السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
أزمة الدكتورة منى وإبليس المظلوم!

أزمة الدكتورة منى وإبليس المظلوم!

هذا حكم كان يجب أن تطرح أفكاره ومفاهيمه وفلسفته على الرأى العام، ويناقشه المجتمع بجدية، لا أعنى تأييد منطوق الحكم أو معارضته، فهذه قضية قانونية تفصل فيها المحاكم بدرجاتها المختلفة، والأحكام ساحاتها المحاكم وليس صفحات الصحف ولا البرامج ولا شبكات التواصل الاجتماعى، وإذا حدث فهذا نوع من الفوضى الخارجة على القانون.



 الحكم صادر قبل أيام من المحكمة الإدارية العليا برفض طعن الدكتور منى البرنس على عزلها من عملها أستاذة لغة إنجليزية بكلية التربية، جامعة قناة السويس، لأنها نشرت فيديوهات على صفحتها بالفيسبوك، وهى ترقص، وأصرت على تكرار النشر، بما يحط من هيبة أستاذ الجامعة ورسالته ومسئوليته، وخرجت على التوصيف العلمى للمقررات الدراسية وأذاعت أفكارا هدامة تخالف العقائد والنظام العام.

 الحكم ليس عاديا، بما له من مفاهيم مرتبطة بالأجيال الجديدة، التى أفردت لها وسائل الاتصال الحديثة مساحات هائلة من الحرية، حرية مكتوبة ومسموعة ومرئية غير مسبوقة فى التاريخ، ومهم جدا أن يتعرفوا على الشعرة الفارقة الغامضة أحيانا بين الحرية والفوضى، وهم يكتبون أو يتحدثون أو يصورون فيديوهات يذيعونها على شبكات التواصل الاجتماعى، قد تشكل أفكارا أو تشيع إحساسا أو تنشر قيما متضاربة مُربكة فى المجتمع!

وهذا حدث فعلا، وبان فى رد فعل قطاع من الناس، قارنوا بين عزل الدكتور منى البرنس نهائيا من التدريس الجامعى، وإيقاف أستاذ جامعى عامين لتحرشه جنسيا بطالبة، وتساءلوا: أيهما أخطر وأشد وبالا؟، أى أن المرأة فى الحالتين ضحية سواء كانت متهمة أو مجنى عليها.

هذه المقارنة تشى بسهولة قطع الشعرة الفارقة بين الفوضى والحرية، متصورين أن ما نقوله أو نفعله هو خصوصية وحرية شخصية، ولا يحق للمجتمع أن يحد منهما أو يتدخل فيهما طالما لم نرتكب فعلا يخالف القانون.

فعلا العبارة تبدو صحيحة، والسؤال: هل يتحرك المجتمع فى حياته اليومية بالقانون فقط؟، قطعا القانون هو الدرع والسيف لصيانة أعمدة المجتمع وحمايتها من التآكل، حتى لا تتهاوى وينزع أفراده تدريجيا نحو الفوضى والتدهور.

لكن أيضا يتحرك المجتمع تحت سقف عادات وتقاليد وقيم غير واردة فى قانون، ولها شرعية اتفاق الجماعة، حتى لو رآها البعض متخلفة أو رجعية أو بالية لم تعد تلائم عصرها أو متجاوزة ومال إليها جيل جديد متمردا على آبائه.

هذه العادات والتقاليد والقيم هى دوما محل صراع بين الأجيال.

فكيف يتعامل المجتمع لو خرج إنسان على هذه العادات والتقاليد حتى وصل الخلاف إلى القضاء؟ هذا بالضبط ما حدث فى قضية الدكتورة منى البرنس.. وهى ليست أستاذة جامعية فحسب، إنما كاتبة لها روايات ومترجمة وفنانة خزف أيضا.

وترجع أوراق القضية إلى خمس سنوات خلت، حين أحالت الجامعة الأستاذة إلى مجلس تأديب، ناسبة إليها عدة أفعال تراها مخالفات، لا يهمنا الانقطاع عن العمل فترة طويلة، فله قانون خاص وإجراءات واضحة، لكن يهمنا ما يتعلق بحرية التصرفات والفكر، حقها فى أن ترقص وأن تنشر هذا الرقص فيديوهات على الملأ، حريتها فى الحديث عن الذات الألهية والمعتقدات الدينية مع الطلاب بالحرم الجامعى.

 بالطبع اتفق مع الكاتبة وفنانة الخزف فى أن رقصها داخل منزلها ونشره حرية شخصية لا إساءة فيه لأحد. 

بالقطع الرقص ليس فعلا مشينا، ولا عيبا، ولا سلوكا يخجل منه الإنسان رجلا أو امرأة، وكلنا يرقص فى الأفراح والمناسبات أمام بعضنا بعضا، والرقص هو أول لغة عبر بها الإنسان عن مشاعره وهواجسه ومخاوفه، بل كان وسيلته الأولى فى طقوس العبادة، ولا يكاد يخلو جدران معبد فى الحضارات القديمة من الرقص طقسا دينيا.. وما زال.

لكن ثمة رقصا ليس هدفه التعبير عن المشاعر البريئة ولحظات الإنسان الخاصة، وهو الرقص الخليع الذى يشبه «التعرى» على قارعة الطريق.. بعضه يجرمه القانون فى أزياء الرقص أو الحركات القبيحة إذا كان عملا محترفا فى الملاهى الليلية، وبعضه تحرمه العادات والتقاليد، التى هى تختلف من مجتمع إلى مجتمع ومن زمن إلى زمن، وتختلف أيضا داخل المجتمع الواحد من بيئة وطبقة وطائفة.. إلخ.

لكن مع الدكتور منى أستاذة الجامعة.. قد لا نتفق.

أتصور أن الأستاذة الجامعية خلطت بين أمرين فى التصرفات الشخصية، الإنسان العادى والإنسان المسئول، بل ثمة فروق هائلة بين مسئول ومسئول راجعة إلى طبيعة الوظيفة، فالمدير غير الوزير، والوزير غير رئيس الدولة، والقاضى غير حاجب المحكمة، والراقصة غير أستاذة الجامعة.. إلخ. 

ناهيك عن أن التصرفات الخاصة لبعض أصحاب المهن لها تأثير فى المجتمع وتكوينه القيمى والثقافى والنفسى، كالمدرس، والطبيب وأستاذ الجامعة، والقاضى، وضابط الشرطة، مثلما حدث مع سانا مارين رئيسة وزراء فنلندا، التى قامت الدنيا ولم تقعد إلا بعد اعتذارها باكية لشعبها، عن رقصها فى حفل خاص مع أصدقائها، منشور على صفحات التواصل الاجتماعى.

نعم فى أوروبا وفى دولة اسكندنافية بلغت فيها حرية التصرفات الشخصية حدا عاليا، فما بالك بمجتمع محافظ كالمجتمع المصرى؟

ماذا نفعل لو رأينا قاضيا يتمايل بالعصى فى ملهى ليلى مع راقصة؟، هل هذه حرية شخصية لا تمس المجتمع؟

ربما لا تعجبنا الحالة المحافظة التى عليها مجتمعنا، ربما نراها سببا من أسباب تخلفه وتراجعه أو عجزه عن الخروج من أزماته، لكن علينا أن نتعامل معها، نعمل على تغييرها من داخله إذا كنا نرفضها، وليس بتحديها علنا إلى حد المبالغة، كأننا باستفزازه نجبره على التغيير، أو على الأقل نضع بذرة التغيير القيمى فيه!

وقد احترمت المحكمة مهنة الرقص وتطوره بين الشعبى والمسرحى والباليه والدرامى والتعبيرى، لكنها قالت إن «علانيته أى عرضه على المجتمع يُمارس داخل صالات مخصصة له، لكن لا يجوز لأستاذة جامعية أن تمتهن الرقص شعارا تدعو به الناس بحجة أنه مصدر للتفاؤل والأمل». لماذا؟

لما لها من دور مع طلابها وطالباتها.. وتأثيرها فيهم.

مؤكد أن الدكتورة منى لم تفرق بين كونها كاتبة ومترجمة وفنانة خزف وبين أستاذيتها فى الجامعة، وهى كاتبة مساحتها الخاصة أوسع كثيرا من مساحة الأستاذة، الكاتبة يمكن أن تعبر عن أفكارها ومشاعرها ومعتقداتها وتمردها بالكتابة والرقص والغناء والفيديوهات والأزياء، فالمسرح مفتوح والجمهور متنوع للغاية وليس مجبرا على التعامل معها، هو يختار ما تكتب سواء قبله أو رفضه أو أهمله، لكن الأستاذة الجامعية أمرها مختلف، المسرح قاعة علم جمهورها محدد للغاية، مجبر عليها واختياراته ضيقة حرصا على مستقبله، وقدراته على الأخذ والرد أضعف، والتأثير عليه سيكون حاد بين نقيضين، الانحياز التام أو التشدد المضاد، وكلاهما موقف عاطفى قد يأخذ شكلا ماديا فى التعبير عن نفسه.

باختصار لو كانت الأستاذة منى لا تعمل بالجامعة، ما وصل نشر رقصها إلى قاعة المحكمة، واقتصر على إثارة جدل ونقاش مجتمعى لفترة، قد يكون حادا، وهو المحتمل فى مجتمع محافظ وأكثره متزمت.

صحيح أن القانون يحمى الخصوصية، كما قال الحكم، لكن بشرط أن يظل صاحبها حافظا عليها بعيدا عن أعين الآخرين وفى نطاقها الشخصى، لكن إذا أعلنها على الملأ فقدت حياته هذه الخصوصية وحرمتها وحمايتها، وأصبحت مشاعا للناس جميع.

نذهب إلى الجانب الآخر فى تأييد عزلها، ونسبت لها أوراق القضية قولها لطلابها عن إبليس إنه تعرض للظلم، وأنه الشخصية الأفضل، فهو عبر عن إرادته بحرية ودافع عن اختياره بإراداته دون أن ينساق للتعليمات والأوامر كما فعل القطيع، وأن مسألة المصير الأخروى محل نقاش.

ودافعت عن نفسها، بأنها لم تكن تمدح الشيطان كشيطان، وإنما بصورته كما قدمها المؤلف، ولكن أقوال الشهود ردتها، ونسبوا العبارة إليها نَسَبًا مباشرا، وأنها نصحتهم بعدم الالتزام بالتقاليد وما تشمله من أديان، لأنها تؤدى إلى التخلف.

قطعا هى حرة كل الحرية فى رأيها ومعتقداتها، ولا تثريب عليها طالما ظل رأيها فى دائرتها اللصيقة بها، دون أن تتورط فى إعلانه بقاعات الدرس كما لو أنها تدعو إليه، وأصلا لا يصح أن تتحجج بالعلم والعقل لأنها ليست أستاذة فى الفلسفة، فالشيطان ومسلكه قضية معقدة فكرية، وكانت محط دراسات فلسفية متعمقة، تجادل فيها فلاسفة كبار فى عشرات الكتب على مدار التاريخ، لكن أن تتحدث عنه الدكتورة منى بتلك السهولة فى قاعة لتدريس اللغة الإنجليزية وآدابها، فهذه جريمة فكرية وإنسانية، وهناك فارق هائل بين محاضرة أدبية عن مؤلف إنجليزى كتب عن إبليس، تناقش فيها الدكتورة منى مع طلابها كيف تصوره المؤلف وعبر عنه، والأساليب اللغوية التى لجأ إليها ومفرداته.. إلخ، إما الحديث عن تصرفات الشيطان عند بدء الخلق وأسبابها وتفسيرها، فهذا درس فى الفلسفة، وقد لا تملك أدواتها، كما ينحو إلى التأويل الدينى لنص أدبى، وهو ما يناهضه الأدباء جميعا، ويعدونه عدوانا على حرية الفكر والتعبير.

ربما  تتذكر الدكتور منى قصيدة الشاعر العبقرى أمل دنقل «كلمات سبارتكوس الأخيرة» التى استهلها: (المجد للشيطان معبود الريح.. من قال لا فى وجه من قالوا نعم)، ومرت لأن المجتمع تعامل معها فنا، وليست دعوة لتمجيد الشيطان.

هذا حكم يستحق أن نناقش مفاهيمه وأفكاره على نطاق واسع.>