخرج بهذه الكيفية، أو هى منسوخة من وثائق حقيقية ثم ألبسوها اسم قناة السويس، أما السذاجة فلها دلائل دامغة..

أولا: أن مذكرات التفاهم أو العقود بين الشركات الأجنبية وأى هيئة مصرية لا يوقع عليها رئيس الجمهورية ولا رئيس الوزراء، وإنما رئيس الهيئة أو من ينوب عنه بصلاحياته، أما رئيس الجمهورية فهو لا يوقع إلا اتفاقات مع رؤساء دول، وكذلك رئيس الوزراء مع نظيره، والوزراء مع نظرائهم.

ثانيا: شركة إسرائيلية..ياه..يعنى الحكومة تركت جميع شركات كوكب الأرض، واختارت شركة إسرائيلية تمنحها امتياز إدارة خدمات قناة السويس حتى سنة 2122، هذا أشبه بمن يعطى القط مفتاح الكرار، إسرائيل دونا عن بقية دول العالم، لا الصين ولا اليابان ولا كوريا الجنوبية ولا بريطانيا العظمى ولا فرنسا ولا ألمانيا ولا أمريكا، ولو تصورنا من باب الفانتازيا أن مصر عملت مزادا عالميا لإدارة خدمات قناة السويس، فيا ترى كم شركة عالمية عابرة للقارات يمكن أن تقاتل من أجل الحصول على هذا المزاد؟

هل يعقل أن مصر يمكن أن تضحى بأمنها القومى بكل هذه البساطة المذهلة؟، لماذا أذن تشترى دبابات وطائرات وغواصات وتعمل على تقوية نفسها إلى أن تصبح عاشر قوة عسكرية على الكوكب؟، وبعدها تمنح الدولة - التى خاضت ضدها خمس حروب طاحنة- أهم ممر مائى فى العالم، وهو نفسه الممر الذى عبره البريطانيون عند غزو مصر فى عام 1882 بخيانة من فرديناند ديلسبس؟، وهو الممر الذى تحجج به البريطانيون والفرنسيون فى عدوانهم الثلاثى على مصر فى عام 1956؟، وهو الممر الذى صنع عليه الجيش المصرى معجزته العسكرية فى أكتوبر 1973، والتى مازال العالم يدرس تفاصيلها حتى الآن؟

أكيد المتكلم هنا تجاوز أى سقف للجنون عرفه البشر.

ثالثا: لماذا تحتاج مصر إلى إدارة أجنبية لخدمات قناة السويس؟، هذا غير معقول بالمرة، فمصر فى عز أزمة تأميم القناة فى صيف 1956 وامتناع المرشدين الأجانب عن العمل، باستثناء المرشدين اليونانيين والقبارصة نجحت فى إدارة قناة السويس، بعد ساعات قليلة من إعادتها إليها ودون سابق خبرة، فكيف بعد 57 عاما من المعرفة والتجارب والخبرات أن تفعلها ودونما سبب؟، ومتى؟، بعد أن ارتفع دخلها إلى ما يقرب من ثمانية مليارات دولار سنويا؟، وبعد أن شقت فرعا جديدا فيها لتختصر زمن مرور السفن، ليتضاعف دخلها عما كان عليه فى عام 2014، وكان شقها واحدا من أهم الاستثمارات التى صنعتها مصر فى السنوات الأخيرة، بفلوس المصريين.

رابعا: علاقة المصريين بقناة السويس علاقة خاصة جدا، لم تعد مجرد ممر مائى يزهون به وبدوره الحيوى لسكان العالم أجمع، إذ صارت جزءا من شخصيتهم وتركيبة دمائهم ونبض حياتهم، وكما الأهرامات تجسد حضارة مصر القديمة، فقناة السويس تعبر عن مصر الحديثة الحالمة بأن تقفز إلى فضاء أرحب فى التنمية والتقدم والتحضر، والأحلام الوطنية لا تؤجر ولا تُمنح امتيازات للأجانب أو غيرهم..فما هذا الخبل الذى يقولونه؟

خامسا: الدستور وهو سياج من الصلب يحيط بقناة السويس، تقول المادة 43: تلتزم المادة بحماية قناة السويس وتنميها، والحفاظ عليها بصفتها ممرا دوليا مملوكا لها، كما تلتزم بتنمية قطاع القناة باعتباره مركزا اقتصاديا متميزا.

أى قدر من التفكير العلمى المنظم ومعرفة بالتاريخ والشخصيات القيادية فى الحكومة المصرية يصل به حتما إلى استحالة التفكير- مجرد التفكير- فى مذكرة تفاهم من هذا النوع..

الوثيقة محاولة تعكير المياه الجارية بين المصريين وحكومتهم، باستغلال أزمة اقتصادية مؤقتة، ومشروع قانون لم يبت فيه بعد، هو مشروع صندوق خاص لقناة السويس، يمكنها من الاستثمار وتنمية مواردها.

والصندوق الخاص نفسه أثار لغطا كبيرا، ومبدئيا الكاتب من معارضى الصناديق الخاصة برمتها، فكرةً وإجراءات وتنفيذا..كلها منذ ظهور أول صندوق خاص فى عصر الرئيس أنور السادات بالقانون رقم 53 لسنة 1973، حتى تجاوز عددها الآن ستة آلاف حساب موجودة فى كل الوزارات والهيئات والشركات القابضة.

لكن أن يقال إن الصندوق الخاص يمكن أن يبيع قناة السويس هو نوع من الغباء القانونى، ربما دافعه وطنى، لكن دون تبصر وبصيرة.

والسؤال البديهي: هل الصندوق الخاص يملك قناة السويس أم هو ملك لقناة السويس؟ بمعنى أن القناة هى الأصل والصندوق فرع تابع لها، وأى دارس للقانون والاقتصاد يعرف أن الفرع لا يملك حق التصرف فى الأصل، مثل بنك له صندوق استثمارى، هل يمكن للصندوق أن يبيع البنك؟ قطعا لا، العكس هو الصحيح وبإجراءات صارمة باعتباره مالا عاما.

وبالتالى لا خطورة على ملكية القناة من صندوقها الخاص الاستثمارى.

ولكننى من المعارضين له لأسباب تتعلق بسيادة الدولة، أى سيادتها المركزية التامة على إيراداتها ومصروفاتها.

بالطبع أتفهم الأسباب التى دفعت الهيئة للتفكير فى الصندوق الخاص والذهاب إلى مجلس النواب لإقراره تشريعيا، للخروج من «دوائرالروتين» التى تضرب الأداء الحكومى وتشبه بيت حجا، فأحيانا تحتاج مؤسسات معينة إلى سرعة حركة فى نشاطها المالى، لا تسمح به الإجراءات الروتينية الحالية، بينما الروتين عندنا تمكن من مفاصل الدولة إلى حد تعطيل الحركة فى كثير من الأحيان، بينما العالم يجرى بسرعة هائلة والقرارات تحتاج إلى جرأة وخفة.

والصناديق الخاصة عبارة عن «موازنات» موازية لمؤسسات وهيئات رسمية، غير موازنة الدولة نفسها، وبالطبع تخضع لرقابة الجهاز المركزى للمحاسبات، وإيراداتها من حصيلة خدمات متميزة ودمغات وغرامات، لا تدخل إلى خزينة الدولة، ولا يناقشها مجلس النواب، لكن لها لوائح تختلف عن لوائح وزارة المالية فى إجراءات الإنفاق، تتيح لها سرعة وحرية التصرف هروبا من روتين وزارة المالية.

باختصار بدلا من أن تكون إيرادات هذه الخدمات الخاصة والدمغات والرسوم رافدا يصب فى نهر موازنة الدولة يقلل من عجزها المزمن، صار عبئا عليها بتحويلها إلى تلك الصناديق.

المدهش أن كل الحكومات لزمن بعيد لم تنجح فى عمل «إصلاح إدارى حقيقي» يضبط الروتين الذى لاغنى عنه كما هو الحال فى دول أوروبا وأمريكا، فصنعت قانونا تلتف به من حوله وتخرجه من حساباتها.. وهذا خطأ يتراكم يوما بعد يوم ما يقرب من خمسين سنة، فإصلاح منظومة الإدارة ليس حالة ميئوس منها، بل ممكن جدا وعملته عشرات الدول، ولنا نماذج مبهرة فى مؤسسات مصرية كثيرة.

فإصلاح المنظومة أهم من الالتفاف حول عيوبها، حرصا على معنى الدولة.

وإذا حدث فيمكن لقناة السويس أن تضع استثماراتها المتوقعة فى موازنة الدولة، وتصرفها من وزارة المالية، وحتى إذا احتاجت إلى المصريين شريكا فى التمويل فهذا سهل، ولنا فى تجربة حفر قناة السويس الجديدة مثالا رائعا، فحين طلب الرئيس عبد الفتاح السيسى من المصريين تمويلا لها، وفروا له أكثر من 60 مليار جنيه فى بضعة أيام.

القناة بضفتيها الشرقية والغربية منطقة توطين صناعى وخدمى عالمى وكلنا يعرف أنها مستقبل مصر الذى لا يمكن أن نؤجره.