السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
المصريون.. وأوهام الضمير المأزوم!

المصريون.. وأوهام الضمير المأزوم!

بالمصادفة قابلتُ مجموعة من الأصدقاء لم نلتقِ منذ فترة، منهم رجال أعمال، ودبلوماسيون سابقون، موظفون عموميون كبار، ووزير سابق، وبالضرورة انتقل الحديث من الخاص إلى العام، من أحوال الأولاد والصحة وبدء الدراسة إلى الحوار الوطنى وارتفاع الأسعار والأزمة الاقتصادية.



وفجأة سألنى الوزير السابق: ما رأيك فى أزمة الضمير التى تنشب أظافرها فى جسد المجتمع؟

قبل أن أرد، راح يُعدد مَظاهر التحضر والسلوكيات العامة المنضبة فى دول أوروبية زارها، وكيف كل شخص يؤدى عمله على خير وجه، ولم يسمع عن قضية غش من تاجر صغير أو مغالاة فى أسعار مشروبات فى كافيه أو كافيتريا أو سوء أداء عامل أصلح شيئًا وتعطل بعد ساعات من عمله مع أنه أخذ أجرًا أكثر من حقه.

توسَّع الحديث، وتكلم آخرون عن شكل الشارع، وفوضى عبوره والزبالة والإهمال واللا مبالاة، والشتائم والسباب على السوشيال ميديا والتعصب الرياضى الذى يتورط فيه مذيعون ومقدمو برامج وضيوف ومسئولو أندية، عن الجهل وقبول الشائعات وانتشار الغيبيات، ثم لخص أحدهم حملة النقد والانتقاد فى عبارة واحدة «غياب الوعى والضمير».

لزمتُ الصمتَ ولم أعلق.

نظروا ناحيتى مستفسرين عن سبب سكوتى.

قلت: كلامى لن يعجبكم، وربما يغضبكم.. كلامكم يفكرنى بصحفى كتب قبل سنوات مقالا قال فيه إن مصر دولة رائدة وشعب متخلف وسوقى ومُهمِل وقذر ورخيص ومنافق، شعب يخاف ما يختشيش، شعب عدو نفسه وعدو بلده، مع أنه فى أى بلد يهاجر إليه ملتزم ومنضبط ومؤدب ونظيف.

أسرع أحدهم قائلا: كلامه صحيح مئة فى المئة.. إنها حالة سائدة.

سألت: هل تقصد أن هذه الحالة سببها «المادة الخام للمصريين» أى صفات چينية وراثية دائمة؟

أجابوا: قطعًا لا نقصد هذا، هذا سؤال عنصرى؟

قلت: البديل عن هذا السؤال العنصرى أن السبب هو صفات بيئية مكتسبة عارضة.

ضحَك رجل أعمال ساخرًا: أنت تهرب لعبًا بالألفاظ. 

قلت: ربما، لكن أى نقاش جاد وعلمى يبحث عن أصل الحكمة، والأصل فى أداة استفهام: لماذا؟، أى لماذا يتصرف المصريون سواء كانوا عددًا قليلا أو أغلبية على هذا النحو؟، أنتم لا تعرفون الناس، وتفسيركم للواقع الذى عددتم بعض مَظاهره وتريدون تغييره ليس دقيقًا وربما ليس صحيحًا بالمرّة، أنتم تحدثتم عن أعراض المرض، وحملتم المريض ما صنعته الفيروسات والجراثيم فى جسد، فهو مسئول عن السخونة والهلوسة والقىء والإغماء والنزيف، قد يكون مسئولا عن تأخر الشفاء بإهمال تناول الدواء والالتزام بتعليمات الطبيب.

ولكى نبسّط المسألة نعود إلى الكاتب الذى أهان المصريين فى مقاله، ونسأل: لماذا يتغير المصرى فى الخارج ويتصرف مثل أهله وليس بطريقته هنا؟

لسبب ساذج جدًا، هو القانون، سيجد القانون واقفًا على رأسه بسيفه، لا هزار ولا مهادنة ولا معلهش، المصرى مجبور فى الخارج على العيش كما يعيش أهل روما أو واشنطن أو لندن أو باريس أو طوكيو أو عمان أو الرياض أو دبى، إذا أراد أن يكمل مشواره فى هذه المجتمعات.

وأهل هذه المجتمعات أنفسهم مجبرون على ذلك، حتى اكتسبت تصرفاتهم سمات العادات الحياتية، فيفعلونها بتلقائية، ومَن يخرج عليها، لا يرحمه القانون.

الأوروبيون أو الأمريكان أو اليابانيون ليسوا طينة أخرى من البشر هم دخلوا فى «آلة النظام العام المنضبطة»، فالتزموا بأنماط عملها، وأى التزام تطول مدته يصبح عادة، وإذا غاب القانون أو توقف عن أداء عمله لأى سبب، يتصرفون على هواهم ويفعلون الأعاجيب، وقد حدث فى عام 2003 أن انقطعت الكهرباء على نطاق واسع فى نيويورك لمدة ساعات، فتضاعفت الجرائم والمخالفات ثلاث مرات فى ليلة واحدة.. نعم البشر يميلون إلى التسيب إذا أتيح لهم.

وفى مظاهرات السترات الصفراء فى فرنسا قبل أعوام حدّث ولا حرج عن تصرفات عشوائية وسلوكيات هابطة، كأن «مَظاهر التحضر» قشرة من الثلج لم تصمد أمام مَظاهر الفوضى الساخنة.

هنا نعود إلى السؤال التقليدى البديهى: لماذا صنع الإنسان السُّلطة؟، والسُّلطة فى تاريخ البشر ليس مجرد إخضاع الجماعة لمَن هو أشد قوة وبأسا بينهم؟، وإنما هى اختراع ضرورى لضبط تصرفات أفراد الجماعة الذين يعيشون على رقعة من الأرض وتنظيم الحياة اليومية بينهم: واجبات وحقوقا، وإلا اشتبك الأفراد حتى الموت كلما تعارضت مصالحهم.

السُّلطة رُغْمَ كراهيتنا لها فهى سبب نشوء المدنية والحضارة؛ لأنها نظمت حياة الناس ووفرت لهم استقرارًا وبيئة للعمل والنمو.. وكان الصراع الإنسانى دومًا بين توحش السُّلطة التى استحوذت بالدستور على العنف منفردة والحفاظ على حرية الناس وحقوقهم حسب القانون الذى ارتضته الجماعة.

باختصار؛ يصنع الإنسانُ النظامَ والسُّلطة والقانون ثم يخضع لها، وتعيد تشكيله وتدفع به للعيش فى مسارات محددة مرسومة إذا خرج عليها، يُعاقب وفق مواد موضوعه بالقانون.

وهذا يعنى لا وجود لشعب منضبط وشعب منفلت، شعب تجتمع فيه كل الخصال الحميدة وشعب يرث كل الصفات السيئة، فالفرد ابن نظامه العام وليس خارجًا عنه، فإذا كان النظام العام كفئًا وجيدًا، كان الفرد كفئًا وجيدًا، وإذا كان النظام العام فهلويًا، كان الفرد فهلويًا وأشد رداءة.

والنظام العام هو إداة المجتمع لإدارة حياته اليومية فى مختلف الأنشطة، بناء وتجارة وصناعة وصحة وتسلية وشوارع وثقافة ورياضة وفن وعلاقات اجتماعية..إلخ، أى إدارة الموارد والبشر بأفضل أساليب ممكنة، تستخرج من البشر أعلى مهاراتهم وإمكاناتهم، ليعملوا بكامل طاقاتهم البدنية والنفسية والعقلية، لرفع جودة الحياة طول الوقت.

النظام العام هو الفيروس وهو العلاج أيضًا..

والنظام العام فى مصر منذ حقب طويلة، قد تتعجبون لو قلت لكم إنه منذ بداية رحلة مصر إلى التحديث فى عصر محمد على باشا لم يعمل بالكفاءة التى تُحَلق بمصر فى مدارات أعلى كثيرًا مما كان أو تقدم إليها، وهو الذى عاق مصر من استكمال مشوار التقدم كما فعلت اليابان التى تأخرت تجربتها فى النهضة عن مصر بضع سنوات، كانت التدخلات الأجنبية والحروب عناصر إضافية وليست أساسية إلا فى حقبة الاحتلال البريطانى التى دامت 74 عامًا، والنظام العام فى السنوات الخمسين الأخيرة هو الذى سمح بالعشوائيات وسوء التعليم وفوضى الشوارع وإضعاف قيم العدالة.. إلخ، فمالت تصرفات الناس إلى هذا النحو، ربما تتحسن درجات أو تنخفض درجات حسب الظروف والأحوال ومستوى التعليم والثقافة، ولم يحدث أبدًا فى أى وقت أن تخلصت تمامًا من عيوبها التاريخية والموروثة.

والمصريون فى غاية النباهة، فإذا خالف الكبار قيراطا يخالفون هم 24 قيراطا، فإذا بنى شخص مسنود سكنًا عشوائيًا أو مخالفًا على النهر أو فى أرض زراعية أو فى أى مكان، فيهرعون إلى العشوائيات حلاً لهم، إذا تمكن مالك من تحويل جراچه إلى سوبر ماكت أو مخزن استولى صاحب المقهى أو الكافيه المقابل على الرصيف، إذا خالف الميكروباص قواعد المرور، فالفوضى ضاربة فى الشارع، وهكذا والسلوكيات مثل الفيروسات فى سرعة الانتشار المُعدى.

والعكس صحيح..إذا فرض النظام انصاعوا له كليًا، كما حدث فى السنوات الأولى مع مترو الأنفاق، ولا يزال إلى حد كبير، أو كما يحدث فى البنوك وبعض المؤسّسات.

أذكر وأنا طالب فى شبرا الثانوية فى السبعينيات، كانت المَدرسة فى غاية الفوضى، نزوّغ من الحصة الثالثة، ونهلل ونتعارك.. إلخ، ثم حين طبّق النظام بصرامة دون استثناءات، تحولت المَدرسة إلى ما يشبه الثكنة العسكرية ضبطا وربطا وعملا.

والمصريون حين يسافرون إلى الخارج سواء للعمل أو السياحة لا يتخلون عن هذه التصرفات على باب المطار أو الميناء قبل ركوب الطائرة أو الباخرة؛ وإنما ينتقلون بالإكراه من نظام عام يسمح لهم أو يتساهل معهم إلى نظام مختلف يفرض عليهم أدواته وأساليبه وعقله ونمط عدالته.

والمصريون خلال سنوات قليلة يمكن أن يتصرفوا بطريقة مختلفة فى الشارع والميدان والمقهى والشاطئ والمكتب والمصنع والورشة وكل شىء، والمسألة ليست صعبة ولا مستحيلة، فالضمير ليس مجرد أخلاق وقيمة فردية فقط وإنما بيئة وحالة اجتماعية أيضًا.

والناس لا تقود أنفسَهم، وليست وظيفتهم ولا يقدرون عليها لو أرادوا، فالمصالح متضاربة، وإنما بجماعة منهم تحدد المسارات والأهداف وتملك ملكات فرض الانضباط والضبط والربط بالقانون الذى رمزه السيدة معصوبة العينين التى لا ترى بشرًا وتزن العدالة بميزانها الحساس. 

الضمير والتحضر والوعى عناصر موضوعية يكتسبها المرء عبر خبراته وتجاربه، ولا يولد بها، فلا تهينوا عموم المصريين.