الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
السيدة العظيمة التى صنعت المعجزة

السيدة العظيمة التى صنعت المعجزة

لم تهبط الطفلة فاطمة اليوسف ذات الأعوام السبعة من باخرة رست فى ميناء الإسكندرية قادمة من بيروت فى طريقها إلى أمريكا مصادفةً، ولم تحتضن مصرُ هذه الطفلة وتسقيها من روحها لتصبح سيدة المسرح والصحافة لأربعين سنة مصادفةً..



كانت «فاطمة» ولها اسم دلع «روز» فى حاجة إلى مصر؛ لتعيد مصرُ تشكيلها وتعويضها عن حرمان وقسوة فى طفولتها.. وكانت مصر فى حاجة إلى «روز» لتكون مصباحًا منيرًا فى لحظات فارقة من تاريخها، وتساهم فى إيقاظ أهلها من سُبات طويل.

يقول بابلو كويلو الروائى البرازيلى الكبير فى رائعته «الخميائى»: «حين يريد الإنسان شيئًا بشغف ورغبة وإرادة نافذة يتآمر العالم لتحقيقه على أرض الواقع»..

نعم هذه هى فاطمة اليوسف السيدة العظيمة التى صنعت المعجزة.

حين جلست الفنانة روزاليوسف ذات مساء من أغسطس 1925 فى مقهى كساب بالقرب من ميدان الأوبرا، بين أصدقائها ومحبيها وهى تقول بطريقتها المميزة فى الحديث التى تمزج فيه بين الفن والحياة: «عايزة أعمل مجلة تهز الدنيا»، ربما لم يصدقها أحد!

والأرجح أن الجالسين تصوّروا أن سيدة المسرح المصرى صاحبة لقب «سارة برنار الشرق» تمزح، أو تُحَلق فى فضاء الخيال الرّحب؛ حيث يختلط الحلم بالواقع، كيف تصدر مجلة وكل ما فى حقيبتها خمسة جنيهات فقط، وقالوا فى سرهم: يبدو أن خيالها اشتط بعيدًا!

فعلاً كان خيال السيدة العظيمة جامحًا كسفينة فضائية لم يعرفها العالم بعد، مثال خيال فنانين عظام كـ«ليوناردو دافنشى»، وچون فيرن وهـ.چ ويلز، خيال فيه رؤية بالمستقبل قادرة على قلب الواقع وتغييره؛ خصوصًا إذا دعمتها إرادة لا تلين تجرف أى عَقبات أمامها.

تركت المقهَى وهم يضحكون وهى ساهمة تفكر فى التنفيذ السريع الذى لم يتجاوز ستة أسابيع فقط.

لم يكن صدور مجلة «روزاليوسف» هو المفاجأة لكل مَن لم يصدقوها فى ذلك المساء، ولا للجمهور الذى كان يستقبل مطبوعة جديدة كل بضعة أيام سرعان ما تختفى؛ وإنما فى اسمها، الذى أشبه بقذيفة تخترق حصون مجتمع، يتشبث بعادات بالية، وتنظم حياته تقاليد عتيقة، ويحيط نفسه بشبكة من الأفكار الشائكة التى تقيد المرأة، جارية فى الحرملك، أو مجرد معون للإنجاب فى ظل رجُل ولا ظل حائط.

كم كان صادمًا أن تحمل المجلة اسم امرأة، تحلم أن تصنع صحافة تهز الدنيا وتجبر الناس على التفكير بشكل مختلف عمّا اعتادوا عليه.

كانت السيدة روزاليوسف تتصور أن نشر الفن الرفيع بين المصريين هو طعنة نجلاء فى قلب فن شاع بين الناس، فن مشوّه فيه ترخص وعبث وسكارَى وأنصاف موهوبين، وكتابات نقدية لا تكشف حَسنات ومَثالب أى عمل، بقدر ما تفترس الفنانين حتى الجادين منهم.

لكن بعد صدور العدد الأول دون رقم توزيع يبرّر سبب وجود أصلاً، راحت السيدة «روز» تسأل نفسها بلا عناد أسئلة، ترشدها إلى إجابات تفك شفرة بلاط صاحبة الجلالة، فتدخل من الباب الواسع، أين الخطأ الذى وقعت فيه؟، لماذا جافها المصريون الذين يقفون طوابير أمام عروضها المسرحية؟، لماذا لم يقبل الناس على مجلة غلافها لوحة رائعة للفنان الإيطالى «تيسيان» من عصر النهضة الأوروبية؟، ما الذى باعد بينهم وبين الجَمال الكائن فى اللوحة فلم يلتفتوا إليها؟، كيف فشلت محاولة الزّج بالفن الراقى إلى عيونهم وأذواقهم؟

ولأنها اكتسبت روح بنت البلد وانصهرت فيها وبها، مع أنها لم تولد فى مصر، لكن مصر أمّ دنيا لها سحر الغوص فى أعماق من يهواها، فتشيع فيه حضارتها وعمقها، وضعت يدها على جرح المصريين الدفين، الجهل والمرض والفقر، إنهم يعيشون ظروفًا فى غاية القسوة، يقفزون خلف لقمة العيش النداهة بحثًا وتنقيبًا عن حد الكفاف وبعض الراحة، وفهمت أن الدرب الصحيح هو الناس أنفسهم، أن تكون منهم ولهم، إذن فلتحيل مجلتها إلى شعلة نار تبدد عتمة الاستبداد، وسيف فارس يطارد الظلم ويدعم العدل، وقلب مجتمع ينشد الصحة النفسية والعقلية، بعد طول تراجع وعلل وسلاسل أمسكت به، وانهكت قدراته على النهوض وملاحقه عصره.

أضاء عقلها فأدركت الواقع بعيدًا عن خشبة المسرح، وقررت أن تلبس مجلتها ثياب مقاتل.

كانت التربة صالحة للبذرة الوليدة والأسباب مهيأة لها، نحن فى منتصف العشرينيات، عقب ثورة 1919 التى ضخت دماء فتية عفية فى جسد الأمّة المصرية، البلد فى حالة مخاض، وإرهاصات على درب التحرُّر من الاستعمار الإنجليزى البغيض، والخروج من مستنقع القرون الوسطى الذى استقرت على ضفافه قرونًا، ثم الهجرة إلى عصر نهضة قوية، كان كلما لاح يوأد فى المَهد.

وتبدلت «روزاليوسف» المجلة من الفن إلى البشر المطحونين، أصبحت مثل أبطال الأساطير الإغريقية قدرها على كفها، تحارب من أجل المظلومين والمضطهدين والغلابة، تتقدم صفوف الحركة الوطنية منددة بالاستعمار الإنجليزى محرضة عليه، داعية إلى رحيله بغير رجعة، تصطف مع الناس فى مواجهة حكومات القبضة الحديدية وسياسات الرفاهية للأقلية، تنتصر للمُهمشين ضد الأقوياء، تدفع النساء لتغيير واقعهن المُزرى وصناعة واقع يليق بنصف المجتمع، أمهات وأخوات وزوجات وعمّات وخالات.. إلخ، لهن الحق فى التعليم والعمل.

ولأنها اختارت الناس؛ فكانت وحيدة لا يساندها حزب، ولا يمولها باشا، ولا يكتب لها الكُتّاب الذين ذاع صيتهم فى العشرينيات.

صارت صاحبة رسالة، من أهل الطريق، تبث الحب ضد الكراهية، التسامح ضد التعصب، الابتكار ضد التقليد، الشك ضد اليقين، الحوار ضد الطاعة، الحركة ضد الجمود، الاجتهاد ضد النقل، النور ضد الظلام، النوافذ المفتوحة ضد الأبواب الموصدة، والهواء النقى ضد الأنفاس المكتومة.

عاشت دور المَهدى المنتظر بالحروف والخطوط والرسوم والحبر المطبوع.

أثارت السيدة العظيمة ومجلتها المتمردة المتاعب للحكام، فهى تحلم بتغيير العالم ليكون أكثر عدلاً ورحمة، ألم تغيّر المسرح المصرى ليكون أكثر صراحة وحرية فلِمَ لا تفعلها فى الصحافة؟

لم يردعها أن تُسجَن فى الثلاثينيات وهى تخوض حربًا ضروس وتعرّى أقنعة فساد استشرَى فى حكومات أحزاب الأقلية، وطالبت بمحاكمة الوزراء الذين يسهلون عمليات التعاقد مع شركات أجنبية فى تنفيذ مشروعات قومية، بمواصفات أقل وأسعار أعلى، كما حدث فى مشروعات وزارة الأشغال العمومية؛ لتطوير نظام الرى فى مصر، ورفع كفاءة سد أسوان؛ بل ونشرت مجلتها قوائم المرتشين وأقاربهم والهدايا والمَبالغ التى اقتطعوها من لحم المصريين الحى، لم ترهب محمد محمود باشا رئيس الوزارة ولم ترهبها قبضته الحديدية، ولا القضايا التى رفعها ضدها وضد كاتبها الأول محمد التابعى، ولا مصادرته للمجلة.

لم تتراجع قيد إنمُلة ووصفت عهده بعهد تكميم الأفواه وتعطيل الصحف وكبت الحريات وتعطيل الدستور.

وحين وجدت أحمد ماهر باشا خلف القضبان فى محكمة باب الخلق مُعَلقًا فى رقابته جناية تكوين عصابة اغتالت السردار وغيره من الإنجليز، نزلت بنفسها إلى قاعة المحكمة لتكتب، وسخَرَت من القاضى الإنجليزى «مستر كروشو»، الذى كان يستميت فى إدانة المتهمين عنوة، وشبّهته بالمُمَثل بشارة واكيم فى دور لعبه على المسرح قاضيًا فى رواية ساخرة، وهاجمت شاهد الإثبات الأول «إنجرام» حكمدار بوليس الإسكندرية؛ لأنه لا يجيب عن أسئلة الدفاع باللغة العربية، لغة أهل البلاد وهو يتقنها، ويرد بالإنجليزية وهى لغة المُحتل تعاليًا وغطرسة.

ولم يردعها انقلاب الوفد عليها وأن يحرّض مؤيديه وأنصاره ليحاصروا مجلتها ويقذفوها بالطوب؛ لأنها أهاجت الدنيا فى فبراير 1942 على خنوع الوفد أمام رغبة الإنجليز، وقبول زعيمه مصطفى النحاس باشا رئاسة الوزارة، بينما الدبابات البريطانية تحاصر قصر عابدين، وتكسر أنف ملك مصر فاروق الأول، وتخيّره بين تسليم الوزارة للوفد أو النزول عن العرش.

ولم ترتدع أيضًا حين اُعتقل ابنها الوحيد إحسان عبدالقدوس وهو يعمل بكل طاقته؛ ليشق ثغرة فى حائط الاستبداد، يَنفذ منه نور الحرية إلى شعبه، ضاربًا عرض الحائط بالحياة المرفهة التى كان يمكن أن يتمتع بها، وقالت له: «أنت الآن نلت الوسام الذى يرفعك لتصبح رئيس تحرير روزاليوسف».

كانت تؤمن أن المصابيح المضيئة فى الشوارع والأزقة لا قيمة لها إلا إذا صمدت فى وجه الريح العاصفة، وأن الأفكار اللامعة لا تتوهج إلا بقدرتها على إزاحة العتمة، وأن العقول الحُرّة لا تُحَلق بمجتمعاتها إلا بتكسير القيود التى تشدها إلى الأرض.

كانت مصباحًا وفكرة وحرية، تلبّست كل مَن عرفها أو عمل فى مجلتها..

 حاولوا تحطيمها بالسجن والمصادرة ولم يفلحوا، حاولوا تشويهها فلم يفلحوا، فالأفكار العظيمة لا تبلى والفنارات المضيئة تظل مرشدًا فى العتمة مَهما مَرّ الزمان!