الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
وصايا طه حسين ويوسف إدريس للجمهورية الجديدة

وصايا طه حسين ويوسف إدريس للجمهورية الجديدة

جلستُ أحسب وأضرب أخماسًا فى أسداسٍ بحثًا عن إجابة لسؤال افتراضى اقتحم عقلى غازيًا همجيًا دون رحمة: ماذا يفعل الدكتور طه حسين لو أمد الله فى عمره إلى يومنا هذا وسمع أسباب الدكتور رضا حجازى وزير التعليم عن تقنين عمل مراكز الدروس الخصوصية، لـ«تكون عنصرًا مساعدًا وليس منافسًا للمَدرسة وحتى نضمن لأولادنا بيئة آمنة وتكلفة معقولة»؟



فى الحقيقة لم أعثر على إجابة شافية، ورجعت إلى كتاب الدكتور طه حسين الصادر فى عام 1938، أسترجع منه عبارة فى غاية الخطور قالها: «وننشئ لمصر الحديثة أجيالاً من الشباب كرامًا، أعِزاء، أباةً للضيم، حماةً للحرم، لا يتعرضون لمثل ما تعرّض له أجيالنا السابقة من الذلة والهوان». (وسبيل ذلك واحدة لا ثانية لها وهى: بناء التعليم على أساس متين).

السؤال مطروح على الأمة المصرية كلها، وعليها أن تفكر وتسترجع تجاربها وتجارب الأمم التى سبقتها إلى التقدم أو التى فى طريقها إلى التقدم: هل تقنين «السناتر» من أسُس التعليم المتين؟

شخصيًا؛ لن أتسرع فى الإجابة، ولا أنتم أيضًا، فهذا مفترق طريق، والمُضى منه إلى اتجاه سيحدد مستقبل هذه الأمة.. ولا مَفر من التروى والدراسة والتفكير العلمى المنظم قَبْل أن نجيب.

لكن قضية التعليم تدفعنا حتمًا إلى «الثقافة»، وتغرينا بسؤال مُلح آخر: هل يمكن أن نصنع تقدمًا سياسيًا واقتصاديًا دون ثقافة، وأعنى ثقافة عامة للمجتمع، وللعلم الثقافة أشمل كثيرًا من المعلومات وأَجَلَّ من الشهادات.

وقرّر صالون الجراح الثقافى أن يبادر ويحمل على كتفه السؤال المُلح، ويحاول أن يجيب عنه، فى ندوته الشهيرة بمكتبة مصر الجديدة العامة تحت عنوان «هموم ثقافية والجمهورية الجديدة»، وفعلها فى الأسبوع الماضى؛ كى تكون محاولته جزءًا من أچندة الحوار الوطنى، أو ليضع الحوار الوطنى «الهموم الثقافية» على قائمة أولوياته مثل موضوعاته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وربما تسبقها باعتبار أن «نوع الثقافة السائدة» فى المجتمع هو قوة دفع له فى جميع أنشطة حياته، فأى نوع نريد؟، وعلى رأى طه حسين « الثقافة والعلم أساس الحضارة».

والجراح هو الدكتور جمال مصطفى سعيد، أستاذ الجراحة بطب القاهرة، وفكر ومعه مجموعة من المثقفين المصريين المشغولين دومًا بما يجرى فى وطنهم؛ خصوصًا بعد 25 يناير 2011، وأسّسوا صالونًا يفتح أزمات الوطن ومشكلاته الآنية، عاملين على تنظيفها ووضع «روشتة» علاج لها، وكان طبيعيًا بعد أن ناقش فى ندوته السابقة بناء الوعى أن يستكمل أفكاره بـ«هموم الثقافة»، ودعا كوكبة من الشخصيات العامة: الدكتور نبيل حلمى أستاذ القانون، الكاتب المرموق أحمد الجمال، والمهندس موسى مصطفى موسى رئيس حزب الغد، والمذيعة اللامعة هالة أبوعلم، وغيرهم من الحضور، ومنهم اللواء طارق المهدى وزير الإعلام الأسبق.

من أول لحظة دار النقاش ساخنًا، نقاش أعادنا إلى كتاب الدكتور طه حسين الذى رسم فيه خريطة لنهضة حضارية مصرية، قائمة على بناء عقل ينتمى إلى الجزء الأوروبى من حوض البحر الأبيض المتوسط، دون الشرق البعيد.

وبالقطع تأخذنا القضية أيضًا إلى مقال شهير جدًا للدكتور يوسف إدريس «أهمية أن نتثقف يا ناس»، كان صرخة مدوية تحولت إلى كتاب صدر فى عام 1984، وقال فى المقال عبارة مفتاح يبدو أننا لم ننتبه لها وأهملناها فوصلنا إلى الحالة التى نحن عليها الآن: «الثقافة ليست مجرد تحصيل معلومات من كتب الثقافة؛ بل هى أساسًا جزء مكمل بالضرورة للتعليم، فتعليم بلا ثقافة لا يتعدى خَلق كائنات ميكانيكية لا تجيد إلا صنعة أو حرفة يد؛ بل حتى هذه الحرف دون عقل يحتوى الحد الأدنى من الثقافة يصبح صاحبها عاملاً معوقًا فى نفس صميم حرفته أو صنعته».

أليس هذا تفسيرًا وافيًا لسبب تراجع الأداء العام فى مهن كثيرة سواء كان صاحبها يمارسها بالخبرة والتجربة دون تعليم أو حاصل على أعلى الشهادات؟

وبالفعل اتفق الحضور بصالون الجراح الثقافى على أن الثقافة ليست ترفًا عقليًا؛ ولكنها ضرورة بشرية، تمامًا مثل الخبز والحرية، وهى التى تفرّق بين الإنسان العظيم والإنسان التافه؛ لأن الفارق لا يتجسد فقط فى الكم المضاف من معلومات إلى عقله؛ وإنما من قدرته على ترتيب هذه المعلومات، بحيث يستطيع هذا الإنسان أن يعتنق فلسفة خاصة ومنهجًا وقيمًا يزاول بها حياته ووجوده ويسعد به نفسه ومواطنيه.

الثقافة رؤية للحياة مستندة إلى تدريب العقل على الاختيار، ليس فى عمله فقط سواء كان حرفيًا أو مهنيًا، خفيرًا أو وزيرًا، ساعيًا أو رئيس مجلس إدارة؛ وإنما فى حياته الشخصية أيضًا مثل اختيار شريك الحياة، أسلوب تعاملاته مع الآخرين: الأهل، الأصدقاء، الرؤساء، المرءوسين، الجيران الأولاد، عموم الناس، وأيضًا فى الأشياء كالتسلية وقضاء الإجازات، عبور الشارع، استخدام الأدوات كالسيارة والأجهزة.. إلخ.

باختصار؛ الثقافة هى إدراك صاحبها بالبقعة التى يقف عليها والمحيط الذى يعيش فيه، فيختار الاتجاه الأقرب إلى الصحة لحركته.

وإذا أخذنا أوروبا الحديثة تجربة إنسانية فى كيفية الخروج من مستنقع القرون الوسطى إلى شمس التقدم، بغَضّ النظر عن أن غناها الفاحش قد بُنى على نهب ثروات الدول الأخرى الضعيفة فى إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية؛ نجد أنها عملت على صناعة ثقافة مختلفة، حتى إن المفكرين والكتّاب والموسوعات تصف عصر النهضة بأنه حركة ثقافية بدأت فى إيطاليا مع نهاية القرن الرابع عشر، وانتشرت فى كل أنحاء أوروبا فى القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وشكلت تيارًا كبيرًا رافضًا بشدة للقيم السائدة والمثل المعنوية والاجتماعية والسياسية المسيطرة على تصرفات أهلها.

أى كان مستحيلاً أن تطل أوروبا برأسها على العصر الحديث دون بناء «ثقافة جديدة»، وطبعًا هى أسّست جزءًا من هذه الثقافة على المنتجات المَعرفية للحضارة الإسلامية التى راح فيروس التآكل يضربها بشدة، وانهارت تمامًا حين استبدلت بـ«ثقافة العقل والنقد» ثقافة النقل والتلقين، وهى الثقافة التى لها الكلمة العليا حتى الآن.

كان واضحًا فى بناء ثقافة أوروبا الجديدة أنها مناهضة لسيطرة الكنيسة التى فرضت التخلف عليها، ولم تكن الثقافة الجديدة معادية للدين مطلقًا؛ بل كانت معادية لسطوة رجال الدين ماديًا ومعنويًا ودورهم فى حياة الناس، الدور الذى يبث قيم التخلف، والتشدد فى إبقاء الأوضاع على ما هى عليه، وقد أدرك مفكرو أوروبا فى عصر النهضة ومنهم متدينون كبار أن الثقافة الدينية عنصر من مكونات الثقافة العامة الجديدة وليست حاكمة لها؛ لأن الثقافة الدينية هى معرفة الناس بدينهم سواء كانت صحيحة أو مغلوطة، فإذا حكمت الثقافة العامة وقبضت عليها، برجال الدين الذين يعملون على حفظ مصالحهم ونفوذهم؛ فلا سبيل إلى أى تقدم.

وبينما كانت أوروبا تتخفف من أثقالها، كان الشرق العربى ينحرف إلى الطريق العكسى، وهو مضاد للعقل المسلم الذى كان متفتحًا نقديًا، ويناقش بحُرية قضايا فلسفية شديدة الوعورة، دون وجل أو مصادرة، ومن ثم سقط عقل المسلمين فى براثن التخلف ولا يزال عاجزًا عن النهوض.

إذن ونحن نبنى الجمهورية الجديدة؛ نحتاج إلى ثقافة جديدة، ثقافة أشبه بمحرك نفاث يشد المجتمع إلى الأمام ليكسر الصدأ العالق فى جنباته وأوصاله، وتجعل عقله قادرًا على التفكير العلمى المنظم، وتتيح له فرصة اختيارات صحيحة فى تعليمه وعمله وحياته الخاصة والعامة، ثقافة تكون المفاهيم الدينية مكونًا من مكوناتها المهمة محلقًا بها، دون أن تكون حاكمة كاتمة على أنفسها.

باختصار؛ الثقافة هى فتحة الشباك الذى نرى منه الحياة، وقطعًا الرؤية حسب مساحة هذا الشباك فى العقل، إمّا واسعة شاملة أو ضيقة محدودة.

والثقافة عمل دولة ومجتمع، مؤسّسات عامة وهيئات مجتمع مدنى، وليس عمل أفراد، نعم؛ الدولة هى صانع الثقافة الأول سواء بشكل مباشر أو بدعمها الكامل، وأدواتها التعليم والإعلام والفنون والكتاب العام، وإذا كانت الدولة تتحدث عن بناء الإنسان؛ فهى بالضرورة تتحدث عن ثقافته ونشرها عن طريق المَدرسة والفضائيات ودُور العرض المسرحية والسينمائية وقصور الثقافة ومراكز الشباب.. إلخ.

باختصار؛  نريد من الحوار الوطنى مشروعًا ثقافيًا شاملاً وخطط تنفيذه على أرض الواقع، ودون ثقافة داعية إلى التقدم وقيم العمل الجاد؛ فنحن فى مأزق مستمر.

هذا هى خلاصة مناقشات صالون الجراح الثقافى.