الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الحقيقة مبدأ.. البيان

الحقيقة مبدأ.. البيان

لم تشعر الكاتبة بحُريتها المعهودة عند كتابة هذا المقال على عكس كل السابق عليه قد تعلمت على يد الأساتذة الكبار أن لكل حرف وزنًا ولكل كلمة مسؤليتها؛ فحرصت دائمًا على التفكير بإمعان فى أى موضوع تكتب ولأى قارئ تتوجه.. أمّا ونحن هنا على أعتاب احتفالنا التاسع بثورة وطن وإرادة شعب.. لا تجد الحيرة منفذًا لعقل الكاتبة بل وجد القلب له متسعًا من التعبير عن ذكريات لا تستطيع نسيانها ليس فقط لارتباطها بكل مواطن مصرى بل لأنها مرتبطة بابنها الأكبر الذى كاد يفقد حياته فى صبيحة أو نهاية كل يوم عاشته مصر مطوقة بنير الجماعة ومكبلة بقيود التطرف ومهددة بحراب الإرهاب. 



 

عاشت الكاتبة فى طفولتها مَشاهد متناثرة لا تكاد تتذكرها من ثورة يوليو إلا أنها تفخر بكونها نشأت وعاشت شبابها الأول فى ظل حُكم جمال عبدالناصر حتى مع معاناة الانكسار والنكسة والهزيمة ظلت مؤمنة بالحلم واستقرت على دراسة التاريخ فى الجامع علّ أن تلتمس طريقًا للنهوض بعد كبوة؛ مليئة بالأمل أثناء حرب الاستنزاف ثم آلام الفقد بعد وفاة الأب وبعده مات ناصر!!

علموها فى «روزاليوسف» أن الحلم لم يمت وأن الأمل باقٍ وأن الصامت جبان والجبان شيطان ومن وقتها منذ 50 عامًا مضت لم تصمت الكاتبة على باطل ولم أسكت عن قول الحق مَهما كانت الكلفة باهظة.. دُفعت الأثمان للصامتين الساكتين ودَفعت الكاتبة ثمَن الحق فى زمن رأته باطلاً؛ يكبر الابن بين العمالقة وعشاق الحرية وحراس بوابات الوطن فهؤلاء كُتّاب ومفكرون وهؤلاء ضباط أحرار ومحاربون.. ينظر ويتابع ويقرأ ويفكر ويتناقش ويحب الوطن.

ذهب من ذهب وجاء من جاء وفى النهاية ذهب وعمّت الثورة أرجاء البلاد ثم جاء الإخوان رابضين على صدر مصر مانعين عنها الهواء والنور ينشبون المَخالب فى الجسد ويغرسون الأنياب فى الرقاب ليقتاتوا على روح الوطن؛ ويعلو صوت الابن رافضًا ويتحرك مع الرفاق؛ وتراه الإمام على الشاشات وتسمع صوته عبر المذياع يهاجم ويقاتل لأجل الوطن؛ تتملكها الحيرة فعاطفة الأم أقوى: 

 هى «لست أنت من سيغير الواقع».

هو «لست وحدى.. نحن سنغير الواقع».

هى «ستقتلون».

هو «مش مهم».

هُدّد الابن بالقتل وصدرت ضده قرارات الضبط والإحضار والتآمر لقلب نظام الحُكم ويهرب الابن من المنزل ثم يطلب من كاتبة المقال أن تنتقل من منزلها للحياة ولو مؤقتًا فى أحد الفنادق القريبة ويُهرّب الابن يوميًا لمدينة الإنتاج الإعلامى حتى يعلو صوته بالكلمة.. بالحق والعدل والحرية وتمر الأيام ثقيلة مُحملة بالعنف والدم والخوف ويسقط عليها الظلام مبددًا كل نور.

صبيحة 30 يونيو 2013 جلست الكاتبة لتناول الإفطار فى الفندق وتأخذ العهد والميثاق على ابنها ألا يشارك فى المظاهرات.. كفاه ما يتحدث به جهرًا على الشاشات أو ما يكتبه من مقالات وكعادته يبتسم ويهز رأسه إيجابًا قائلاً «طبعًا.. ما تقلقيش.. مصر فيها اللى يحميها» ويذهب وبعد أقل من ساعة أجلس لمشاهدة الأخبار عبر الشاشات فأجده متصدرًا المظاهرة الكبرى وفى الصف الأول وبينما تتسارع دقات قلبى أسمع صوت (حلمى الجزار) القيادى بالجماعة وهو يضحك مع رفاقه على المائدة المجاورة وهو يقول:

«فاكرين إنهم هيعملوا حاجة وإن فى حد يقدر يحميهم.. هيتقبض عليهم كلهم ومش بعيد نخلص منهم خالص».

روحى تكاد تخرج من جسدى وأنا أسمع هذه الكلمات.. أتصل بابنى تليفونيًا فيجيب.. «ما تقلقيش.. ثم انتى اللى علمتينى ما اسكتش.. ما تخافيش»! 

أضع الهاتف المحمول أمامى وأنتظر ولا أعلم ما الذى أنتظره؛ أهو خبر عن مقتله أمْ القبض عليه أمْ أنتظر عودته، ولا يعود إلا مع الساعات الأخيرة بعد منتصف الليل. بقدر الإنهاك الواضح عليه بقدر سعادته وهو يقول: 

«شوفتى الناس أد إيه.. شوفتى مصر بتعمل إيه؟ النهاردة أعظم يوم فى حياتى».

لكنه لا يستطيع أن يخفى قلقًا وتوترًا واضحًا وتفضحه عيناه..

ويزيد خوفى وأسأل:

وبعدين هتعملوا إيه؟

يرد: «هنشوف.. ربنا كبير وأملنا فى الجيش». 

يومان ثقيلان ويأتى الثالث بعد انتظار وكأنه كل الزمن وأنا لا أتوقف عن مشاهدة الأخبار ومتابعة كل التفاصيل وأى تفاصيل مَهما بدت صغيرة وعند المساء وقبل نهاية نهار 3 يوليو بقليل صدر البيان.

بيان قرأه وزير الدفاع آنذاك المشير عبدالفتاح السيسى.. بيان حماية الجيش للشعب والوطن.. بيان الانحياز لمَطالب الجماهير.. بيان الخلاص.. وفى قلب الكاتبة بيان بقدر ما كَتَب عُمْرًا جديدًا للوطن بقدر ما كَتَب عمرًا جديدًا لابنها يوسف.