الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
العقل السلفى أخطر أمراضنا

العقل السلفى أخطر أمراضنا

مهما طالت الأزمة الاقتصادية فهى أزمة مؤقتة، نعم هى مؤلمة للغاية لكنها أيضًا عابرة، والأزمات كما تصنع الإنسان تصنع الأمم التى تحسن التفكير وتعيد ترتيب أوراقها وهيكلة قطاعاتها ومؤسساتها بطريقة تمكنها من علاج أسباب الأزمة من داخلها، ولا تنشغل كليًا بتخفيف أعراضها أو الخلاص من هذه الأعراض فقط، ثم تأخذ منها «جرعة تقوية» تقفز بها إلى الأمام.



وهذه الرؤية تستدعى سؤالاً: كيف ننهض ونبنى مجتمعًا مختلفًا عما عشناه قرونًا طويلة؟

هذا هو السؤال الأهم..

نعم، حاولنا منذ خروج الحملة الفرنسية من مصر أن نؤسس دولة عصرية متقدمة، حاضرها يناسب تاريخها، وقمة المأساة أن يبنى أجدادك واحدة من أعظم الحضارات الإنسانية على مدار التاريخ، وأن تظل أنت وأحفادك محشورين فى نفق دول العالم الثالث، الدول التى تتأرجح بين التقدم والتخلف، ولا تساهم فى حضارة العصر الحديث إلا بالفتات.

وإجابة السؤال الأهم كامنة فى تاريخ المصريين القدماء وأيضًا فى تاريخ كل الحضارات الإنسانية التى بزغت وسادت، وأن تظل الحضارة المصرية القديمة هى «الأرقى فى القيم الإنسانية» عن كل حضارات الدنيا، إذ احترمت الإنسان والطبيعة مع مواطنيها والآخرين بقدر لم تفعله أى حضارة حتى يومنا هذا، فأجبرت جيمس هنرى بريستد على وصفها بـ«فجر الضمير».

ويقول لنا التاريخ إن العقل هو صانع الحضارة، وسجلت صفحاته حكايات أمم توسعت وكونت إمبراطوريات لكنها لم تصنع حضارة، أى معارف وعلوم وثقافة وفنون ومعمار وفلسفة..إلخ، لأن الحضارة حالة عقلية قبل أن تكون منتجات مادية، فالتتار غزوا أكثر من نصف العالم القديم، دون أى إسهامات فكرية وعلمية وفلسفية مؤثرة.. إلخ، وهو نفس الدرب الذى سار عليه العثمانيون، قوة عسكرية غاشمة تتسيد أممًا ضعيفة متناحرة يسودها الجهل والخرافة.. دون أن تنقلب هذه القوة العسكرية إلى حالة حضارية.

ولم يحدث لأمة أن سارت على درب الحضارة دون «عقل» عظيم فى زمانها، يدير حياتها على أسس من معارف وطرائق فى التفكير المنظم.

ولو راجعنا تاريخ مصر الحديث منذ تجربة محمد على باشا، سنجد أن المصريين لم ينجحوا فى أى فترة زمنية أن يؤسسوا علاقاتهم بالعصر الحديث على «عقل جمعى علمى» قادر على التفكير المنظم، قطعا عندنا عقول عظيمة ليس بالمئات، وإنما بالآلاف وربما أكثر، فى الآداب والفلسفة والهندسة والعلوم والطب والفنون، لكنها عقول فردية، تشبه النجوم الشاردة، لم تصنع تيارًا فاعلاً فى بنية المجتمع وأساساته، هم شريحة صغيرة من عقل جمعى يتأرجح بين التعليم والجهل غارق فى الغيبيات، ويقدر الفهلوة ويعمل بنصف جدية، ويعتقد فى السحر، ويتفنن فى الضحك على القانون ويفتقد روح الجماعة..إلخ.

عقل أغلب قراراته فى حياته الخاصة والعامة تستند إلى انطباعاته قبل معارفه، إلى انحيازاته قبل واقعه، إلى ماضيه قبل حاضره، إلى رؤيته الخاصة قبل الدراسات العلمية، إلى الفردية المفرطة دون احتكاك قوى برؤى الآخرين التى تولد شرارة الأفكار النيرة.

باختصار لن ننتقل من دول العالم الثالث إلى العالم الأول إلا بعقل جمعى جديد، عقلى يعمل بالتفكير العلمى المنظم.. نعم هذا يستغرق وقتًا ولا يبنى بين يوم وليلة، وقطعًا لن ننتظره، وإنما نتحرك ونزرع ونُصَنْع ونُشَيد ونؤسس.. إلخ، ونحن نبنى هذا العقل الجمعى الجديد.

والسؤال المفتاح: ما الذى أعاق بناء هذا العقل لأكثر من مئتى سنة؟

باختصار شديد لأننا لم نقطع الطريق على «العقل السلفى» الذى حكم حياتنا طيلة قرون، وتصورنا أن الجمع بينه وبين العقل العلمى المنظم مسألة ممكنة، فكنا مثل إنسان يجرى فى سباق التعليم والمعرفة والثقافة والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية والسياسية ورقبته مشدودة إلى الخلف، فكان مستحيلاً عليه أن يصل إلى سرعة معقولة فى سباق التحديث، وكثيرًا ما عطل عقله السلفى تقدمه وأعاده خطوات إلى الخلف.

والعقل السلفى لا يقصد به عقلاً دينيًا فقط، وإنما هو عقل يتمدد إلى معارف الإنسان وأنشطته، لأنه نمط فى التفكير وأساليب التعامل مع مفردات الواقع، ولأننا كنا متخلفين فى كل فروع المعرفة تقريبًا منذ بدأنا تحديث مصر، سواء كانت معارف وابتكارات واختراعات لم نسمع بها أصلاً، أو معارف تقليدية كان لنا فيها باع وانقطع، وحلقت أوروبا بها إلى آفاق بعيدة.

ولقرون طويلة انصب جل اهتمامنا على التراث الدينى، نقلاً وحفظًا وشروحًا، فكان عقلنا السلفى عقلاً دينيًا قحًا.

والعقل هو أداة لـ«فهم الحياة والكون»، فإذا كان هذا الفهم مستمدًا من «فهم السلف وتفسيراتهم» الدينية، وفق معارفهم القديمة، وبالطبع لا نقلل من أهمية الفهم الدينى، بشرط أن يكون جزءًا من عملية فهم أشمل، فالحياة والكون خاضعان لقوانين منظمة له، فى الفيزياء والكيمياء والاقتصاد والسياسة والاجتماع والهندسة.. إلخ، والتفسيرات الدينية وحدها لا تفك طلاسم هذه القوانين التى تساعدنا على التعامل الصحيح مع الأسباب والظواهر والموارد من حولنا، أى الجانب المادى من الحياة والكون، بينما التفسيرات الدينية تضع أيدينا ونفوسنا وعقولنا على الجانب الروحى الذى يمدنا بالتوازن النفسى الذى يرسو بنا بالضرورة على بر الطمأنينة والسلام والأمان.

وقطع الطريق على العقل السلفى لا يقصد به الدين، وإنما طريقة التفكير التى نتعامل بها مع الكون والحياة أى «الجانب المادى»، ومأزق العقل السلفى كما يقول الدكتور محمد السيد إسماعيل فى كتابه الأخير «نقد العقل السلفى» هو إن المسلمين عليهم «الاتباع وليس الإبداع»، أى اتباع الصحابة والسلف الصالح والابتعاد عن التأويلات الفلسفية والفكرية، والإبداع فى عرفهم بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار، ومن يبتدع أمرًا فهو مضلل أو كافر، خاصة وهم يؤمنون أن القرآن والسنة لم يتركا شيئًا من أمور المسلمين إلا وتناولاه!

والعبارة الأخيرة لها جاذبية وصدى عميق فى نفوس المسلمين وعقولهم، فمن يرفض أن يحوى دينه «كل شىء» فى الحياة والكون ولم يترك فيه شاردة ولا واردة، وقطعًا هى عبارة صحيحة لكن فى العقيدة وعلاقة الإنسان بربه والآخرين، لكن القرآن والسنة ليسا علومًا فى الفضاء والهندسة والمكانيكا وعلم النفس والإحصاء وجراحات نقل الأعضاء ولا برامج تشغيل الكمبيوتر ولا التعامل مع الكساد التضخمى ولا تطور نظم الإدارة العامة، لأنها أشياء متغيرة فكر فيها الإنسان واكتشف قوانينها لتدبير حياته وتسيير أموره بطريقة أسهل.

ويشك الدكتور محمد السيد إسماعيل فى قدرة العقل السلفى على صناعة نهضة وتحديث مجتمعه، لاسباب شرحها فى فصل بديع باسم «سؤال النهضة»، وقال: «إن العالم العربى منذ بدايات النهضة وجد نفسه وسط إشكاليات متعددة، فهو من ناحية لم يكن على وعى صحيح وكامل بتراثه الحقيقى، وعلى وجه الخصوص لم يكن على وعى بمواطن القوة والعقلانية والاستنارة فى هذا التراث»!!

عبارات فى غاية القوة، وقد تكون صادمة لأغلب المسلمين، فالمسلمون، وخاصة رجال الدين يتصورون أنهم يعرفون تراثهم حق المعرفة، ويستميتون فى الدفاع عنه ضد أى محاولات نقد وتمحيص أو حتى تفسيرات مختلفة، فمن أين أتى الدكتور محمد بهذا الرأى؟

يجيب الدكتور محمد: وصل هذا التراث مشوها، بعد كافة الانحرافات التى تعرض لها بداية من العصر الأموى، الذى ثبت وجوده بالغلبة الحربية، مرورا بالعصر العباسى والمملوكى والعثمانى مع استثناءات نادرة الحدوث لم تؤثر فى مسيرة هذا التشويه الجائر لأساسيات الرؤية الإسلامية الصحيحة، والأكثر خطورة هو النظر إلى هذا التشويه والانحراف على أنه من صحيح الدين.

وانتهى العقل السلفى إلى عدم الوعى بأساسيات الحضارة الغربية، لأن الغرب له وجه استعمارى شديد القبح، فلم يفرق بين هذا الوجه القبيح، والوجه الحضارى، فأخذ موقفا معاديا من الحضارة الحديثة باعتبارها دخيلا مهددا لهويته وثقافته الإسلامية.

بالطبع هذا الموقف كان بمثابة حائط صد تترست خلفه غالبية الأمة، فأهملت «جوهر» الحضارة الغربية فى النظام العام وإدارة المجتمع السياسية والمواطنة والعمل بالمعرفة.. إلخ، وراحت تندد بالوجه القبيح العدوانى وتشوهات العلاقات الإنسانية فى الغرب، صحيح أن قلة من الأمة كسرت هذا الحائط وعبرت إلى الحضارة الغربية، لكن لم تكن لها غلبة فى تشكيل عقل جمعى جديد يشد وطنها إلى عصره الحديث، فدامت سيادة العقل السلفى، قد يتوارى قليلا، قد يخفت صوته العام قليلاً، قد وقد وقد، لكنه يظل فاعلا فى الأزقة والحارات والشوارع والزوايا والمعاهد والدواوين والإدارة، ومع تدهور مستوى التعليم وسوء إداء الإعلام وتراجع الثقافة من قراءة ونشر وسينما ومسرح..الخ، هيمن العقل السلفى على المناخ العام، حتى بين المتعلمين الحاصلين على شهادات جامعية.

ولا يمكن أن نهرب من هذا الفخ إلا بصناعة عقل جمعى قادر على التفكير العلمى المنظم.