الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
كيف سقطت «سانا مارين» فى الفخ؟ رقص رئيسة الوزراء ودموعها!

كيف سقطت «سانا مارين» فى الفخ؟ رقص رئيسة الوزراء ودموعها!

بالطبع لم تتصور سانا مارين رئيسة وزراء فنلندا أن رقصها فى وقت فراغها مع بعض صديقاتها وأصدقائها المشاهير ممكن أن يراه مئات الملايين على شريط فيديو فى كل أرجاء المعمورة، وأن يكون حديث العالم لأيام، إلى الحد الذى طالبها كثير من مواطنيها بتفسير حالة النشوة التى كانت عليها وهى تتمايل ولا أحسن راقصة حرة فى ملهى ليلى، وتساءلوا: هل تعاطت مخدرات أوصلتها إلى الغناء والرقص الفاقع؟



لم تسكت رئيسة الوزراء، ولا تستطيع أمام إلحاح الرأى العام وملاحقته لها، فهى تعلم أنها تستمد شرعيتها وقوتها السياسية من مواطنيها، فخرجت عليهم والدموع فى عينيها الحمراوين، والكلمات تتدحرج من بين شفتيها بصعوبة: أتوقع منكم أن تقيموا عملى وعمل حكومتى، الشىء المهم هو بناء دولة أقوى، بدلا من تعقب ما أفعله فى أوقات فراغى، أنا إنسانة، أفتقد الفرح والنور والمرح فى أوقات العمل الشاقة المعتمة، إنها الحياة الخاصة، وبالرغم من هذا أنا أعتذر عن الصور التى لا أرغب أنا أيضا فى رؤيتها.

لم تكتف سانا بالكلام، بل تطوعت وأخضعت نفسها لتحليل المخدرات على حسابها الخاص، وعلى يد طبيب رسمى معلن، لتثبت للرأى العام خلو دمها تمامًا من أى مادة مخدرة.

أعادت حكاية رئيسة وزراء فنلندا طرح سؤال هبط على رأس العالم فى التسعينيات من القرن العشرين وزلزل مفاهيم قديمة كانت سائدة: هل ثمة حياة خاصة للشخصيات العامة؟، هل من حق الشخصية العامة سواء سياسية أو برلمانية أو رسمية أو فنية أو رياضية ..إلخ أن تفعل ما تشاء خارج الإطار العام، دون الخروج على القانون؟، هل يجب حماية هذه التصرفات من التلصص ومطاردة الإعلام لها؟

بالطبع يحمى القانون فى أى دولة فى العالم الخصوصية سواء لشخصيات عامة تدير ملايين البشر وتؤثر فيهم، أو للعاديين من البشر الذين ليس لهم فى الثور ولا فى الطحين، قانون فرضته كل الدساتير، لكن الواقع وتطور أدوات الاتصال والتوسع فى استخدام تكنولوجيا المعلومات، حطمت كل الأسوار والأسلاك الشائكة وجعلت العالم أشبه بشقة واسعة بلا جدران، وأخرجت لسانها لقانون الخصوصية.

باختصار بددت الحياة الإلكترونية على شبكات التواصل الاجتماعى خصوصية الحياة الواقعية وعرت كل أقنعتها، فأصبحنا نعيش فى عالم بلا ستائر ولا أسرار، وكل شىء على عينك يا تاجر.

وبالرغم من هذا ينسى المشاهير أحيانا من سياسيين ورياضيين ودبلوماسيين ونشطاء وفنانين وعاملين فى منظمات أهلية هذه الحقائق، ويسقطون فى الفخ، كما لو أنهم لا يعرفون طبيعة العصر الذى نعيشه الآن، فتطاردهم الفضائح والأزمات، أليس هذا ما حدث مؤخرا لثلاثة من الدبلوماسيين العرب تعرضوا للسرقة مع فتيات ليل وذاع العالم كله حكاياتهم العارية؟

ألم ينشر موقع ويكيلكس أدق الأسرار السياسية والمالية والخاصة لدول ورؤساء وملوك وأمراء وشهيرات قبل سنوات سواء سربتها أجهزة مخابرات أو غيرها؟

وفكرة هتك الأسرار العامة قديمة وترجع إلى زمن الحرب العالمية الثانية، وليست فكرة حديثة كما يظن البعض، وبدأها عالم الرياضيات الأمريكى «نويرت وينر»، وتقوم على صناعة مجتمع عالمى جديد يتمرد على العالم القديم، الذى اندلعت فيه حربان عالميتان فى 30 سنة فقط، عالم مفتوح تتدفق فيه المعلومات للجميع، ويسمح لكل البشر بأن يعرفوا - فى وقت واحد - ما يدور فى كراتهم الأرضية، وتتضاءل فيه فرص أى رئيس أو ملك أو زعيم أو ديكتاتور فى حجب أو التعتيم على قرار أو معلومات تمس مصالح الناس، فكل الشرور ترتكب باستبعاد الناس من حسابات صاحب القرار، وقد نجحت هذه الفكرة حرفيًا فى حرب فيتنام، إذ انسحبت القوات الأمريكية من العاصمة سايجون فى أغسطس 1973، وانتهت الحرب تمامًا، بعد أن عرف الشعب الأمريكى تفاصيل ما يجرى على بعد آلاف الأميال من العاصمة واشنطن.

كان الكمبيوتر والتوسع فى استخداماته هو آلة هدم العالم القديم وبناء العالم الجديد، عالم المعلومات ثم عالم المعرفة، أى لم يعد ممكنًا التعتيم على خبر أو حادث أو قرار، فالمعلومات تطفو على سطح أى مجتمع تلقائيا، بلا حواجز ولا رقباء، وباتت محاولة إخفاء معلومة أو حجبها تماثل حكاية النعامة التى تدفن رأسها فى الرمال، متصورة أنها بعيدة عن عيون الآخرين، مادامت لا ترى الآخرين، باختصار تلاشى الفاصل فى مسرح الأحداث اليومية بين صفوة المجتمع وجمهور المشاهدين وأصبح الناس العاديون سواء أرادوا أو لم يريدوا جزءا من العرض العام.

صحيح أن العالم الأمريكى نويرت لم يتصور وقتها وهو يكتب نظريته ويصمم أول حاسوب فى الأربعينيات، هذا الانفجار الهائل فى المعلومات، لينتقل هتك الأسرار من الشخصيات العامة فى السياسة والاقتصاد إلى عموم الناس فى كل جوانب الحياة، وخاصة المشاهير منهم.

كان القانون يحصر تعريف الشخصية العامة فى رجال الدولة والسياسيين والموظفين العموميين، أى كل من يؤدى عملا عاما فى المجتمع، لكن عالم المعلومات قلب هذا التعريف رأسا على عقب وتوسع فيه ليشمل «المشهورين» أيضا من الشخصيات الاجتماعية كالفنانين والرياضيين وكل من يتصدى لقضايا عامة فى البيئة والتغيير السياسى والدفاع عن حقوق الأقليات وحركات التمرد ونوادى المطلقات..إلخ، واستحدث التعريف المجتمعى الجديد شرطا أو مبدأ لم يكن موجودا من قبل، هو الشفافية فى السلوك والتصرفات، بحكم تأثير هذه الشخصيات على حياة الناس ماديا ومعنويا، وتدريجيا اختفى الخط الفاصل القديم بين التصرفات العامة والسلوكيات الخاصة لهذه النوعية من البشر، إذ يفترض أن يحكمهم قانون واحد، لا يعترف بأى مساحات مخفية باسم «الخصوصية»، وهذا منطقى للغاية لأن ما يدور فى الحياة الخاصة قد يتقاطع قسرا مع المسارات العامة فى ظرف ما أو توقيت ما، وقد يسبب هذا الخاص ضررًا بالغًا على عموم المجتمع، فالقيم لا تتجزأ والسلوك لا ينفصل، وتظل أخطاء الإنسان، لكونه إنسانا، إما أن تكون فى نطاق المقبول أو خارج هذا النطاق.

وقد انتبه العالم أجمع إلى انهيار هذه الخصوصية مع فضيحة الأميرة ديانا، حين ظهرت على شاشات التليفزيون فى تسعينيات القرن العشرين، واعترفت على الهواء بخيانتها للأمير تشارلز ولى عهد بريطانيا، وبعدها راح البابراتزى بكاميراتهم يطاردونها فى كل مكان حتى قُتلت فى حادث سيارة فى باريس مع صديقها دودى الفايد خلال مطاردة من هذا النوع.

ومع فضيحة الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون والفتاة المتدربة بالبيت الأبيض مونيكا لوبنيسكى سقط العالم القديم تمامًا، وانفجرت تساؤلات انشطارية ملحة فى أمريكا وخارجها: هل كان نشر الفضيحة الجنسية على هذا النطاق الواسع مفيدًا للرئيس والولايات المتحدة أم ضارًا بهما؟

فى البداية استغرب المجتمع الأمريكى من السؤال ولم يفهمه، فالتاريخ متخم بحكايات عن نساء فى حياة ملوك وحكام ورؤساء وزراء وشخصيات فاعلة فى مجتمعها و..و.. فما الجديد هنا؟

كان الجديد سؤالا افتراضيا: ماذا لو أرادت المتدربة مونيكا أن تبتز الرئيس مهددة إياه بفضح علاقته غير المهذبة معها؟، ماذا لو طلبت منه أن يعين شخصا قريبا منها فى وظيفة حساسة لغرض فى نفسها.. إلخ؟

أدرك المجتمع لأول مرة أن ذيوع الفضيحة على الملأ حماه من الابتزاز المحتمل ومن دفع ثمن نزوة رئيس من أمنه وسلامته.

وفسروا سقوط حماية الخصوصية بأن الشخصيات العامة، أيا كان مسرح الأحداث الذى يؤدون عليه أدوارهم اليومية، هم الذين اختاروا الطريق العام والدوران فى الأفلاك السامقة بملء إراداتهم، سواء كان ذلك للخدمة العامة أو حبا فى حياة النجومية وفلاشات المصورين وكاميرات التليفزيون، وبالتالى فقدوا حقهم فى التباكى أو الشكوى من ملاحقة الصحافة والإعلام لهم، فالضرورة هنا تبيح المحظورات، وبات إعلام الناس بما يفعله هؤلاء «النجوم» فى غاية الأهمية، حتى يتاح للجمهور أن يأخذ قرارا بشأنهم، إما أن يسمح لهم بالاستمرار فى حياته وقيمه ومصالحه أو يبعدهم عن مواطن التأثير فى تلك الحياة.

وبالطبع مع اختراع الفيس بوك والتويتر واليوتيوب..إلخ انهارت الخصوصية حتى للناس العاديين بدرجة كبيرة، فالمعلومات متاحة عن حياة أى إنسان، عمله، أفكاره الداخلية، علاقاته الخاصة، هواياته، مشترياته، مشكلاته، طريقة تفكيره، أصحابه..إلخ. ويمكن أن نصف وسائل الاتصال الحديث الآن بأنها برلمان العالم الجديد، سوق حرة للأفكار والمعلومات والشائعات والفضائح والأكاذيب وما أكثرها.

لكن معظم القوانين فى الدول العربية لا تعرف كيف تتعامل مع هذا العالم الجديد، ومازالت على تعريفها القديم للشخصية العامة، فانتشرت ظاهرة جديدة اسمها «التسريبات»، أى نشر الأحاديث المباشرة أو المكالمات التليفونية، أو السلوكيات الخاصة على الهواء للنجوم، ولا يكاد يمر يوم واحد دون تسريب جديد عن شخصية معروفة.

الفارق ولا واحد من هؤلاء اعتذر مثل سانا مارين رئيسة وزراء فنلندا، وبالمناسبة هى من مواليد عام 1985.