الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الدولة والقانون السيد  والوساطة المتأخرة!

الدولة والقانون السيد والوساطة المتأخرة!

ربما سوء فهم منى أو حالة من الغباء ضربتنى فجأة، فلم أستوعب بيان وزارة العدل الذى ردت به على سجالات مشتعلة على صفحات التواصل الاجتماعى، تمس الأحكام القضائية وتنفيذها، رحت أقلب البيان يمينًا وشمالاً، شرقًا وغربًا، لعلى أفك سوء فهمى أو سبب غبائى المؤقت، فلم أفلح فى إدراك حيثياته ومراميه، ولم أصل إلى الهدف من إصداره أصلاً.



أولاً.. لم يحدد بيان الوزارة أى أحكام قضائية يقصد، والتى جرت السجالات بشأن تنفيذها، فبدت الكلمات غامضة مائعة يمكن أن تقال فى أى وقت وأى زمان وأى سجالات، لكن لو نظرنا حولنا وسألنا أنفسنا عن القضايا التى أثارت الرأى العام مؤخرًا، وتساجل الناس حولها، لن نجد سوى ثلاث، قضية فتاة المنصورة التى ذبحت على باب الجامعة، وقضية المذيعة التى قتلت فى مزرعة بالبدرشين، والقضيتان صدر فيهما حكمان بإدانة المتهمين، وإحالة أوراقهم إلى المفتى، ولا سجالات حول تنفيذ الحكمين، فالمتهمون بالفعل فى قبضة الشرطة ومحبوسون، يبقى الحكم الثالث، وهو الخاص بالأستاذ مرتضى منصور رئيس نادى زمالك، بحبسه شهرًا مع التنفيذ، مدانًا بسب وقذف الكابتن محمود الخطيب رئيس النادى الأهلى، وهو الحكم الذى لم ينفذ بعد!

صحيح أن قضايا السب والقذف من شيوعها فى المجتمع، بسبب انفلات الألسن دون ردع، صارت من القضايا العادية التى لا تثير جدلاً كبيرًا، ولكن لكون هذه القضية وهى واحدة من بضع قضايا بين رئيسى أكبر ناديين فى مصر، بما لهما من شعبية وانحيازات، قفزت من مربع «العادى الهادئ» إلى مربع الرأى العام الأكثر صخبًا.

لكن السيدة معصوبة العينين المنحوتة على جدران المحاكم لا ترى شعبية ولا رؤساء أندية ولا حيثيات اجتماعية ولا مناصب نافذة ولا مراكز ضاغطة ولا مناصب داعمة، فالمواطنون بلا استثناء أمامها سواسية أو يفترض أن يكونوا كذلك، وعلى المصريين كافة أن يحترموا الأحكام الصادرة من قاعات المحاكم احترامًا مطلقًا، إذا أرادوا أن يعيشوا آمنين فى وطن مستقر تحت سقف القانون، وإلا ضاعت قيمة القانون واهتزت العدالة، وإذا اهتزت جدران العدالة، فأهل البيت جميعًا مهددون بالنوم فى العراء بلا مظلة.

واحترام القانون هو تنفيذه بصرامة وحرفيًا، وليس بالكلمات والإشارات والتلميحات والثرثرة وإلا ضحكنا على القانون وحولناه إلى مسخة أو نكتة.

إذن.. يخيل لى أن المقصود بالسجالات حول الأحكام القضائية وتنفيذها، هو هذا الحكم الذى أكسبه أطرافه سرعة دوران فلكية بين الناس، فعطلت عمل قانون الجاذبية فلم يثبت على أرض الواقع كبقية الأحكام وهى بمئات الآلاف سنويًا، وحلق فى فضاء المجتمع معلقًا على رأسه.

هنا كان يجب على بيان وزارة العدل أن يتسم بالمباشرة والقطع، خاصة أن السجالات مست طبيعة الحكم وإجراءات تنفيذه أو إيقاف تنفيذه أو تبعات الطعن عليه وكيفيته، أى أن السجالات انتقلت من حوار عادى إلى جريمة يُعاقب عليها القانون، والجرائم لا تَرد عليها بيانات فضفاضة ألفاظها مشاع من عينة (وتدعو وزارة العدل أطراف القضايا ومتابعيهم إلى ضبط الألفاظ والالتزام بالتناول الموضوعى فى الإطار القانونى لتلك الأمور حتى لا يتعرض المخالف إلى المساءلة الجنائية المقررة لمواجهة مثل هذه الجرائم).

إذن الوزارة رصدت فى السجالات ألفاظًا غير منضبطة تمثل جريمة لها توصيف قانونى دقيق أشارت إليه بكلمات محددة، فهل يعقل أن يطبطب بيان وزارة على الفاعلين ناصحًا إياهم: لا تفعلوها مرة أخرى؟!

أتصور أن وزارة العدل تعرف تمام المعرفة أن هيبة القانون تستمد من صرامته مع كل الجرائم والمخالفات دون تفرقة أو تهاون مهما صغر شأنها أو تضاءل حجمها، وإلا أباحت التجرؤ عليه، فهل ما حدث من جرائم بلطجة قبل مباراة الأهلى والإسماعيلى دليل على ذلك؟

وأصعب ما فى البيان أنه حدد بعضًا من المشاركين فى هذه السجالات وهم «أطراف القضايا»، ولو فسرنا العبارة تفسيرًا صحيحًا، سنجد أن البيان يقول باختصار أن أطراف النزاع هم الذين شقوا الطريق ومهدوه للسجالات، فانتقلت تلقائيًا طبيعيًا إلى شبكات التواصل الاجتماعى بحكم طبيعة العصر الذى أزال الأسوار والجدران بين الشارع والفضاء الإلكترونى، أى أن طرفًا فى القضية سعى سعيًا مقصودًا إلى نقل الحكم من قاعة المحكمة إلى الشارع الرياضى المتعصب، ويرى فى توريط الرأى العام مصلحة مباشرة له سواء كان المدعى أو المدعى عليه أو كليهما، أى نحن أمام تلاعب متعمد بأحكام القضاء، لا يصح أن ترد عليه وزارة العدل فى بيان ونصيحة.

كان أمام وزارة العدل خياران، إما أن تعلن صراحة طبيعة السجالات والقضايا المتعلقة بها، وتلجأ إلى القانون ضد الذين صنعوا هذه السجالات بالأسماء والأدلة، وإذا كانت تجهل الأسماء، تقدم بلاغًا إلى النائب العام مصحوبا بالوثائق والقرائن من فيديوهات وصفحات فيسبوك وتويتر ومواقع إلكترونية طالبة التحقيق فيها، وإحالة المتهمين الذين تحددهم النيابة بما يتوافر لها من أدلة إلى المحاكم المختصة، خاصة أن كل شبكات التواصل الاجتماعى مدون فيها كل شىء باليوم والساعة والدقيقة والثانية، ثم تصدر بيانًا بما اتخذته من إجراءات قانونية، وتنصح فيه التابعين لأطراف النزاع والمواطنين بعدم التورط فى هذه السجالات حتى لا يقعوا تحت طائلة القانون.

لكن الوزارة اكتفت بـ«بيان التهديد بعد الجريمة والنصيحة».

هذا عن البيان.. فماذا عن قضية السب والقذف نفسها؟

ضجة وضجيج وتغول وحروب كلامية أفسدت على المصريين حياتهم، وشعر كثير منهم بالقلق الشديد وتساءلوا: كيف جاء يوم على مصر أقدم دولة فى التاريخ أن يقف المجتمع كله على قدم وساق، ويدور حول نفسه كأنه فى متاهة، تضربه البلبلة والشك فى عدالة القانون بسبب تنفيذ أو عدم تنفيذ حكم نهائى صادر من المحكمة ضد رئيس نادى الزمالك؟

طبعًا علينا جميعًا أن نشعر بالقلق وأن نخاف أيضا، ونسأل أنفسنا والدولة: ما هذا الذى يحدث؟، والمسألة ليست تنفيذ الحكم أو عدم تنفيذه، فما أكثر الأحكام التى لا تنفذ لأسباب متنوعة مثل هروب المتهمين خارج البلاد أو داخلها أو بساطة الحكم بغرامة محدودة، ولكن لأن «اللغط الصاخب» حول الحكم دهس فى طريقه معنى سيادة القانون، خاصة بعد أن حولوه إلى مسلسل فضائى.

ومعروف أن أى متهم مدان بحكم نهائى ليس أمامه إلا محكمة النقض وليس شاشات التليفزيون وعلى اليوتيوب، فالقانون يمارس أمام القضاة والنيابة والخصوم فى قاعات يتوافر لها قواعد ولوائح، ولا يمارس مطلقًا أمام العامة الذين يجهلون ألف باء الإجراءات والمصطلحات.

ولا يجوز أيضًا للمدعى أن يفعل نفس الشىء عن كيفية تنفيذ الأحكام.

تبقى محاولات الصلح بين أطراف الحكم، والصلح خير، لكن محاولات الصلح العرفية بعد صدور الأحكام النهائية فيها استخفاف بالقانون، ماذا يعنى ضياع مئات الساعات من العمل والجهد فى النيابة والمحاكم والأموال المصروفة عليها من أموال الشعب بلا طائل؟، نفهم والمجتمع معنا كله أن أى صلح يمكن أن يتحقق مع أول بلاغ إلى النيابة أو عند رفع الدعوى القضائية، وتمتد المحاولات خلال جلسات المحكمة، أو فى الفترة ما بين حكم أول درجة والاستئناف، أو خلال النظر أمام محكمة الاستئناف، وتكون المحاولات جادة وعلنية ولها ملامح مجتمعية، وإذا فشلت المساعى يخرج بيان إلى الناس بالأسباب ليعرف الرأى العام من المسئول عن فشلها.

لكن أن يلزم الجميع الصمت، ويتجاهلوا الأمر، فترتفع وتيرة الألفاظ الصعبة وتصل إلى درجة اتهامات مخلة بالشرف والأمانة والنزاهة لمدة تزيد على ثلاث سنوات، وحين يصدر الحكم النهائى تبدأ الضغوط والمناشدات للتنازل، شىء مدهش حقًا فقد كانوا يستطيعون وقف كل هذه المهزلة فى بدايتها، ولم يفعلوا، كما لو أن الجميع بارك هذا التلاسن الوقح، فسمحوا بالتأويلات والتفسيرات والشائعات القبيحة، وهذا أدعى إلى الخضوع التام للقانون، حتى نسد هذا الباب الردىء تمامًا.

وليُتْرك الأمر لمحكمة النقض، لتصدر حكمًا باتًّا، لكن بإجراءات قانونية سليمة.

القانون السيد هو حامى الأمم وصانع الاستقرار.