الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
يجب التخلص منه فورًا «عقلة الصباع المحشور» فى عنق التنمية!

يجب التخلص منه فورًا «عقلة الصباع المحشور» فى عنق التنمية!

كان لى صديق مسافر إلى الولايات المتحدة فى نهاية التسعينيات من القرن الماضى، فى برنامج تدريبى لمدة شهر منحة من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، أيام كانت العلاقات مع واشنطن سمنًا على عسل، كان الوقت صيفًا يشبه صيفنا هذا العام، الشمس تبخ صهدًا على رؤوس البشر طول النهار، الليل يعجز بنسماته أن يمسح بطراوته ما حفره الصهد فى النفوس، وكان الصراع على أشده فى المؤسسة التى يعمل بها صديقى.



 

 صراع فى القمة وتحتها، فردية وثنائية وجماعية، بكل الوسائل والأسلحة مهما كانت خستها، فاستدعاه العضو المنتدب الذى يحاول البعض أن يزيحه من منصبه، وسأله أن يلغى سفره.. فسأله بدهشة بالغة: لماذا؟

فرد السؤال غاضبًا: ألا ترى ما يحدث؟!..هل تتركنى فى هذه الظروف وتسافر؟

أجابه: لست طرفًا فى الصراع.. ولا أظن أن لى دورًا مهمًا فيه.

فقال: لا.. دورك مهم جدًا، أنت مدير لك كلمة وشأن.

رد: آسف..أنا مسافر.. هذه فرصة تدريب نادرة لا يمكن أن أدعها تفوتنى.

فقال: كنت فاكرك من «رجالتى»!

سأله بسذاجة واستغراب: هو «إحنا» شلة؟

واشتد الحوار.. وانتهى بسفر صديقى وقطيعة مع العضو المنتدب دامت فترة ليست قصيرة حتى انتقل إلى مؤسسة أخرى بمرتب أعلى.

 حين روى لى صديقى هذه الحكاية، بعد عودته من الولايات المتحدة، ظلت كلمة «رجالتى» تطن فى أذنى وتزن فى دماغى من آن لآخر كذبابة جبلية فى غاية الرذالة، ورحت أتابع وأسمع وأرصد حكايات عن ثقافة «رجالتى» فى مؤسسات ووزارات وهيئات، فهالنى وجود هذه الثقافة فى دولاب العمل بنسبة مؤثرة، ثقافة خطيرة أو عقلة صباع يقف فى عنق التنمية والرقى فى أى مجتمع، وأتصورها سببًا من أسباب ضعف الأداء العام والخاص فى جوانب من حياتنا، لأنها تئد كفاءات موهوبة قبل أن تنبت لها أجنحة وتحلق إلى فضاءات أعلى وتستغل كفاءاتها فى إحداث تطور أو نقلة نوعية ينقذ مؤسساتها أو يرفع من مكانتها أو يخفف من أزمات طارئة تلاحقها. 

ولكى نفهم المعضلة نسأل السؤال الصحيح أولاً: كيف يختار المجتمع كوادره فى أى مجال؟

الكوادر لها طريقان متوازيان أغلب الوقت متقاطعان أحيانًا.

 طريق السياسة.. وطريق الإدارة «المهنة»

تدخل كوادر السياسة إلى العمل العام من أبواب الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدنى والجمعيات الأهلية والنشاط العام، كالوزراء والمحافظين ورؤساء المدن والعمد ورؤساء النقابات المهنية والعمالية.. وتحكم الاختيارات معايير الانضباط والانتماء والسمعة السياسية والفهم العام والقدرة على وضع تصورات يحولها تنفيذيون إلى سياسات وبرامج تجد قبولًا عند الجماهير، والأهم أنهم يتمتعون بقدرات شخصية فى الاتصال بالناس والتأثير عليهم.

 ترتقى كوادر الإدارة أو المهنة فى سوق العمل من سلم الجامعات والمؤسسات التعليمية ومعاهد التأهيل والتدريب ومراكز البحث، وتتميز باكتساب خبرات عالية وتنمية الإمكانات الخاصة تخطيطًا وتنفيذًا وابتكارًا، كرؤساء المؤسسات والهيئات والشركات والبنوك والأعمال الفنية فى أى قطاع.

هذا هو الحال فى المجتمعات الغربية المتقدمة أو مجتمعات فى منتصف الطريق بين العالم الثالث والعالم الأول.

 فماذا عنا؟!

 غالبًا لأسباب تاريخية.. الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدنى هشة ومناعتها ضعيفة، قد تكون مظلومة فى جانب من ضعفها الدائم، فالنظام العام لم يسمح لها بولادة طبيعية منذ تأسيس أولها فى أوائل القرن العشرين، كالأحزاب التقليدية فى الدول الأوروبية مثل حزبى المحافظين والعمال فى بريطانيا، أو حزب نضال العمال والحزب الشيوعى فى فرنسا، بسبب تشوهات فى البنية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع المصرى ورثتها فى جيناتها الداخلية، ولم تمنحها أيضًا القدرة على الهروب من البرودة السياسية إلى دفء الجماهير، ناهيك عن تعرضها لأزمات وتقلبات وقوانين وسلاسل زادت الطين بلة، بالمناسبة الوفد القديم لم يكن حزبًا بالمعنى الصحيح، وإنما حركة تحرير وطنية تحولت إلى حزب شعبى انقسم مرات بسبب طبيعة التأسيس.

وكما قلت الأحزاب مظلومة نسبيًا وليس كليًا لأنها بالتدريج تواءمت مع التشوهات وتأقلمت مع الحالة العامة، وقبلت كل شروطها وعملت بها، والأخطر أن رجالها الكبار اكتسبوا كثيرًا من صفات السلطة المطلقة، وباتت ممارساتهم مقرونة بالسطوة والتحكم من أول احتكار المناصب العليا إلى التصرفات الطاغية التى قد تقسو على الأصوات المعارضة داخلة إلى درجة تهميشها وعزلها ثم طردها من جنة الحزب.

لم تحاول هذه الأحزاب أبدًا كسر الأطواق من خلال حركة منتظمة متصاعدة لا تتوقف، تستنهض بها همة شارع خامل بالسليقة لينضم إليها أو تنال تأييده ومباركته، ويبدو أنها لم تثق أبدًا فى قدرتها على تنشيط حركة الناس سياسيًا واجتماعيًا، واكتفت بجرائد وأحاديث فضائية وكتابات من بعيد لبعيد.

وحبذا لو أن الأحزاب القديمة قلبت تربتها بمحراث عصرى قوته ألف حصان بحثًا عن قيادات جديدة وشباب واعد، تحل محل الوجوه القديمة والملامح القديمة والعبارات التقليدية، التى تشبه أسطوانة مشروخة لعاشق خائب يكرر كلامه لكل امرأة يقابلها ولو بالمصادفة.

 وثقافة رجالتى أو «الشلة» مسألة معروفة فى العالم أجمع، لكن المفهوم مختلف تمامًا، فى الغرب يقصد بها جماعة فكرية أو سياسية لها رؤية مشتركة تعمل معًا على تنفيذها، ولا تتدخل فى حساباتها الولاء والطاعة والمحسوبية إلا نادرًا، لكن ما رأيته وتابعته كان أقرب إلى مفهوم التنظيم الخاص.. كلمة السر فيها الولاء أولًا وأخيرًا، بغض النظر عن الكفاءة.

وهؤلاء يختار منهم كوادر لوظائف معينة ومعاونون، وهم الذين يفرشون السجادة الحمراء أمام من اختارهم ويقودون أوركسترا التلميع اليومى وتلوين الحياة.

 قطعًا لكل قاعدة استثناء، لكننا نتحدث عن تيار مؤثر

 بالطبع نتشابه مع الدول المتقدمة فى بدء الطريق عند اختيار الكوادر الإدارية، لكن فى الدول المتقدمة يختفى إلى حد كبير عنصر الشلة ويحل محله قيم العلم والتدريب والكفاءة والقدرة على التطور والإبداع فى التفكير الضامن للتفوق، فيرتفع الأداء الإدارى العام إلى مستويات جيدة وجيدة جدًا، بينما يتخلل طريقنا مع امتداده تعرجات ومطبات وأكوام حجارة فى لعبة الشللية، عوائق «خبيثة» تُعطل منا كفاءات ومواهب كثيرة، ويحل محلها أصحاب قدرات متوسطة ومحدودة، وقابلت فى حياتى الصحفية التى جبت فيها البلاد شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، نماذج إدارية وصلت إلى الكراسى الفخمة بطرق لا علاقة لها لا بالكفاءة ولا بالمعرفة.

نفعل ذلك تحت شعار سخيف «ليس فى الإمكان أبدع مما كان»، وأذكر ذات مرة أن سألنى مسئول كبير فى منصب رفيع: هل تعرف من يصلح لمنصب «.........»؟

من فرط دهشتى انعقد لسانى، لأن رأيى مهم كان هو «شخصى» لا يستند إلى معايير علمية ومهنية لن تأتى على بالى، وهززت رأسى نافيًا.

نعم وصل الحال فى بعض المناصب أننا نفتش عن كوادرها كما لو أننا نبحث عن إبرة فى كوم قش.

وإذا كان الولاء وثقافة الشلة لهما أسباب ومنطق ومفاهيم فى عالم السياسة، بما فيها الدول المتقدمة شرقًا وغربًا لا يمكن تبرير ثقافة الشلة فى الإدارة خطأ فادح أن نقبلها، لأن عالم الإدارة هو عالم مال وسلع وخدمات ومكسب وخسارة مباشرة، لا دور فيه لإرضاء الجماهير بأى ثمن، وكسب شعبية، وبناء مساحات «حلول وسط» بين المصالح المتضاربة لطبقات المجتمع وجماعات الضغط فيه، والأخطر أن ثقافة الشلة فى الإدارة قد تسبب خسائر فادحة تشبه عمليات التخريب المتعمدة، فتفلس شركات وتغلق مؤسسات.. إلخ.

> قطعًا مفهوم «رجالتى» مفسدة عظمى فى الإدارة

وأتصور أن الحوار الوطنى فى ملف الاقتصاد عليه أن يناقش هذه القضية لأنها ثقافة مجتمعية، واضعًا سياسات صارمة فى اختيار الكوادر والكفاءات لكل الأنشطة العاملة فى مصر، الاستراتيجيات والسياسات العامة مهمة لكن تنفيذها على أرض الواقع أهم، أى نحن فى أشد الحاجة إلى كوادر مبدعة فى مراكز المسئوليات التنفيذية, ولا يمكن أن نحدث طفرة اقتصادية كبرى، وإصلاح هيكل الاقتصاد ونقله من اقتصاد ريع إلى اقتصاد/ صناعى منتج للسلع والخدمات دون هذه الكوادر.

نعرف أن هذا الإصلاح يلزمه بعض الوقت، ويمكن أن نبدأ بإعادة تدريب وتأهيل كل كوادرنا تدريبًا صحيحًا وتأهيلًا فنيًا رفيعًا وليس مجرد تستيف أوراق، ونضع مواصفات محددة معلنة لمن يصلحون للمناصب العامة والفنية فى مداراتها العليا.

 نعم نريد «توصيفًا دقيقًا» لكل وظيفة قيادية من أول رئيس القسم، ويكون مرشدنا الأوحد إلى اختيار الكوادر حتى أرفع المناصب.